تفسير القرآن
آل عمران / الآية 161

 الآية 161

الآيــة

{وما كان لنبيّ أن يغُلَّ ومن يغلُل يأتِ بما غلَّ يوم القيامة ثُمَّ توفَّى كلُّ نفسٍ ما كسبت وهم لا يُظلمون} (161).

* * *

معاني المفردات:

[يغُلَّ]: يخون. وأصل الغلول ـ كما يقول صاحب المجمع ـ من الغلل، وهو دخول الماء في خلل الشجر، يُقال: انغلّ الماء في أصول الشجر، والغلول، الخيانة لأنَّها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل كالغلل، ومنه: الغليل: حرارة العطش, والغلّة: لأنَّها تجري في الملك من جهات مختلفة، والغلالة: لأنَّها شعار تحت البدن[1].

مناسبة النزول:

جاء في أسباب النـزول ـ للواحدي ـ عن ابن عباس قال: فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين، فقال أناس: لعلّ النبيّ(ص) أخذها فأنزل اللّه تعالى: [وما كان لنبيّ أن يغُلَّ]. قال حصيف ـ وهو الراوي عن عكرمة عن ابن عباس ـ قلت لسعيد بن جبير: وما كان لنبيٍّ أن يُغلَّ. قال: بل يُغَلَّ ويُقتل[2].

وعن مجاهد عن ابن عباس أنَّه كان ينكر على من يقرأ [وما كان لنبيٍّ أن يغُلَّ] ويقول: كيف لا يكون له أن يغلّ وقد كان يُقتل؟ قال اللّه تعالى: [ويقتلون الأنبياء]، ولكنَّ المنافقين اتهموا النبيّ (ص) في شيء من الغنيمة، فأنزل اللّه عزّ وجل: [وما كان لنبيّ أن يغُلَّ][3].

وروي عن وكيع عن سلمة عن الضحاك قال: بعث رسول اللّه (ص) طلائع، فغنم النبيّ(ص) غنيمة وقسّمها بين النَّاس ـ ولـم يقسّم للطلائع شيئاً ـ فلمّا قدمت الطلائع، قالوا: قسّم الفيء ولـم يقسم لنا، فنـزلت: [وما كان لنبيّ أن يغُلَّ] قال سلمة: قرأها الضحاك يُغَلَّ. وقال ابن عباس في رواية الضحاك: إنَّ رسول اللّه (ص) لما وقعت في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّه رجل بمخيط، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، وقال قتادة: نزلت وقد غلّ طوائف من أصحابه. وقال الكلبي ومقاتل: نزلت حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلباً للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول رسول اللّه(ص): من أخذ شيئاً فهو له، وأن لا يقسم الغنائم كما لـم يقسم يوم بدر، فقال النبيّ(ص): ظننتم أنّا نغلّ ولا نقسم لكم؟ فأنزل اللّه هذه الآية[4].

وقيل: نزلت في أداء الوحي، كان النبيّ (ص) يقرأ القرآن وفيه عيّب دينهم وسبّ آلهتهم، فسألوه أن يطوي ذلك، فأنزل اللّه الآية[5].

وإنَّنا نلاحظ على بعض هذه الرِّوايات أنَّها توحي بأنَّ هناك نوعاً من عدم الثقة برسول اللّه (ص) في العدل في قسمة الغنائم بين أصحابه، بحيث يخاف المسلمون من تصرّفه معهم بهذه الطريقة التي عبّر عنها القرآن بالخيانة، ولا سيّما في رواية الطلائع الذين لـم يقسم لهم، فنـزلت الآية لتقول: ما كان لنبيّ أن يعطي قوماً أو يمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بالسويّة، وسمي حرمان بعض الغزاة غلولاً تغليظاً وتقبيحاً لصورة الأمر أو مبالغةً في النهـي لرسول اللّه كما في قضية الرماة. وهذا مما لم نعهده في نظرة الصحابـة لرسول اللّه(ص) بشكلٍ عام، ما يجعلنا نتحفظ في هذه الرِّوايات، فتكون الآية واردة في سبيل تقرير المبدأ لا في الردّ على الكلمات الصادرة من الصحابة في هذا المجال. واللّه العالـم.

وربَّما كانت الآية واردة تعليقاً على التصوّر الذي كان يتصوّره الرُّماة في أُحُد عندما تركوا مراكزهم، أنَّ النبيّ لا يحسب حسابهم في الغنائم عند القسمة، فقد روي أنَّها نزلت في غنائم أُحُد حين ترك الرُّماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا: نخشى أن يقول رسول اللّه: من أخذ شيئاً من الغنائم فهو له، وأن لا يقسم الغنائم كما لـم يقسم يوم بدر. فقال لهم النبيّ (ص): ألـم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتّى يأتيكم أمري؟! فقالوا: تركنا بقيّة إخواننا وقوفاً. فقال (ص): بل ظننتم أنَّنا نغل ولا نقسم لكم...

وذكر بعض الرّواة وجوهاً أخرى في المناسبة التي نزلت فيها الآية.. وقد تكون هذه الرِّواية التي ذكرناها مناسبة للجوّ الذي نزلت فيه الآية، لأنَّها واردة في سياق الحديث عن معركة أحد... وقد لا تكون هناك مناسبة محدّدة للآية، ولكنَّها تتحرّك في إثارة كلّ الخلفيّات الفكرية التي يمكن أن تدور في أذهان المقاتلين كأساسٍ للاهتزاز الذي حدث في مواقفهم في المعركة، وذلك من أجل توضيح الصورة الكاملة للأجواء التي تسود المعركة من حيث طبيعة القيادة التي تقودها، فهي ليست بالقيادة المألوفة لهم في ما ألفوه من قياداتهم السابقة ممن كان يظلم جنودهم أو يستغلّهم أو يخونهم ولا يعطيهم ما يستحقونه من غنائم الحرب؛ بل هي القيادة المعصومة التي لا تتحرّك إلاَّ في النطاق الذي تعتقد أنَّه يرضي اللّه، لأنَّها تعيش في أجواء النبوّة التي جاءت من أجل أن تقيم للنَّاس قواعد العدل على أساس الإخلاص لحياتهم ولآخرتهم، فلا يمكن لها أن تخون قضايا النَّاس في الحرب والسلم، ولا يمكن أن تُنقص من حقوقهم شيئاً، فهي تمثِّل الإخلاص في كلّ شأن من شؤونها العامّة والخاصّة، وهي التي تشهد للنَّاس وعلى النَّاس يوم القيامة، فكيف يمكن أن تضع نفسها في مواقع الاتهام في الدُّنيا والآخرة؟!

* * *

عصمة النبيّ عن الخيانة:

[وما كان لنبيّ أن يغُلَّ] فإنَّ النبوّة لا تجتمع مع الخيانة، لأنَّها لا تناسب النبوّة التي هي أمانة اللّه عند النبيّ في تبليغ رسالته وفي تطبيق منهجه وفي الحكم بين النَّاس، فهو الذي أراد اللّه أن يؤكّد خطّ الأمانة في الحياة ليكون القدوة للنَّاس في ذلك كلّه في جميع أمورهم، وربَّما كان من أظهر مصاديق هذا المبدأ كتمان الوحي، انسجاماً مع طلب المشركين منه إخفاء الآيات التي تندّد بدينهم وتسبّ آلهتهم ـ كما جاء في بعض روايات النـزول ـ فهي خيانة للّه في رسالته، وللأمّة في إخفاء الحقيقة عنها، فلا بُدَّ من أن يؤدّي الرسالة كاملة غير منقوصة، وربَّما قرأ بعضهم «يُغَلُّ» بضم الياء وفتح الغين. فيكون المعنى أنَّه ليس لأصحابه أن يخونوه أو يكتموه شيئاً من الغم. ولكن القراءة المشهورة هي الثابتة والمتّبعة والمقروءة، وهي التي تعلن عصمة الأنبياء عن الخيانة في تقرير الخطّ النبوي في كلّ ما يتعلّق بمسؤوليته في إبلاغ الوحي وتوزيع الحقوق على النَّاس بعيداً عن أية حالة ذاتية تفرض عليه ذلك.

ربَّما كانت الآية ـ كما أشرنا إليه ـ واردةً في مجال تقرير المبدأ، ليشعر المسلمون بالثقة المطلقة من خلال الثقة بعصمة القيادة، فيكون ذلك أقرب لخطّ الالتزام، وأدعى للانضباط، وأقوم للثبات، وأكثر تأكيداً لنقد الموقف الذي وقفوه لأنَّه لا يتناسب مع هذا المبدأ... وقد نستشعر من الآية الإيحاء بأنَّ قضية رفض الخيانة من النبيّ، ليست خصوصيّة للنبيّ، بل هي قضية المبدأ الذي يتحرّك في خطّ النبوّة، ما يجعل منه شيئاً غير مناسب له، على أساس منافاته للرسالة التي يدعو إليها، وللإخلاص للّه باعتبار أنَّها تمثِّل تمرّداً على اللّه...

وفي ضوء ذلك، أكملت الآية الفكرة بالإيحاء بالجوّ الشامل الذي يحكم النبيّ ويحكم الآخرين في مواقف الحساب، كما توحي به هذه الفقرة من الآية: [وما كان لنبيّ أن يَغُلَّ ومن يغلُل يأتِ بما غلَّ يـوم القيامة ثُمَّ توفى كلُّ نفس ما كسبت] فإنَّ الخيانة في الدُّنيا لا تنتهي مسؤوليتها بانتهاء الدُّنيـا، بل يقف الخائـن يوم القيامة ليتحمّل مسؤوليـة ذلك كلّه، فيحمل ما خانه بين يديه، وذلك على سبيل الكناية عن الإثـم والتبعيّة والمسؤولية، وهناك الحكم الذي يمنح كلّ إنسان جزاء ما اكتسبه من خير أو شرّ، [وهم لا يظلمون]... وهكذا تريد الآية أن توحي بأنَّ المسؤولية لن تستثني أيّ إنسان، مهما كانت درجته ولو كان نبيّاً، فكلّ العباد مكلّفون برفض الخيانة، بما فيهم النبيّ (ص)، لأنَّ الامتيازات ملغاة في هذا المجال، فلا يحقّ لأحد أن يتمرّد على القانون من خلال درجته الروحية والاجتماعية، كما هو الحال في واقع النَّاس المعاش، وبذلك تتمّ للفكرة حركتها العملية في خطّ العدالة في حياة النَّاس، وتتوضح للقاعدة الشعبيّة طبيعة القيادة في أمانتها وإخلاصها وعصمتها عن كلّ ألوان الخيانة، على أساس النظرية والتطبيق معاً.

* * *

النبيّ قدوة:

وقد استطاع الإسلام من خلال الوحي القرآني في نطاق هذا المبدأ الإنساني المرتكز على العدالة في الفكر والسلوك، أن يربي جيلاً من النَّاس، من الصحابة وغيرهم ممن جاء بعدهم، على أساس الأمانة الفكرية والروحية والعملية في خطّ الاستقامة في جميع جوانب حياتهم، انطلاقاً من القدوة النبوية ومن الإيحاءات الروحية التي تنطلق من خلال التذكير بالوقت الذي يواجهه الخائنون يوم القيامة عندما يحملون على ظهورهم كلّ ما خانوا فيه.

وقد جاء في تاريخ الطبري، أنَّه لما هبط المسلمون بالمدائن، وجمعوا الأقباض ـ الغنائم ـ أقبل رجل بحقٍّ معه فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال الذي معه: ما رأينا هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يُقاربه، فقالوا: هل أخذت منه شيئاً؟ فقال: أمّا واللّه ما آتيتكم به. فعرفوا أنَّ للرّجل شأناً، فقالوا: من أنت؟ فقال: واللّه لا أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكنّي أحمد اللّه وأرضى بثوابه. وقد رأينا ـ في كثير من نماذج المؤمنين ـ أنَّ بعضهم يلتقط اللقطة الملقاة على الطريق ـ ليبقى فيعرّفها سنة، ثُمَّ يتصدّق بها، أو يدفعها إلى أولي الأمر، فإذا جاء صاحبها بعد ذلك ولـم يقبل بالصدقة، دفع إليه ما يريد من ماله طلباً لثواب اللّه.

وقد كان بإمكانه ـ لولا مسؤولية الأمانة في دينه ـ أن يأخذها ويتملكها بعيداً عن ذلك كلّه، لأنَّ أحداً لن يسأله عنها عندما يلتقطها وعندما يأخذها.

ــــــــــــــــــــ

(1) انظر: مجمع البيان ج:2، ص:872.

(2) أسباب النزول، ص:70.

(3) (م.ن)، ص:70ـ71.

(4) (م.ن)، ص:71.

(5) مجمع البيان، ج:2، ص:873.