من الآية 162 الى الآية 163
الآيتـان
{أفمن اتَّبع رضوانَ اللّهِ كَمَنْ بَاء بسخطٍ من اللّه ومأواه جهنَّم وبئس المصير * هم درجاتٌ عند اللّه واللّه بصيرٌ بما يعملون} (162ـ163).
* * *
معاني المفردات:
[باء]: أي: رجع، يُقال: باء بذنبه يبوء بوءاً إذا رجع به، وبوّأته منـزلاً: أي: هيّأته له، لأنَّه يرجع إليه.
[بسخطٍ]: السخط من اللّه: هو إرادة العقاب لمستحقه ولعنه، وهو مخالفٌ للغيظ، لأنَّ الغيظ هو هيجان الطبع وانزعاج النفس، فلا يجوز إطلاقه على اللّه تعالى ـ كما جاء في مجمع البيان ـ [1].
[المصير]: المرجع والمنتهى، والفرق بين المصير والمرجع ـ كما يقول صاحب المجمع ـ أنَّ المرجع هو انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها، والمصير انقلاب الشيء إلى خلاف الحال التي هو عليها، نحو مصير الطين خزفاً، ولا يُقال: رجع الطين خزفاً، لأنَّه لـم يكن قبل خَزفاً[2]. وقال الراغب ـ: صار: عبارة عن التنقل من حالٍ إلى حال[3].
[درجاتٌ]: الدرجة: الرتبة، والدرجان: مشي الصبي لتقارب الرتب، والترقي في العلم درجة بعد درجة أي منـزلة بعد منـزلة، كالدرجة المعروفة.
* * *
مناسبة النزول:
جاء في مجمع البيان: لما أمر رسول اللّه (ص) بالخروج إلى أُحد، قعد عنه جماعة من المنافقين واتّبعه المؤمنون، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية[4].
* * *
لا يتساوى الطائعون والعاصون في ميزان الحكم الإلهي:
وتستمر الآيات في توضيح الميزان الذي يرفع اللّه به درجات عباده أو ينـزلها، فليس هناك إلاَّ اتّباع رضى اللّه والابتعاد عن سخطه، فلا يمكن أن يتساوى الطائعون والعاصون أمام اللّه الذي يعلم خفاياهم في صغائر الأمور وكبائرها، بل يجعل لكلٍّ منهم درجته من المغفرة أو من العقوبة على أساس علمه وعدله.
[أفمن اتَّبع رضوان اللّه[ ما أمره اللّه به أو نهاه عنه في الخطّ العام للشريعة بأحكامها العامّة والخاصّة، وما أمره به رسوله في خطّ الدعوة والجهاد، فكان همّه الحصول على رضى اللّه والوصول إلى موقع القرب منه، [كمن باء] أي رجع من مواقعه الحركية في حركة الإسلام في ساحة التحدّي والمواجهة للشرك وأهله، [بسخطٍ من اللّهِ] بما يمثِّله ذلك من إبعاده عن ساحة رحمته واستحقاقه لعذابه، لأنَّه لـم يأخذ بأسباب الطاعة للّه وللرَّسول في ما أمره به أو نهاه عنه في الحياة العامّة وفي مواقع الجهاد، [ومأواه جهنَّم وبئس المصير] أي مستقره في النَّار التي استحقها بكفره ونفاقه وانحرافه عن الخطّ الإلهي المستقيم..
وهكذا تؤكّد الآية ـ بأسلوب الاستفهام الإنكاري ـ تقرير الحقيقة الإيمانية العملية التي ترفض مساواة الطائعين للعاصين عند اللّه في المصير النهائي الذي يصيرون إليه في الآخرة.
* * *
النَّاس درجات عند اللّه:
[هم درجاتٌ عند اللّهِ] فلكلّ واحد منهم منـزلته ومرتبته تبعاً لحجم عمله في خطّ الطاعة وخطّ المعصية، سواء في ذلك المؤمنون والكافرون، فقد يختلف المؤمنون في درجاتهم في مواقع القرب من اللّه والحصول على رضوانه من خلال اختلافهم في درجات المعرفة به والإيمان به والعمل في سبيله، وقد يختلف الكافرون في منازل سخطه من خلال اختلاف نوعية الكفر شدّةً وضعفاً، أو في اختلاف طبيعة التمرّد العملي في مواقع المعصية، [واللّهُ بصيرٌ بما يعملون] فهو المطلع على سرّهم وعلانيتهم، وعلى كلّ ما يفيضون فيه من أقوال وأعمال، وفي هذا إيحاء بأنَّ على المؤمنين أن يتبعوا رضوان اللّه في جميع أمورهم ويتطلبوا الحصول على الدرجات الرفيعة عنده ما دام الأمر بهذه المثابة في انفتاح الفرصة على الوصول إلى أعلى الدرجات من خلال وعي العقيدة وحركة العمل وامتداد الخطّ في آفاق الاستقامة.
وهكذا يمكن أن يستوحي منها العاملون للإسلام خطّاً إيمانياً في تخطيطهم لحساب المسؤولية في ما يمكن أن يرفعوا به الآخرين من درجات أو يضعوه منها، فيمن يعملون معهم، فلا بُدَّ من أن تكون الدرجات خاضعة لمواقعهم في الانضباط أمام أوامر اللّه ونواهيه، بعيداً عن الجوانب الأخرى التي لا تلتقي بهذا الخطّ، وبهذا نستطيع أن نشجّع السائرين على الخطّ المستقيم في ما ساروا فيه، ونبعد المنحرفين عن الامتداد بعيداً عن خطّ الانحراف.
ــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:874.
(2) (م.س)، ج:2، ص:874.
(3) مفردات الراغب، ص:299.
(4) مجمع البيان، ج:2، ص:874.
تفسير القرآن