من الآية 169 الى الآية 171
الآيــات
{ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يرزقون * فرحين بما آتاهُمُ اللّه من فضله ويستبشرون بالذين لـم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خـوفٌ عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ وأنَّ اللّه لا يُضيعُ أجـر المؤمنين} (169ـ171).
* * *
معاني المفردات:
[ويستبشرون]: يُمنحون البُشرى، وأصل البشارة ـ كما في مجمع البيان ـ من البشرة لظهور السرور فيها، ومنه: البشر لظهور بشرته، والمستبشر: من طلب السرور في البشارة فوجده[1].
[لَمْ يلحقوا]: لَحِقته ولحقتُ به: أدركته، ويُقال: لحقت الشيء وألحقت غيري، وقيل: لحقت وألحقت، لغتان بمعنى واحد.
[بنعمةٍ]: النعمة هي المنفعة التي يستحق بها الشكر إذا كانت خالية من وجوه القبح، لأنَّ المنفعة على ضربين: أحدهما منفعة اغترارٍ وحيلة، والآخر: منفعة خالصة من شائبة الإساءة. والنعمة تعظم بفعل غير المنعم، كنعمة النبيّ (ص) على من دعاه إلى الإسلام فاستجاب له، لأنَّ دعاءه أنفع من وجهين: أحدهما: حسن النية في دعائه إلى الحقّ ليستجيب له، والآخر: بقصده الدُّعاء إلى حقّ يعلم أن يستجيب له المدعوّ، وإنَّما يستدل بفعل غير المنعم على موضع النعمة في الجلالـة وعظم المنـزلة ـ كما جاء في مجمع البيان ـ [2].
* * *
مناسبة النزول:
جاء في مجمع البيان: «قيل: نزلت في شهداء بدر وكانوا أربعة عشر رجلاً: ثمانية من الأنصار، وستة من المهاجرين. وقيل: نزلت في شهداء أحد، وكانوا سبعين رجلاً: أربعة من المهاجرين، هم: حمزة بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وعثمان بن شمّاس، وعبد اللّه بن جحش، وسائرهم من الأنصار، عن ابن مسعود والربيع وقتادة. وقال الباقر (ع) وكثير من المفسِّرين: إنَّها تتناول قتلى بدر وأحد معاً.
وقيل: نزلت في شهداء بئر معونة، وكان سبب ذلك ما رواه محمَّد بن إسحاق بن يسار بإسناده عن أنس بن مالك وغيره، قالوا: قدم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر ملاعب الأسنة، وكان سيِّد بني عامر بن صعصعة، على رسول اللّه (ص) المدينة وأهدى له هدية، فأبى رسول اللّه(ص) أن يقبلها، وقال: يا أبا براء، لا أقبل هدية مشرك، فأسلم إن أردت أن أقبل هديتك. وقرأ عليه القرآن فلم يسلم ولـم يعد، وقال: يا محمَّد، إنَّ أمرك هذا الذي تدعو إليه حسن جميل، فلو بعثت رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد فدعوتهم إلى أمرك، رجوت أن يستجيبوا لك. فقال رسول اللّه (ص): إنّي أخشى عليهم أهل نجد. فقال أبو براء: أنا لهم جار، فابعثهم فليدعوا النَّاس إلى أمرك. فبعث رسول اللّه(ص) المنذر بن عمرو أخا بني ساعدة في سبعين رجلاً من خيار المسلمين، منهم الحارث بن الصمّة، وحرام بن ملحان، وعروة بن أسمى بن صلت السلمي، ونافع بن بديل بن ورقاء الخزاعي، وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر، وذلك في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أُحُد، فساروا حتّى نزلوا بئر معونة.
فلمّا نزلوا قال بعضهم لبعض: أيّكم يبلّغ رسالة رسول اللّه (ص) أهل هذه الماء؟ فقال حرام بن ملحان: أنا. فخرج بكتاب رسول اللّه (ص) إلى عامر بن الطفيل، فلمّا أتاهم لـم ينظر عامر في كتاب رسول اللّه، فقال حرام: يا أهل بئر معونة، إنّي رسولُ رسولِ اللّه إليكم، وأشهد أن لا إله إلاَّ اللّه وأنَّ محمَّداً رسول اللّه، فآمنوا باللّه تعالى ورسوله. فخرج إليه رجلٌ من كسر البيت برمح، فضرب به في جنبه حتّى خرج من الشقّ الآخر. فقال: اللّه أكبر فزت وربّ الكعبة، ثُمَّ استصرخ عامر بن الطفيل بني عامر على المسلمين، فأبوا أن يجيبوه إلى ما دعاهم إليه وقالوا: لن نخفر[3] أبا براء، قد عقد لهم عقداً وجواراً. فاستصرخ عليهم قبائل من بني سليم عصيّة ورِعْلاً وذكواناً فأجابوه إلى ذلك، فخرجوا حتّى غشوا القوم فأحاطوا بهم في رحالهم، فلمّا رأوهم أخذوا السيوف فقاتلوهم حتّى قتلوا عن آخرهم إلاَّ كعب بن زيد فإنَّهم تركوه وبه رمق، فَارْتُثَّ[3] بين القتلى، فعاش حتّى قُتل يوم الخندق، وكان في سرح القوم عمرو بن أميّة الضمري ورجلٌ من الأنصار أحد بني عمرو بن عوف، فلم ينبئهما بمصاب أصحابهما إلاَّ الطير يحوم حول العسكر، فقالوا: واللّه إنَّ لهذا الطير لشأناً. فأقبلا لينظرا إليه، فإذا القوم في دمائهم، وإذا الخيل التي أصابتهم واقفة، فقال الأنصاري لعمرو بن أميّة: ماذا ترى؟ قال: أرى أن نلحق برسول اللّه فنخبره الخبر، فقال الأنصاري: لكنّي ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قتل فيه المنذر بن عمرو، ثُمَّ قاتل القوم حتّى قُتل، وأخذوا عمرو بن أميّة أسيراً، فلمّا أخبرهم أنَّه من ضَمَر، أطلقه عامر بن الطفيل وجزّ ناصيته، وأعتقه عن رقبةٍ زعم أنَّها كانت على أبيه، فقدم عمرو بن أميّة على رسول اللّه (ص) وأخبره الخبر، فقال رسول اللّه (ص): هذا عمل أبي براء، وقد كنت لهذا كارهاً متخوفاً، فبلغ ذلك أبا براء فشقّ عليه إخفار عامر إياه وما أصاب رسول اللّه (ص) بسببه...
ـ قال ـ: وأنزل اللّه تعالى: [ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يُرزقُون] الآية[5].
* * *
صورة الموت عند الكافرين:
ويستمر القرآن ـ في هذه السورة ـ في أجواء المعركة التي يخوضها المسلمون ضدَّ الكفر والباطل، ليُعالج بعض الحالات النفسية التي يعيشها النَّاس إزاء الشهداء الذين يُقتلون في سبيل اللّه، فهم يعيشون جوّ المأساة والحسرة والألـم، فقد كان هؤلاء المجاهدون بينهم في حياتهم هذه، تتفجّر الحياة في وجوههم وعيونهم ونبضات قلوبهم... وفجأة تموت الحياة، فيخمد الإشراق في العيون، وتذبل الشفاه، وتهدأ الحركة في القلوب، ويتحوّل الإنسان إلى شيء مجرّد شيء يدفن ويتحلّل، كما يُدفن كلّ شيء ويتحلّل... وهكذا تعود الصورة السلبيّة للمصير لتتفاعل في النفس يأساً وخذلاناً يوحي للإنسان بالصورة القاتمة لما يخلّفه الجهاد في سبيل اللّه من آلام وأحزان، ما يدفع إلى التقاعس عنه أو الثورة عليه.
ولكن هذه الصورة ليست من فعل الإيمان باللّه واليوم الآخر، بل هي من فعل الكافرين الذين يقولون كما حدّثنا اللّه في كتابه: [إن هي إلاَّ حياتنا الدُّنيا وما نحن بمبعوثين] (الأنعام:29) فهم الذين يعيشون العقدة من الموت ومن كلِّ ما يقرّبهم إليه أو يربطهم به، لأنَّه يمثِّل الجدار الذي تتحطم عنده الحياة، ولا شيء وراء الجدار غير الظلام الأبديّ الذي لا يوحي بأيّة إشراقة من نور ولو من بعيد...
إنَّها الماديّة التي تخنق في الإنسان الشعور الحيّ بامتداد الحياة الأبدية في حياته حتّى ما بعد الموت، وبذلك يفقد الإنسان حيويّة الاندفاع إلى ساحة الموت من خلال الرغبة الذاتية التي تتعامل فيها الذات مع طبيعة الأشياء، أمّا الذين يندفعون منهم للقتال من خلال المبادئ الوطنية وغيرها، فهم لا يزالون يتحرّكون بفعل الرواسب الروحيّة التي تعيش في أعماقهم، وتحرّك دوافعهم لا شعورياً، وربَّما يوحون لأنفسهم في بعض الحالات بحياة أخرى هي حياة الذكر الخالد بعد الموت، أو حياة أمتهم من خلالهم، ولكنَّها أوهام خادعة على أساس التفكير الماديّ الذي لا يحسّ الإنسان معه بأيّ شيء من هذا القبيل بعد الموت، فما معنى أن يعمل له ليعيش من خلاله؟!
* * *
نظرة إسلاميّة للشهادة:
إنَّ هذه الصورة هي صورة التفكير المادي في فكر الذين يؤمنون به. أمّا الذين يؤمنون باللّه واليوم الآخر، فإنَّ الصورة عندهم تختلف كثيراً، فها هي الحياة تتفجّر من جديد بعد الموت، فليس الموت إلاَّ سفراً كما هو السفر الذي يمثِّل الانتقال من جوٍّ إلى جوٍّ آخر، ومن مرحلةٍ إلى مرحلةٍ أخرى، وفي هذه الحياة شقاء وسعادة، وفرح وألـم، وجحيم ونعيم... ولكن ذلك كلّه يمثِّل نتاج الحياة الأولى في ما عمله الإنسان من خير أو شر [فَمَنْ يَعْمَلْ مثقال ذرَّةٍ خيراً يرهُ * ومن يعمل مثقال ذرَّةٍ شراً يره] (الزلزلة:7ـ8).
وتتحرّك الصورة في وعينا الإيماني من خلال القرآن الكريـم، لتقدّم لنا الشهداء الذين جاهدوا في سبيل اللّه بالصورة المشرقة، التي تملأ الروح بالفرح الكبير الذي يوحي بالشعور العميق بالسعادة الروحيّة، بدلاً من الصورة الظاهرية القاتمة: [ولا تحسبنَّ الذين قتلوا في سبيل اللّه أمواتاً بل أحياءٌ عند ربِّهم يرزقون] فهم عند اللّه أحياء، تضج الحياة في داخلهم، وتشرق في عيونهم، وتتحرّك في مظاهر الحياة لديهم... وتلك هي الحياة التي لا يشوبها الكدر والألـم في ما يعيشه النَّاس في هذه الدُّنيا، [فرحين بما آتاهُمُ اللّه من فضله] فهم يعيشون الفرح الروحي، في ما أتاهم اللّه من فضله ولطفه ورحمته، وذلك هو الفرح الحقيقي الذي يحسّ الإنسان معه بالسعادة المطلقة التي لا تعكّر صفوها أيّة شائبة، مما كان يجده الفرحون في الدُّنيا الذين يفرحون لشهوةٍ أو لذّةٍ أو انتصار طارئ في الأجواء التي تمزج ذلك كلّه بالحسرة والألـم من جهات أخرى: [ويستبشرون بالذين لـم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون] ويمنحهم اللّه البُشرى بأولئك الذين تركوهم من خلفهم في الحياة لما يريهم اللّه من نعمته عليهم ولطفه بهم فيرتاحون لذلك.
ثُمَّ يُعطينا الجوّ الذي يعيشه هؤلاء عند اللّه، فهم يعيشون الأمن من الخوف، لأنَّ الخوف لا يكون إلاَّ من خلال حالةٍ صعبةٍ مترقّبةٍ، يواجه فيها الإنسان الألـم والشقاء، وليس عند اللّه للمؤمنين إلاَّ الفرح والسعادة، ويعيشون الأمن من الحزن الذي لا ينطلق إلاَّ من حالةٍ صعبةٍ يحسّ الإنسان بالأسف عليها فيحزن، وليس في حياة المؤمن في الدار الآخرة أيّ شيء أو أيّة خسارة يأسف عليها. فما معنى الخوف والحزن بعد ذلك؟!
وقد جاء في تفسير الميزان ملاحظة دقيقة في استيحاء قوله تعالى: [ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون] قال: «وهذه الجملة، أعني قوله: [ألا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون]، كلمة عجيبة، كلّما أمعنت في تدبّرها زاد اتساع معناها على لطف ورقةٍ وسهولة بيان، وأوّل ما يلوح من معناها أنَّ الخوف والحزن مرفوعان عنهم، والخوف إنَّما يكون من أمر ممكن محتمل يوجب انتفاء شيءٍ من سعادة الإنسان، وكذا الحزن إنَّما يكون من جهة أمر واقعٍ يوجب ذلك، فالبلية أو كلّ محذور إنَّما يخاف منها إذا لـم تقع بعدُ، فإذا وقعت زال الخوف وعرض الحزن، فلا خوف بعد الوقوع ولا حزن قبله.
فارتفاع مطلق الخوف عن الإنسان إنَّما يكون إذا لـم يكن ما عنده من وجوه النعم في معرض الزوال، وارتفاع مطلق الحزن إنَّما يتيسر له إذا لـم يفقد شيئاً من أنواع سعادته لا ابتداءً ولا بعد الوجدان، فرفعه تعالى مطلق الخوف والحزن عن الإنسان، معناه: أن يفيض عليه كلّ ما يمكنه أن يتنعم به ويستلذه، وأن لا يكون ذلك في معرض الزوال، وهذا هو خلود السعادة للإنسان وخلوده فيها.
ومن هنا يتضح أنَّ نفي الخوف والحزن هو بعينه ارتزاق الإنسان عند اللّه، فهو سبحانه يقول: [وما عند اللّه خيرٌ] (آل عمران:198)؛ ويقول: [وما عند اللّه باقٍ] (النحل:96)، فالآيتان تدلان على أنَّ ما عند اللّه نعمة باقية لا يشوبها نقمة ولا يعرضها فناء. ويتضح أيضاً أنَّ نفيهما هو بعينه إثبات النعمة والفضل، وهو العطية، لكن تقدّم في أوائل الكتاب وسيجيء في قوله تعالى: [مع الذين أنعم اللّه عليهم] (النساء:69) أنَّ النعمة إذا أطلقت في عرف القرآن فهي الولاية الإلهية، وعلى ذلك فالمعنى: أنَّ اللّه يتولى أمرهم ويخصّهم بعطيّةٍ منه»[6].
... وتتفايض البُشرى وتنساب حياة وفرحاً وسروراً في نفوسهم، فهم [يستبشرون بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ] وقد أجمل اللّه النعمة والفضل ليوحي بالتصوّر المطلق الذي يلتقي فيه الإنسان بما شاء له التصوّر من آفاق واسعة شاملة لا يصل إليه الخيال... ويشعرون بالحقيقة التي كانت تحملها لهم رسالات السَّماء في ما تحمله للمؤمنين من الوعد بالثواب الجزيل عند اللّه، وهي [وأنَّ اللّه لا يُضيعُ أجر المؤمنين] وها هم يرونه رأي العين في ما يرونهم من نعيم، وفي ما يفيض عليهم من رحمة ولطفٍ ورضوان.
ـــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:880.
(2) (م.س)، ج:2، ص:880.
(3) أخفره: نقض عهده وغدره.
(4) ارتُثّ: حمل من المعركة جريحاً وفيه رمق.
(5) مجمع البيان، ج:2، ص:881ـ882.
(6) تفسير الميزان، ج:4، ص:63 ـ 64.
تفسير القرآن