الآية 164
الآيــة
{لقد منَّ اللّه على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكِّيهم ويعلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبينٍ}(164).
* * *
معاني المفردات:
[منَّ]: أنعم بنعمة ثقيلة، وأصل المنّ: القطع، يُقال: منّه يمنّه: إذا قطعه، والمنّ: النعمة، لأنَّه يقطع بها عن البلية. يُقال: منَّ فلان عليَّ بكذا: أي: استنقذني به مما أنا فيه، والمنّ: تكدير النعمة، لأنَّه قطع لها عن وجوب الشكر عليها، والمنّة: القوّة لأنَّه يقطع بها عن الأعمال.
* * *
الرَّسول نعمة كبرى للخير والخلاص:
ويبقى للفكرة جوّها الكبير الذي يحتوي كلّ ما في الساحة من تطلّعات ومواقف ووسائل وأهداف، ليدفع بالقضية إلى الواقع الجديد في حدود القضايا الإيجابية التي تحكمه وتوجّهه في اتجاه الأعلى والأفضل، في مقارنةٍ بالواقع القديـم في سلبيّاته المغرقة بالضلال، فليست حركة التغيير من نوع الحركات التي يُراد منها تغيير الصورة كلّها وما تشتمل عليه من ملامح الظلمة والضلال والاهتزاز، وفي ضوء ذلك، كان للشخص الجديد معنًى آخر، وسرّ جديد يتّسع للحياة، حسب الدور الكبير الذي أعدّ له، فهو لا يتحرّك من خلال ذاته، كمفكّر يعيش تجربته الشخصية، بل هو رسول من اللّه يتحرّك من خلال رسالته... وليس غريباً عنهم لتكون مشاعره غريبة عن مشاعرهم، أو تكون أفكاره غريبة عن قضاياهم، بل هو من أنفسهم، من قلب الجماعة التي ينتمون إليها، أرسله اللّه إليهم يتلو عليهم آياته التي تفتح قلوبهم على عظمته وخطّ هداه، وليزكّيهم فيطهّر كلّ ما لديهم من رذائل الأخلاق والسلوك والأفكار والعادات، ويعلّمهم كتاب اللّه الواحد الذي تجتمع فيه كلّ الرسالات ويلتقي عليه كلّ الرّسل، كما يعلّمهم الحكمة التي تربط حركتهم بالحياة في موقعها الطبيعي الذي لا اهتزاز فيه ولا التواء، لأنَّه لا يكفي للشخصية الإسلامية أن تلتقي بالكتاب في تفكيرها النظري، بل لا بُدَّ لها، في طريق التكامل، من أن تلتقي بالتطبيق السليم لأفكاره وتعاليمه في خطّ الحكمة الذي يمثِّل التوازن في مواجهة الفكر والواقع معاً.
إنَّه جاء من أجل هذا كلّه، ليخلّصهم من الضلال الواضح الذي كانوا يتخبطون فيه، سواء في ذلك جانب الفكر أو جانب العمل، وتلك هي المنّة التي منَّ اللّه بها عليهم، لأنَّ قضية تصحيح المسار، وتقويـم الشخصية، وتركيز الخطّ، هي الخير كلّ الخير، بعيداً عن كلّ شهوات الحياة ولذائذها وأطماعها، فلا بُدَّ لهم من أن يعيشوها في جوّ النعمة عندما تتحرّك بهم خطوات الحرب والسَّلام، في الشدّة أو في الرخاء، ليستقيم لهم كلّ ما يريدونه لأنفسهم من خيرٍ ومحبّة وسلام.
[لقد منَّ اللّه على المؤمنين] فأنعم عليهم بالنعمة الكبرى التي تتصل بحركة السعادة في مصيرهم في الدُّنيا والآخرة، وهذا هو المعنى الإيجابي للمنّ الذي ينفتح على معنى العطاء الإلهي لعباده في النعم التي يغدقها عليهم واللطف الذي يمنحهم إياه، خلافاً للمعنى السلبي للمنّ الذي يحصل من النَّاس الذين يقذفون لبعضهم البعض الخدمات في قضاء حاجاتهم وحلّ مشاكلهم، فيعملون على استعظام ذلك بالقول وبالفعل تذكيراً لمن أنعموا عليه بما لهم عليه من فضل لإذلاله وتحقيره، من حيث إنَّهم في موقع التفضل وهو في موقع الحاجة. أمّا التخصيص بالمؤمنين، فلأنَّهم هم الذين ينتفعون بالرسالة ويهتدون بهداها ويحصلون على نتائجها، أمّا الآخرون الذين شملتهم الرسالة في دعوتها، وانفتحت عليهم في خطوطها، فإنَّهم لا يعيشون الإحساس بهذه النعمة الكبرى، ولا يتفهمون إيجابياتها في وجودهم الممتد من الدُّنيا إلى الآخرة، ما لا يجعل للمنّ أثراً في شعورهم الإنساني الذي يستجيب في أحاسيسه بالنعم الموفورة له من صاحبها، ولا سيّما نعمة الهداية في مضمون الرسالة.
* * *
إذ بعث فيهم رسولاً:
[إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم] أي من النوع الإنساني الذي ينتمون إليه، ومن النموذج البشري الذي يلتقي معهم في الفكر والإحساس والقدرة والتطلّعات، فلم يرسله اللّه من الملائكة ليشعروا بغربته عنهم واختلافهم عنه، ولـم يرسله من الجنّ الذين تبتعد طبائعهم عن طباعهم وأوضاعهم عن أوضاعهم، بل أرسله بشراً مثلهم، يتكلّم كما يتكلّمون، ويتألـم كما يتألمون، ويفرح كما يفرحون، ويأكل ويشرب ويلبس وينام ويتحرّك كما يفعلون ذلك كلّه في حياتهم العامّة والخاصّة، ما يجعلهم يألفونه ويشعرون بالقرب منه والانفتاح عليه، كما يألفون بعضهم بعضاً وينفتحون بإرادة القرب من بعضهم البعض في مواقع الإنسانية الحميمة المتعاونة.
وهكذا يمكن لهم أن يجدوا فيه القدوة الحسنة من موقع بشريته في خصوصية الملامح الذاتية في محيطه، فلا مشكلة ـ من الناحية النفسية ـ أن يلتقوا بفضائله الأخلاقية وممارساته الروحية، من حيث هي جهد بشري يمكن للبشر أن يتمثّلوه ويقتدوه ويأخذوا به في حياتهم ـ من ناحية المبدأ ـ لأنَّ سموّه في نبوته لا يجعل عمله عملاً غير خاضع للقدرة البشرية، بل يجعل تطلّعاته وآفاقه الروحية في الدرجة العليا من أجواء الخصوصيات الحيّة للعمل. ولو كان من نوعٍ آخر ـ كالملائكة والجنّ ـ لكان لهم أن يعتذروا عن خطّ القدوة بأنَّهم لا يملكون القدرة على القيام بمثل عمله، لأنَّهم لا يتميّزون بالخصائص الكبرى التي تمنحهم القدرة على مثل هذا العمل أو ذاك.
* * *
دور الرَّسول البشر:
فهو الرَّسول البشر الذي أنزل اللّه عليه وحيه، حيث اصطفاه لإبلاغ رسالاته للنَّاس في أمورهم العامّة والخاصّة، وللقيام بالمهمّات المحددة في الارتفاع بهم إلى الدرجة العليا من الكمال البشري مـمّا يمكن للبشر أن يبلغوه من درجات الكمال. وهكذا كان دوره أن: [يتلو عليهم آياته] ليسمعوها ويتعلموها ويقرأوها ويتدبروها في وجدانهم العقلي وإحساسهم الروحي، ليعرفوا حقائقها من خلال معرفتها بخصائصها، [ويزكِّيهم] فيطهّر نفوسهم من الرذائل الفكرية والروحية وينمّي قدراتها في مواقع المعرفة ليتخلصوا من رجس الجهل والتخلّف، ويسير بهم في خطّ الاستقامة التي تتوازن بها أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم بالآخرين وبالحياة، ليكون الرَّسول ـ في رسالته ـ إنسان التغيير الداخلي والخارجي للذين أقبلوا على رسالته في عملية إيمان وانفتحوا عليه في موقف التزام وتقوى، [ويُعلِّمُهُمُ الكتابَ] الذي أنزله اللّه ليكون نوراً يضيء لهم الطريق، وهدى يهدي به اللّه من اتّبع رضوانه سبل السَّلام، ويقودهم إلى الصراط المستقيم الذي ينتهي بهم إلى رضوان اللّه في الدُّنيا والآخرة، [والحكمة] التي تمثِّل خطّ التوازن في حركة الإنسان في نفسه ومع الإنسان الآخر، ومع الحياة، بعد أن يكون قد انفتح على كلّ الحكمة في علاقته باللّه، فيضع كلّ شيء في موضعه، ويُعطي كلّ إنسانٍ حقّه، وكلّ شيء حاجته، من دون زيادة أو نقصان؛ وبذلك، أي بهذه المعرفة الكتابية التي تمثِّل الهدى في خطّ وعي النظرية على مستوى القاعدة الفكرية، والمعرفة التطبيقية العملية ـ في معنى الحكمة ـ على أساس حركة الإنسان في هدى السلوك الواقعي، بذلك تكمن قيمة الإسلام في عطائه الفكري والعملي للإنسان المتمثّل بهؤلاء الذين انطلقوا في التزامهم الإسلامي في طريق الإيـمان، [وإن كانوا من قبلُ] في جاهليتهم السابقة على الإيمان [لفي ضلالٍ مبينٍ] في المتاهات الضائعة في خيالات السراب، وامتداد الرمال إلى ما يُشبه اللانهاية، وسيطرة الظلام الروحي على كلّ آفاق الذات.
تفسير القرآن