من الآية 165الى الآية 166
الآيتـان
{أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم إنَّ اللّه على كلِّ شيء قديرٌ * وما أصابكم يوم التقى الجمعان فبإذن اللّه وليعلمَ المؤمنين} (165ـ166).
* * *
معاني المفردات:
[مثليها]: مثل ما أصاب المشركين في يوم أحد من قتل سبعين منكم، فإنَّ المسلمين قد قتلوا من المشركين سبعين وأسروا سبعين.
والمثَل ـ كما يقول الراغب ـ يُقال على وجهين: أحدهما: بمعنى المِثل. والثاني: عبارة عن المشابهة لغيره في معنًى من المعاني أيّ معنى كان، وهو أعمّ الألفاظ الموضوعية للمشابهة، وهي: الندّ، والشبه، والمساوي، والشكل[1].
[أنَّى]: من أين وكيف، وهي تستعمل في الحال والمكان، ولذلك قيل: هو بمعنى أين وكيف لتضمنه معناهما ـ كما يقول الراغب ـ [2].
* * *
أسلوب تربوي لتعميق المفاهيم:
وتستمر الآيات لتعمّق المفاهيم الإسلامية في نفوس المسلمين من خلال معركة أحد، لأنَّ ذلك من أفضل الوسائل التي اتّبعها القرآن في أسلوبه التربوي الذي يرتكز على ملاحقة التجربة ورصد خطواتها العملية، والتعرّف على ملامح الخطأ والصواب فيها، لمعالجتها من الموقع نفسه، ليلتقي المسلمون بالمفهوم في حركة الواقع عندهم، كما هو الحال في هاتين الآيتين اللتين أشارتا إلى التساؤل المرير الذي كان المسلمون يطرحونه بعد الهزيمة: أنَّى هذا؟ وكيف حدثت الهزيمة؟ ولماذا لـم ينتصروا وهم جند اللّه الذين يقاتلون في سبيل اللّه؟ ولماذا لـم ينصرهم اللّه؟ وكان هذا التساؤل مريراً مرارة الهزيمة. كانوا ينطلقون فيه من مفهوم خاطئ، وهو أنَّ اللّه يكفل للمسلمين النصر، وللمؤمنين النجاح، بعيداً عن كلّ الظروف الطبيعية التي تفرض النصر والهزيمة، وذلك بأن يتدخّل اللّه بطريقةٍ مباشرة، بما يشبه المعجزة، في آفاق الغيب، كما أرسل الملائكة في بدر ليكونوا معهم في المعركة. ولكنَّهم لـم يعرفوا المفهوم الصحيح الذي قرّره اللّه في كتابه، فإنَّ اللّه لـم يتعهد للمؤمنين بالنصر والنجاح بطريقة غيبيّة، بل تعهد لهم بذلك من خلال سننه الحتمية في الكون بالانطلاق إلى الهدف من وسائله، وإلى المسبّبات من خلال أسبابها، تماماً كما هو الحال في الولادة والوفاة والرزق والغنى والفقر وغير ذلك من الأمور... التي تخضع لتخطيط حكيم ينظم الواقع على أساس قانون السببيّة، الذي قد يتمثّل في الأسباب غير المألوفة أو غير المنتظرة.
وفي ضوء ذلك، فإنَّ المفهوم الذي يرتكز على أساس التدخل المباشر من قبل اللّه في النصر بعيداً عن أسبابه هو مفهوم خاطئ، لأنَّه يعني أنَّ اللّه يلغي سننه القائمة على مصلحة الحياة والإنسان، لوضع طارئٍ في غير مصلحة النَّاس الذين يطلبونه، لما في ذلك من انعكاس سلبي على حياتهم، فإنَّ المسلمين إذا استراحوا لفكرة النصر الغيبـي استسلموا لحالات الاسترخاء والكسل، وتركوا الجهاد ومهماته، وأقبلوا على اللهو واللعب، في حين لو تعاطوا مع النصر والهزيمة من موقع الأسباب الموجبة لهما، من غير أن يتخلوا عن العمق الروحي للغيب في حياتهم، بما هو مدد رئيسي من إمدادات الطاقة المعنوية التي ترفع درجة استعدادهم وطاقاتهم للبذل والتضحية، لباتت قيمتهما في حياتهم، بما يمثّلانه من يقظةٍ ووعي للواقع وانطلاقة جديدة للاستعداد الدائم لكلّ الأوضاع المستقبلية، بتحضير مقدّماتها وأسبابها الطبيعيّة، سواء لتجاوز الهزيمة، أو للظفر بالنصر.
* * *
المصيبة من فعل الإنسان:
وهكذا انطلقت الآية لتؤكّد المفهوم بالدخول في عملية مقارنة بين ما حدث في بدر وما حدث في أحدٍ، فقد استطاعوا أن ينتصروا في معركة بدر ويصيبوا المشركين بخسارة مضاعفة لهزيمتهم في أحد، لأنَّهم قتلوا منهم سبعين وأسروا مثل هذا العدد، بينما كانت خسارة المسلمين في أحد سبعين شهيداً. وليس ذلك إلاَّ لأنَّهم أخذوا بأسباب النصر هناك من خلال ما يتعلّق بحالة الانضباط والاندفاع ومراقبة اللّه في حركتهم في المعركة، ما جعل الجوّ الروحي معدّاً لاستقبال اللطف الإلهي بالنصر. أمّا في أحد، فقد استسلموا لأسباب الهزيمة، فابتعدوا عن اللّه، الذي لا يمنح الإنسان النصر من موقع الهزيمة، كما لا يجعل الهزيمة في مواقع النصر، لأنَّ ذلك يسيء إلى سنن اللّه الحتمية في الكون، وهذا ما يتمثّل في هذه الآية: [أولما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها] في بدر [قلتم أنَّى هذا] كيف هذا؟ [قل هو من عند أنفسكم] لأنَّكم عصيتم الرَّسول، فكان جزاء العصيان هذا الواقع السلبي الذي واجهتموه اليوم [إنَّ اللّه على كلِّ شيء قديرٌ]؛ فليس هناك شيء بعيد عن قدرته، فهو القادر على النصر لعباده والقادر على أن يبتليهم بالهزيمة من خلال قدرته على الأسباب والمسبّبات.
وفي هذا الجوّ الذي ينطلق فيه السبب من النَّاس، وتتحرّك السببيّة التي تربط بينه وبين المسبب من قِبل اللّه؛ نلتقي بالآية الثانية التي تجعل الهزيمة الحاصلة بإذن اللّه، لأنَّ ذلك يصحح نسبتها له. فلولا هذه العلاقة بين الانسحاب من الموقع وبين الهزيمة لما حدثت، ولكن ذلك لا يلغي مسؤولية النَّاس الذين انسحبوا، لأنَّ الأمر كان طوع إرادتهم، وذلك هو قوله تعالى: [وما أصابكم يوم التقى الجمعان] والمراد بالجمعين: جمع الإيمان وجمع الكفر.
وقد وردت كلمة [فبإذن اللّه] في القرآن في عدّة موارد، لتكون تعبيراً عن إرادة اللّه وسنته في الكون على سبيل الكناية، لأنَّ اللّه عندما أودع قانون السببيّة في الكون، فكأنَّه أعطى الإذن للمسبّب أن يحدث عند حدوث السبب [وليعلَمَ المؤمنين] أي ليعلَمَ اللّه المؤمنين من خلال المواقف الصلبة التي يظهر بها المؤمن في عمقه الإيماني ويتميّز بها عن غيره من المنافقين، لأنَّ حكمة اللّه اقتضت أن يمتحن إيمان المؤمن بالتجربة القاسية، وذلك في لفتةٍ إيحائية في خطّة الابتلاء في الحياة، بأنَّ الموقف هو الأساس في الإيمان وليس الكلمة. وبهذا نعرف أنَّ الحديث عن علم اللّه بذلك خاضعٌ لطبيعة الأشياء في وسائل المعرفة، فهو واردٌ على سبيل التقريب لا على سبيل الحقيقة، لأنَّ اللّه يعلم بكلّ شيء قبل حدوثه.
ـــــــــــــــــ
(1) انظر: مفردات الراغب، ص:482.
(2) (م.س)، ص:25.
تفسير القرآن