من الآية 167 الى الآية 168
الآيتـان
{وليعلم الذين نافقوا وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه أو ادفعوا قالوا لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكم هم للكفر يومئذٍ أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم واللّه أعلم بما يكتمون * الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرأوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}(167ـ168).
* * *
معاني المفردات:
[ادفعوا]: ساهموا في الدفاع عن أنفسكم وأعراضكم وأموالكم ووطنكم، فيكون المعنى: إذا لـم تقاتلوا في سبيل اللّه، فادفعوا العدوّ عن أنفسكم وأموالكم، وقيل: قاتلوا دفاعاً عن الحقّ والدِّين لا للحمية والغنيمة.
وقيل: كثّروا فإنَّكم إذا كثرتـم دفعتم القوم بكثرتكم.
[فادرأوا]: أي: ادفعوا وامنعوا. وأصل الدرء: الميل إلى أحد الجانبين. ويُقال: درأت عنهم إذا دافعت عن جانبهم. والأمر بدرء الموت هنا للتأنيب والتعجيز وبيان فساد قولهم.
* * *
نموذج منافق:
وهذا نموذج من النماذج التي كانت تتحرّك في المجتمع الإسلامي لتثير فيه الفتنة والخوف والتردّد، وتشوّه له وجه الصورة الحقيقيّة للأشياء، وتعطّل كثيراً من طاقاته وخطواته العمليّة السائرة نحو الهدف... وقد جاء القرآن ليكشف لنا عن هؤلاء في ما يذكره لنا من كلماتهم ومواقفهم، لنتعرّف من ذلك على ملامحهم، لنرصد تحرّكاتهم في ما نعيش الآن من حركة الحاضر، وما نريد أن نعايشه من أوضاع المستقبل، لأنَّ أسلوب القرآن من خلال ما يقدّمه إلينا من نماذج، يثير أمامنا التجربة في الماضي، لنتعلّم من وحيها كيف نتجاوز سلبياتها ونحتوي إيجابياتها في ما نستقبل من تجارب الحياة المماثلة.
لقد عاش هؤلاء المنافقون مع المسلمين كمسلمين من حيث الجانب الشكلي للإسلام، فقد أظهروا الإيمان، في ما أظهروه من كلماته، ولكنَّهم أبطنوا الكفر، وكانت خطّتهم أن يفسدوا على المسلمين إسلامهم وحياتهم، ليفجّروا الإسلام من الداخل عندما تدبّ في داخله عوامل التفجير المتنوّعة. أمّا في ما يتعلّق بسلوكهم وما يواجهونه من تحدِّيات المسؤولية التي تمتحن إيمان الإنسان من خلال الالتزام وعدمه، فقد كانوا يتهرّبون من ذلك بإثارة التبريرات والأعذار التي يبرّرون بها قعودهم وتراجعهم، ويعملون على إغراء الآخرين بالسير على طريقهم في ذلك. وهذا ما حدث لهم عندما كان النبيّ يدعو المسلمين إلى الخروج إلى المعركة في أحد، فقد حاولوا الإيحاء باهتمامهم بالجهاد في سبيل اللّه في كلّ موقفٍ من المواقف التي تتحرّك فيها المعركة للقتال، فإذا حصلت لهم القناعة بذلك، فإنَّهم يُبادرون إلى القتال في الصفوف الأولى للمعركة. وبهذا واجهوا الدعوة إلى الخروج للقتال في سبيل اللّه والدفاع عن المؤمنين، فقد قالوا: إنَّهم يعتقدون بأنَّ الموقف ليس موقف قتال، ولذلك فلا يشعرون بأيّة ضرورة للخروج، ولو اعتقدوا ذلك لخرجوا... وقد أرادوا من هذا الأسلوب أن يحقّقوا نقطتين: إحداهما: تبرير قعودهم عن الخروج، والأخرى: الإيحاء للمسلمين باتخاذ الموقف نفسه، بتبريد الحماس الإيماني الذي يجيش في نفوسهم ويدفعهم إلى السير نحو المعركة...
ولكنَّ اللّه يحدّثنا عن طبيعة الموقف، ليكشف زيف الواقع الذي ينطوون عليه، فهم للكفر أقرب منهم للإيمان، لأنَّ الإيمان ليس كلمة تمثِّل معنى التَّقوى والإيمان، بل هو موقف للتَّقوى يدفع الإنسان إلى أن يقف عند حدود اللّه، فيتحرّك حيث يريد منه أن يتحرّك، ويتوقف حيث يريده أن يتوقف. ولعلّ من أوضح مواقف التَّقوى أن يطيع اللّه ورسوله في ما يتوجّه إليه من أوامر ونواهٍ، فلا معنى للإيمان والتَّقوى إذا كان الإنسان يتهرب من الاستجابة للّه ورسوله في دعوة الجهاد، ويبرّر ذلك بما يعلم اللّه أنَّه غير صادق فيه، في ما يعلمه اللّه من داخله. وذلك هو معنى الكفر كموقف، فإنَّ المظهر العملي للكفر هو الانحراف عن طاعة اللّه. ولهذا وردت كثير من الآيات التي تعتبر الانحراف العملي كفراً، لأنَّه يلتقي مع الكفر في مظاهره. وربَّما كان من هذه الآيات قوله تعالى: [ وللّه على النَّاس حـجُّ البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإنَّ اللّه غنيٌّ عن العالمين] (آل عمران:97)، حيث اعتبر عدم القيام بالحج كفراً، ويؤكّد هذا التفسير للآية الحديث الوارد عن أئمَّة أهل البيت(ع): «من مات ولـم يحج حجّة الإسلام، ولـم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به، أو مرض لا يطيق الحج من أجله، أو سلطان يمنعه، فليمت إن شاء يهودياً أو نصرانياً»[1].
* * *
تعرية الواقع المنافق:
[وليعلَمَ] اللّه [الذين نافقوا] وأبطنوا الكفر وأظهروا الإيمان فكانوا جزءاً من المجتمع الإسلامي، فهم يتحرّكون في داخله كأنَّهم جماعة إسلامية مؤمنة في اهتماماتها بالواقع الإسلامي، وفي حديثها المتنوّع عن إيجابيات حركة المسلمين وسلبياتها، في الحرب والسلم، كما لو كانت المسألة لديهم مسألة الغيرة على الإسلام والمسلمين، وربَّما كان حديثهم حول المصلحة الإسلامية أكثر حماساً وانفعالاً من المسلمين الآخرين، للتدليل على إخلاصهم، فيخدعون البسطاء الطيبين من المسلمين عندما يمنحونهم الثقة، فيستمعون إليهم، ويأخذون بآرائهم وأفكارهم، فيؤدّي ذلك إلى اهتزاز المجتمع الإسلامي بفعل خططهم الخبيثة التي تختفي وراءها أحقادهم الثقافية، فيخيل للمؤمنين أنَّها صادرة عن غيرة على الإسلام وإخلاص للمسلمين.
فكانت هذه الآية من أجل تعرية الواقع الذي يختزنونه في داخلهم، وفضح مخططاتهم في أساليبهم الخادعة من أجل أن يظهروا على حقيقتهم، فيعلم النَّاس من أمرهم ما كانوا يخفونه، وبذلك تسقط كلّ خططهم في الإضرار بالمسلمين. أمّا نسبة العلم إلى اللّه بصفات المخلوقين، باعتبار أنَّ للمعرفة وسائلها الواقعية التي إذا توفّرت أعطت الصورة الحقيقية للأشياء، كهؤلاء المنافقين الذين انفتح المسلمون عليهم في حركة المعركة، [وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل اللّه] كما يُقاتل المسلمون من أجل أن تكون كلمة اللّه هي العليا، ويكون الدِّين كلّه للّه فتكون الغلبة للمسلمين على الكافرين من خلال حشد كلّ القوى المسلمة المقاتلة في ساحة الحرب، ليحقّقوا التوازن في موازين القوى في المعركة [أو ادفعوا] العدوّ عن ساحة المسلمين بحشد القوّة التي ترهبه وتخيفه وتهزم روحه المعنوية وتكسر شوكته، فإنَّ الهدف الأساس في ساحة التحدِّيات هي هزيمة العدوّ نفسياً أو عسكرياً، كوسيلة من وسائل إضعافه وإسقاط معنوياته، لتنطلق المسيرة بقوّةٍ بعيداً عن مواقع الخطر. وهذا هو الذي توحي به كلمة [ادفعوا] التي تتضمن معنى الدفع النفسي والعملي بالوسائل المتنوّعة التي قد تتفادى القتال لتحقّق النتائج بدونه.
وقد جاء في تفسير الكشاف، عن سهل بن سعد، الساعدي ـ وقد كفّ بصره ـ أنَّه قال: «لو أمكنني لبعت داري ولحقت بثغر من ثغور المسلمين، فكنت بينهم وبين عدوّهم، قيل: وكيف وقد ذهب بصرك؟ قال: لقوله: [أو ادفعوا] أراد كثروا سوادهم»[2].
وهكذا نرى أنَّ هذا الصحابي الجليل قد فهم آفاق الآية بطريقةٍ واقعية على أساس تنوّع الوسائل في الصراع، ليكون من بينها ـ بالإضافة إلى القتال ـ حشد القوّة الجماهيرية العددية للمسلمين أمام العدوّ، ليشعر بثقل القوّة في ميدان المواجهة، فيمنعه ذلك من الهجوم أو يدفعه إلى التقهقر. وهذا ما يمكن لنا استيحاؤه في إطلاق شعارات الوحدة بين المسلمين أمام التحدِّيات الكبرى للكفر والاستكبار، لتكون مظهر صلابة وقوّة في الساحة.
[قالوا لو نعلمُ قتالاً لاتَّبعناكُم] وهذا هو المنطق التبريري الذي يُحاول أن يجد عذراً ـ في موقع العذر ـ فهم يتحدّثون عن تصوّرهم بأنَّ المعركة سوف تنتهي سلميّاً بالطريقة الحاسمة التي لا تنفتح على قتال، ما لا يجعل هناك حاجة لوجودنا معكم، فليست القضية قضية انفصال عن مسؤولية المسيرة الإسلامية، بل هي قضية فقدان الضرورة الواقعية لكثرة المقاتلين، فلا يكون البُعد عن المعركة خطيئة أو مشكلة سلبية. وربَّما فسَّر البعض كلام المنافقين أنَّهم قالوا: لو أنَّنا كنّا نعتبر أنَّ المسألة مسألة قتال بينكم وبين العدوّ بحيث يمكن لكن أن تحقّقوا النصر عليه، مع احتمال أن يحقّق النصر عليكم لاتبعناكم، ولكنَّنا في دراساتنا للواقع نجد أنَّ حركتكم حركة انتحارية، لأنَّ موازين القوى وشروط المعركة لـم تتوفر لديكم، بل كنتم كمن يلقي بنفسه إلى التهلكة، فليست المسألة عقلائية يتحرّك بها منطق العقل، فإنَّ المسلمين قد وقفوا في موقع غير مناسب لحركة المعركة ونقطةٍ غير ملائمة.
ومهما كان المعنى، فقد كان موقفهم موقف الاعتذار والتعلل بالأعذار الواهية التي تبرّر تخلّفهم حتّى لا ينكشف أمرهم في نفاقهم الداخلي، فلم تكن المسألة كما تصوّروها أو شرحوها، بل كانت حرباً حقيقية انتصر المسلمون في بداياتها من خلال أخذهم بأسباب النصر، ما يوحي بأنَّ توازن القوى كان لمصلحة المسلمين، فلم ينهزموا من قلّة عدد أو من عدم توازن الموقف والموقع، بل كانت هزيمتهم من مخالفتهم للخطّة الموضوعة، واندفاعهم في الطمع الدنيوي الذي دفعهم إلى التخلي عن مراكزهم الحيوية. [هم للكفر يومئذٍ أقربُ منهم للإيمان] إذ ظهرت حقيقتهم في ارتباطهم بواقع الكفر، وذلك من خلال موقفهم وكلامهم التبريري الذي يفصح عن عقيدتهم المنحرفة، لأنَّه لا ينطلق من حجّة مقبولة وواقع معقول، فكانوا ـ مع الكافرين ـ في الموقع والموقف، بينما كانوا ـ في الماضي ـ أقرب إلى المؤمنين في مواقف الإيمان التي كانوا يتظاهرون بها خداعاً ونفاقـاً، [ يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم] فهم يتكلّمون كلام المؤمنين، ويعتقدون عقيدة الكافرين، فلا يتجاوز إيمانهم مخارج الحروف في أفواههم، فليس للقلوب حصّة منه، وذلك هو شأن المنافقين الذين يظهرون غير ما يبطنون، أمّا المؤمنون فهم الذين تلتقي الكلمة عندهم في اللسان بالإيمان في الجنان، والقرآن في ذلك يؤكّد هويتهم الحقيقية. فليست القضية لديهم قضية الانحراف العملي، بل هي الانحراف في العقيدة، لأنَّ كلمات الإيمان وأساليب التبرير التي يبررون بها مواقفهم لا تمثِّل الواقع الداخلي عندهم، فهي مجرّد كلمات لا تعبّر عمّا في النفس من قريب ولا من بعيد، فإنَّ اللّه يعلم ما يكتمون في قلوبهم من كفر ونفاق. [واللّه أعلمُ بما يكتمون] لأنَّه المطلع على أسرار خلقه، فلا يخفى عليه شيء مما يبطن هؤلاء المنافقون في قلوبهم ويكتمونه عن النَّاس.
ويُتابع هؤلاء المنافقون عملية الإيحاء بالأفكار السلبيّة التي تمـلأ نفوس المؤمنيـن حسرةً وألماً وتُبعدهم عن خطّ الإيمان في تصوّراتهم الحياتية، ويصوّر لنا القرآن هذه العمليّـة: [الذين قالوا لإخوانهم] الذين قتلوا في المعركة [وقعدوا] فلم يخرجوا معهم ليقاتلوا المشركين [لو أطاعونا] في البقاء في بيوتهم والقعود عن القتال وهو ما أمرناهم به [ما قتلوا] فهم قد عرّضوا أنفسهم للقتل، أمّا نحن فقد استطعنا أن نحفظ حياتنا بقعودنا عن الخروج، وذلك بحصولنا على السَّلامة من الموت. [قل] يا محمَّد [فادرأوا عن أنفسكم] أي فادفعوا [الموت] إذا كنتم تملكون أسباب الحياة والموت وتعرفون مصادر الموت وموارده، فإذا كانت مسألة الحياة هي القعود عن القتال والبقاء في البيوت، وكانت مسألة الموت هي الاندفاع إلى الحرب والمشاركة فيها، فهل تستطيعون الحصول على الخلود وأنتم باقون في بيوتكم أو بعيدون عن ساحة الحرب؟! فإنَّ قضية الموت والحياة ليست خاضعة للفرص التي يوفرها الإنسان لنفسه أو يختارها في بعض مجالاته، بل هي بيد اللّه [فإذا جاء أجلُهُم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون] (الأعراف:34)؛ [قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتلُ إلى مضاجعهم] (آل عمران:154)؛ وهكذا أراد اللّه، من خلال هذا التحدّي للمفاهيم التي طرحوها في الساحة، أن يكشف كذبهم وزيف واقعهم، لأنَّهم لا يستطيعون مواجهة هذا التحدّي في قليلٍ أو كثير.
[إن كنتم صادقين] فهل يُبعدكم البُعد عن ساحة الجهاد عن الموت في ما تستقبلونه من الزمان؟ إنَّ ذلك لن يعفيكم من القضاء المحتوم الذي يجري على سنّة اللّه في الإنسان، فكلّ إنسان يموت بأجله، فلا يهرب من الحرب الجهادية ليسلم؛ فقد يلتقي بالموت وهو في راحةٍ ودعةٍ وأمان.
ـــــــــــــــــ
(1) البحار، م:35، ج:96، باب:2، ص:261، رواية:72.
(2) تفسير الكشاف، ج:1، ص:478.
تفسير القرآن