من الآية 172 الى الآية 175
الآيــات
{الذين استجابوا للّه والرَّسول من بعد ما أصابهُمُ القرحُ للذين أحسنوا منهم واتَّقوا أجرٌ عظيمٌ * الذين قال لهم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبُنا اللّه ونعم الوكيل * فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ لـم يمسسهم سوءٌ واتَّبعوا رضوان اللّه واللّهُ ذو فضلٍ عظيمٍ * إنَّما ذلكم الشَّيطانُ يخوِّفُ أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين} (172ـ175).
* * *
معاني المفردات:
[استجابوا]: استجاب وأجاب بمعنى واحدٍ، وقيل: استجاب طلب الإجابة، وأجاب: فعل الإجابة.
[القرح]: الجرح، وأصله: الخلوص من الكدر، ومنه: ماء قراح: أي خالص، والقراح من الأرض: ما خلص طينه من السبخ وغيره، والقريحة: خالص الطبيعة، واقترحت عليه كذا: أي: اشتهيته عليه لخلوصي على ما تتوق نفسه إليه، كأنَّه قال: استخلصته. وفرس قارح: طلع نابه لخلوصه عن نقص الصغار ببلوغ تلك الحال، والقرح: الجراح لخلوص ألمه إلى النفس.
[أحسنوا]: الإحسان: هو النفع الحسن.
[النَّاسُ]: النَّاس الأولى غير الثانية، فإنَّ المراد بالأولى: هم المثبطون المعوّقون الذين يعيشون النفاق وضعف الإيمان. والمراد بالثانية: هم الأعداء من المشركين وغيرهم. والنَّاس لغةً: هم الأفراد من الإنسان من حيث أخذ ما يتميّز به بعضهم عن البعض.
[جمعوا لكم]: جمعوا جموعهم وجنودهم وآراءهم لقتالكم، والجمع: لـمّ الأشياء المتفرّقة وضمّها بعضها إلى بعض. وأكثر ما يُستعمل جمع في الأعيان وأجمع في الآراء.
[فاخشوهم]: خافوهم وهابوهم. الخشية ـ كما يقول الراغب ـ خوف يشوبه تعظيم[1]
[حسبنا[: كافينا وناصرنا. وتستعمل «حسب» في معنى الكفاية، يقول صاحب المجمع: وأصل الحسب من الحساب،لأنَّ الكفاية بحسب الحاجة، وبحساب الحاجة ومنه: الحسبان وهو الظنّ[2].
[الوكيل]: الذي يدبّر الأمر، والناصر والمعين والكافي والحفيظ.
يُقال: وكّل أمره إلى غيره إذا اعتمد عليه فيه ووثق به أن ينجزه. قال تعالى: [وكفى باللّه وكيلاً] (النساء:81)؛ وأصله القيام بالتدبير، فمعنى الوكيل في صفات اللّه هو المتولي للقيام بتدبير خلقه، لأنَّه مالكهم الرحيم بهم.
* * *
مناسبة النزول:
جاء في المجمع: لما انصرف أبو سفيان وأصحابه من أُحُد فبلغوا الروحاء، ندموا على انصرافهم عن المسلمين وتلاوموا، فقالوا: لا محمَّداً قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، قتلتموهم حتّى إذا لـم يبقَ منهم إلاَّ الشريد تركتموهم، فارجعوا فاستأصلوهم. فبلغ ذلك الخبر رسول اللّه (ص)، فأراد أن يرهب العدوّ ويريهم من نفسه وأصحابه قوّةً، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيان وقال: ألا عصابة تشدّد لأمر اللّه تطلب عدوّها، فإنَّها أنكأ للعدوّ وأبعد للسمع. فانتدب عصابة منهم مع ما بهم من القراح والجراح الذي أصابهم يوم أُحد، ونادى منادي رسول اللّه (ص): ألا لا يخرجَنَّ أحدٌ إلاَّ من حضر يومنا بالأمس، وإنَّما خرج رسول اللّه (ص) ليُرهب العدوّ وليبلّغهم أنَّه خرج في طلبهم فيظنّوا به قوّةً، وأنَّ الذي أصابهم لـم يوهنهم من عدوّهم فينصرفوا، فخرج في سبعين رجلاً حتّى بلغ حمراء الأسد، وهي من المدينة على ثمانية أميال...
وروى محمَّد بن إسحاق بن يسار، عن عبد اللّه بن خارجة، عن زيد بن ثابت، عن أبي السائب، أنَّ رجلاً من أصحاب النبيّ (ص) من بني عبد الأشهل كان شهد أحداً قال: شهدت أُحداً أنا وأخ لي، فرجعنا جريحين. فلمّا أذّن مؤذّن رسول اللّه (ص) بالخروج في طلب العدوّ، قلنا: لا تفوتنا غزوة مع رسول اللّه (ص)، فواللّه ما لنا دابة نركبها وما منّا إلاَّ جريح ثقيل، فخرجنا مع رسول اللّه(ص)،وكنتُ أيسر جرحاً من أخي، فكنت إذا غُلب حملته عقبةً ومشى عقبةً، حتّى انتهينا مع رسول اللّه (ص) إلى حمراء الأسد ـ إلى ما انتهى إليه المسلمون ـ.
فمرّ برسول اللّه معبد الخزاعي بحمراء الأسد، وكانت خزاعة مسلمهم وكافرهم عيبة رسول اللّه (ص) بتهامة، صفقتهم معه لا يخفون عنه شيئاً، ومعبد يومئذٍ مشرك، فقال: يا محمَّد (ص)، واللّه لقد عزّ علينا ما أصابك في قومك وأصحابك، ولوددنا أنَّ اللّه كان أعفاك فيهم. ثُمَّ خرج من عند رسول اللّه (ص) حتّى لقي أبا سفيان ومن معه بالروحاء، وأجمعوا الرجعة إلى رسول اللّه (ص) وقالوا: قد أصبنا حدّ أصحابه وقادتهم وأشرافهم، ثُمَّ رجعنا قبل أن نستأصلهم.
فلمّا رأى أبو سفيان معبداً، قال: ما وراك يا معبد؟ قال: محمَّد قد خرج في أصحابه يطلبكم في جمعٍ لـم أرَ مثله قطّ، يتحرّقون عليكم تحرّقاً، وقد اجتمع عليه من كان تخلّف عنه في يومكم، وندموا على صنيعهم، وفيه من الحنق عليكم ما لـم أرَ مثله قطّ. قال: ويلك، ما تقول؟ قال: فأنا ـ واللّه ـ ما أراك ترتحل حتّى ترى نواصي الخيل. قال: فواللّه لقد أجمعنا الكرّة عليهم لنستأصلهم. قال: فأنا ـ واللّه ـ أنهاك عن ذلك...
قال: فثنى ذلك أبا سفيان ومن معه، ومرّ به ركب من عبد قيس، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: نريد المدينة. قال: فهل أنتم مبلّغون عنّي محمَّداً رسالة أرسلكم بها إليه، وأحمّل لكم إبلكم هذه زبيباً بعكاظ غداً إذا وافيتمونا؟ قالوا: نعم. قال: فإذا جئتموه فأخبروه أنّا قد أجمعنا الكرّة عليه وعلى أصحابه لنستأصل بقيتهم.
وانصرف أبو سفيان إلى مكة، ومرّ الركب برسول اللّه ـ وهو بحمراء الأسد ـ فأخبره بقول أبي سفيان، فقال رسول اللّه وأصحابه: حسبنا اللّه ونعم الوكيل[3]...
* * *
من صور الثبات الإسلامي:
وهذه صورة من صور الثبات والصمود في المجتمع الإسلامي، في ما تمثّلت به أجواء معركة أُحد، فقد ترك رسول اللّه (ص) ومعه المسلمون المعركة، وساروا في اتجاه المدينة، وكان هناك إحساسٌ بأنَّ المشركين قد يستغلون حالة الضعف الطارئة التي حدثت لهم بفعل الهزيمة، فيهجمون على المدينة للقضاء على الإسلام والمسلمين نهائياً. فأراد رسول اللّه (ص) أن يُبقي روح الاستعداد للقتال والتعبئة النفسية لدى المسلمين، لئلا يبتعدوا عن الجوّ ويفقدوا روح المبادرة، في الوقت الذي أراد فيه ـ أيضاً ـ أن يوحي للعدوّ بالاستعداد الدائم للوقوف ضدّه ولمواجهته، حتّى في أشدّ الحالات حراجةً، كالحالة التي كان المسلمون فيها آنـذاك، وهي حالة الخروج من الحرب بالهزيمة. ولهذا طلب الرَّسول (ص) من المسلمين أن يتجمعوا في معسكر قرب المدينة بكامل عدّتهم وقواهم، وكان فيهم ـ في ما يُقال ـ الجرحى والثكالى، واستجابوا للنبيّ في ما دعاهم إليه، واستطاعوا ـ من خلال ذلك ـ أن يضيّعوا على قريش فرصة المبادرة من جديد عندما فكّر بعض قادتهم في الهجوم على أساس عنصر المفاجأة، فتراجعوا عن ذلك عندما علموا بحالة الاستعداد القصوى لدى المسلمين في المدينة.
وقد جاءت هذه الآيات لتحدّثنا عن تلك التجربة، وعن الحالة النفسية القوية التي كان يعيشها النبيّ والذين آمنوا معه ضدَّ كلّ أساليب الانهزام الروحي التي كان الأعداء يُحاولون أن يثيروها في عمق مشاعرهم، من أجل أن يهزموهم في الداخل قبل أن يعملوا على هزيمتهم في المعركة. وتنطلق هذه الآيات في هذا الجوّ لتؤكّد على قيمة الجانب الإيماني الذي يربط القوّة باللّه، في تأكيد هذا الموقف الصلب الذي لا يخاف ولا يستكين.
[الذين استجابوا للّه والرَّسول من بعد ما أصابهُمُ القرحُ] وهو مفرد القروح، وهي حال خاصّة تصيب الجرح، وقد جاءت على سبيل الكناية عن حالة الألـم الناتج عن الهزيمة في ما كانوا يعيشون فيه من مشاعر وإحساسات عميقة صعبة، فلم تهزمهم بل صمدوا للتحدّيات المستقبليّة التي دعاهم اللّه ورسوله لمواجهتها، فاستجابوا للدعوة، لأنَّهم كانوا يشعرون بأنَّ أعداء الرسالة لن يكتفوا بمعركة واحدة ضدَّ الإسلام، ينتصرون أو ينهزمون فيها، بل هناك حرب مستمرة، ما دامت الرسالة تتقدّم في خطواتها الثابتة إلى الأمام. ولهذا كان الاستعداد النفسي للمسلمين مستمراً للدخول في المعركة الجديدة عندما تنتهي المعركة السابقة.
وقد حفظ اللّه لهم هذا الموقف في خطّ التَّقوى وفي روح الإحسان، فأعطاهم الأجر العظيم الذي يوازي عظمة الروح والموقف: [للذين أحسنوا منهم واتَّقوا أجرٌ عظيمٌ] وربَّما نستشعر من هذه الفقرة في الآية أنَّ اللّه يُعطي ثوابه للذين يتحرّكون في مواقفهم من مواقع التَّقوى والإحسان الكامنة في نفوسهم، المتحرّكة في أعمالهم المستقبلية في الخطّ المستقيم.
* * *
القوّة تكمن في الإيمان الرّاسخ:
وتتجسّد الصورة التي توحي بالقوّة من قاعدة الإيمان، فتهزم بروحيتها كلّ أساليب التخويف والترهيب [الذين قال لهم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قد جمعوا لكم فاخشوهم]، فقد انطلقت هذه الكلمات في عملية إيحاء بضخامة العدد والعدّة الذي يتمثّل في اجتماع هذا العدد الغفير من النَّاس لحرب المسلمين، بالمستوى الذي لا يستطيع المسلمون مواجهته على طريقة الحسابات الماديّة؛ الأمر الذي يدفع بهم إلى الشعور بالخوف من المشركين، فيتراجعون عن مواقفهم أمامهم أو يخففون من اندفاعهم في التحدِّيات التي يثيرونها في صراعهم مع الشرك، فيقبلون بالتسويات التي يأخذ فيها الإيمان حصّة ليأخذ الشرك في مقابلها حصة، فينتهي بهم الأمر إلى الانسحاب من مواقعهم الحقيقية في نهاية المطاف، لأنَّ الذين يتساهلون في بعض المواقف الحيوية تحت تأثير عامل الخوف سوف يتساهلون في القضايا والمواقف الأخرى للسبب نفسه في حالة أخرى.
ولكن هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا للّه وللرّسول، كانوا يعيشون الإيمان في أنفسهم كعاملٍ من عوامل الشعور العميق بالقوّة، من خلال الشعور بالانتماء إلى اللّه القويّ القادر، ولهذا كان ردّ فعلهم على هذا التحدّي مزيداً من التصعيد في حركة الإيمان في الداخل، لأنَّ المؤمن يعيش الانتماء إلى اللّه والاعتماد عليه واللجوء إليه في حالات التحدّي بالمستوى الذي يملأ نفسه بالقوّة، ويفرّغ داخله من كلّ مشاعر الضعف التي تهزم مواقفه... وبذلك يزداد إيماناً في فكره وشعوره، لأنَّ التجربة الصعبة لدى الواعين من المؤمنين لا تضعف الإيمان، بل تُنمّيه وتقوّيه، وتربطه بالأسس الثابتة التي ارتكز عليها وانطلق منها في ما يتحسسه من حركة الإيمان في خطّ الواقع، وفي ما يُعانيه من ارتباط التجربة بقضايا الإيمان.
وهناك نقطة أخرى، وهي أنَّ التحدِّيات الكافرة كلّما كبُرت كلّما كانت دليلاً جديداً على مستوى الخطورة التي تمثّلها حركة الإيمان ضدّ الكفر، ما يمنح المؤمن شعوراً بقوّة الموقف في قوّة الإيمان، لأنَّ ردّ الفعل في حركة الكفر في ما يمثّله من أساليب العدوان لا يدلّ على قوّة في الموقف، بل يوحي بحالة الضعف التي تدفع إلى التشنّج والانفعال العدواني. وفي هذا الموقف يشعر المؤمنون أنَّ عليهم مواصلة الفعل من مواقعهم القويّة، ليرتفع مستوى الحركة إلى أعلى ما يستطيع العاملون أن يبلغوه. وهذا هو وحي القرآن في تصويره لهذه الروح الفاعلة الصاعدة: [فزادهم إيماناً وقالوا حسبُنا اللّه ونعم الوكيل] فقد وازنوا بين قوّة هؤلاء النَّاس الذين جمعوا لهم، وعرفوا أنَّ قوّتهم لا تملك عمقاً ذاتياً في حسابات القوّة، ولا تملك امتداداً في التأثير، لأنَّها محدودة في ذاتها وفي أثرها... وبين قوّة اللّه المطلقة التي تمنح القوّة كما يشاء وتسلبها كما يشاء، وحدّدوا موقفهم على هذا الأساس، فاختاروا الارتباط بالمطلق ولـم يخضعوا للمحدود؛ فشعروا بالكفاية باللّه، فهو الذي يكفي من كلّ شيء ولا يكفي منه شيء، وهو الوكيل عن عباده المؤمنين في ما يقوم به من حمايتهم وحفظهم من كلّ سوء.
واستجاب اللّه لهذا الإيمان [فانقلبوا بنعمةٍ من اللّه وفضلٍ لـم يمسسهم سوءٌ]، وردّ اللّه كيد الأعداء إلى نحورهم، فتراجعوا أمام حالة الاستعداد القصوى للمؤمنين التي عاشها المؤمنون من خلال نعمة اللّه وفضله عليهم، [واتَّبعوا رضوان اللّه] في ما يأمرهم به من الوقوف مع رضوانه في مواقع الجهاد، [واللّهُ ذو فضلٍ عظيمٍ] في ما أعطاهم من قوّة الموقف من خلال قوّة الإيمان، فلم يستطع النَّاس أن يهزموهم بالكلمة، كما لـم يستطيعوا أن يهزموهم بالفعل. وذلك هو فضل اللّه على عباده في ما يفيض عليهم من نعمة القوّة الروحية التي لا تقف عند حدّ.
[إنَّما ذلكم الشَّيطانُ يُخوِّفُ أولياءه] فليس الخوف الذي يحدث للإنسان إلاَّ من خلال تسويلات الشَّيطان الذي يوحي له بالمشاعر السلبيّة، التي تُعطي الأشياء من حوله صورة غير واقعيّة، فتضخّم في وعيه القضايا الصغيرة، وتصغّر القضايا الكبيرة، وتضع أمامه صورة الموت الذي يُلغي أطماعه وشهواته؛ فيضعف أمام ذلك كلّه، ويتضاءل ويصغر ويتراجع عن مواقفه، وينسحب من مواقع الجهاد الصعب تحت تأثير عامل الخوف الناتج من ذلك كلّه... وذلك هو شأن أولياء الشَّيطان، يصغون بمسامع قلوبهم لوسوسته. أمّا أولياء اللّه فهم الذين لا يرتبطون بالحياة إلاَّ من خلال الإيمان باللّه الذي يمسك مقاليدها بيده، ويحرّكها بقدرته، ويضع خططها بحكمته، فهو الذي ينفع ويضر، وهو الذي يحيي ويميت وإليه المصير... وليست الحياة الدُّنيا نهاية المطاف، ليسقطوا أمام صورة النهاية في صورة الموت، بل هي بداية لحياة جديدة أخرى.
ولهذا فإنَّ الموت لا يمثِّل حالة سلبيّة في عمق الشعور الإنساني المطيع للّه، بل يحدث له حالة عكسيّة من الشعور الإيجابي بالشوق للقاء اللّه للحصول على رضوانه ونعيمه في الدار الآخرة. وهذا هو شعار المؤمنين في المعركة في ما حدّثنا اللّه عنه في قوله تعالى: [قل هل تربَّصُونَ بنا إلاَّ إحدى الحسنيين] (التوبة:52)؛ النصر أو الشهادة. [فلا تخافوهم] لأنَّهم لا يملكون القوّة الذاتية التي تخيف المؤمنين، [وخافونِ إن كنتم مؤمنين] بالوقوف أمام حدود اللّه في الثبات على خطّ الجهاد وعدم الانهزام أمام تحدّيات الأعداء، فإنَّ الإيمان موقف لحساب اللّه، وليس كلمةً عابرةً تنطلق به الشفاه في حالة شعورية سلبيّة في حركة الذات.
* * *
الجهاد حركة للحياة:
وقد نستوحي من هذه الآيات في أنَّها لـم تتحدّث عن التاريخ الجهادي للمسلمين كتاريخ محدود يتحرّك ضمن شخصيات معيّنة، بل تحدّثت عنه كنموذج من نماذج حركة الإسلام في الحياة في حركة المؤمنين الذين يواجهون تحدّيات الأعداء بالقوّة، فلا تصرعهم الهزيمة بل تزيدهم قوّةً واستعداداً للحصول على النصر من خلال اختزان دروس الهزيمة في داخلهم، وتحويلها إلى تجربةٍ رائدة في خطّ السير، ليُتابعوا الطريق ويستشعروا بالقوّة المتجدّدة بقدر ما يتجدّد الإيمان في نفوسهم.
وبذلك تتحوّل هذه القصة إلى درس نتعلّمه في مواقفنا عندما نقود معركتنا في صراعنا مع الكفر والظلم والاستعمار، فيُحاول الأعداء أن يستغلوا الأوضاع الشاذة في مجتمعاتنا ليثيروا فينا مشاعر الخوف من خلالها. فإنَّ المؤمن ينظر بنور اللّه، فيدرس الواقع، لا على أساس حدوده الضيّقة، بل على أساس المعطيات المستقبلية التي يمكن أن يقدّمها للمستقبل، في ما يوحي به من عملية حشد القوّة في الداخل والخارج من خلال الارتباط باللّه، فإنَّ الحياة بيد اللّه، فلا يملك أحد أن يسلب الحياة ممن يريد اللّه له ذلك. وهذا هو سرّ القوّة النفسية التي يواجه بها المؤمن الحرب النفسية التي يشنها الأعداء ضدّه، فيتزايد لديه الشعور بأنَّه يقف على أرض صلبة، وأنَّ رأسه مرفوع إلى السَّماء في اتجاه النور المتحرّك في آفاق اللّه.
وتربية التوكّل على اللّه التي نشأ عليها هؤلاء المسلمون من الصحابة في صدر الدعوة، هي السرّ في الثبات على الإسلام أمام كلّ التحدّيات الصعبة والأخطار الكبرى، فقد فهموه فهماً واعياً عميقاً واسعاً ممتداً في حركة الواقع الإنساني، وذلك بالأخذ بالأسباب التي أعدّها اللّه للأشياء في واقع الحياة في قضايا النصر والهزيمة مما يتصل بالأسباب الطبيعيّة، وبالانفتاح على اللّه في استلهام القوّة منه في الإمداد الغيبـي الذي يمدّ به عباده الصالحين في ساعات الشدّة، وفي مواقع التحدّي عندما يخضعون لبعض نقاط الضعف النفسية في ضعف بشريتهم، ووهن الإرادة واهتزاز الإحساس، وسيطرة الخوف والحزن من خلال أسبابها في الواقع، فينطلقون إلى اللّه يستمدون منه القوّة التي تنقذهم من ضعفهم، والأمن الذي يخلّصهم من خوفهم، والفرح الروحي الذي يُبعدهم عن حزنهم؛ فتمتلئ نفوسهم بالثقة أمام الأعداء.
فإذا كانوا يمثّلون القوّة الماديّة التي تغلب قوّة ماديّة مماثلة، فإنَّ اللّه يملك القوّة الغيبية التي لا تغلب ولا تقهر، وهكذا يتحوّل التوكل في معناه الإيماني إلى عنصر قوّة في الإنسان المؤمن، بحيث تطرد عنه كلّ عوامل الضعف، فينطلق إلى الحياة في كلّ قضاياها بثقةٍ فاعلةٍ، واطمئنان عميق، وموقف ثابت، وهذا هو شأن القوّة الروحيّة الإيمانيّة في الواقع الحركي للإنسان في مواجهة الشدائد.
ـــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:149.
(2) مجمع البيان، ج:2، ص:886.
(3) مجمع البيان، ج :2، ص:886ـ888.
تفسير القرآن