تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 176 إلى الآية 178

 من الآية 176 الى الآية 178

الآيــات

{ولا يحزنك الذين يُسارعون في الكفر إنَّهم لن يضرُّوا اللّه شيئاً يريد اللّه ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة ولهم عذابٌ عظيمٌ * إنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان لن يضُرُّوا اللّه شيئاً ولهم عذابٌ أليمٌ * ولا يحسبنَّ الذين كفروا أنَّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم إنَّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذابٌ مهينٌ}(176ـ178).

* * *

معاني المفردات:

[لا يحزنك]: لا يكدرك ولا يؤلمك.

[يُسارعون]: يُبادرون.

[حظّاً]: نصيباً.

[اشتروا]: أخذوا الكفر بدل الإيمان، كما يفعل المشتري بمبادلة المبيع بالثمن.

[نملي]: نمهل ونطيل المدّة. والإملاء: إطالة المدّة، والـمَلي: الحين الطويل، والملأ: الدهر، والـمَلَوان: الليل والنهار لطول تعاقبهما. والمراد من الإملاء هنا: ترك المعاجلة لعقوبتهم.

* * *

لا تحزن على الكافرين:

لقد كان الرَّسول (ص) يعيش في داخل نفسه الحزن العميق، من خلال ما يواجهه من كفر الكفّار الذين لا يتوقفون أمام دعوة الإيمان ليتأمّلوا ويفكّروا، ليؤمنوا من خلال ما تحمله الدعوة من براهين الحقّ؛ بل يُسارعون في الكفر والإنكار تحت تأثير رواسبهم وتقاليدهم وشهواتهم وعلاقاتهم الحميمة بآبائهم... فقد كان(ص) يعيش الإخلاص كلّه للّه، ويريد للنَّاس أن يلتقوا باللّه في عمليّة إيمان وطاعة، ليتعرّفوا عظمته من خلال خلقه، ويتحرّكوا في طاعته شكراً لنعمته.

ولكنَّ اللّه ـ سبحانه ـ لا يريد للرَّسول أن يحزن، بل يدعوه إلى أن يُقابل الموقف بشكلٍ طبيعي، فقد أقام عليهم الحجّة من خلال ما طرحه عليهم من أساليب الدعوة وأفكارها، مما لا يدع لهم مجالاً فكرياً للإنكار، فليس هناك تقصير من جهته إذا كان حزنه خوفاً من التقصير، وإذا كان ذلك خوفاً عليهم من الهلاك، فهم قد اختاروا لأنفسهم ذلك. أمّا إذا كان انفعالاً روحيّاً لمعصيتهم للّه وكفرهم به، فإنَّهم لن يضرّوا اللّه شيئاً، لا بلحاظ ذاته، لأنَّه الغني المطلق الذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه وكُفر من كفر به، بل هو الذي يملك أمر عقابهم، فمصيرهم خاضعٌ لما يريده لهم ـ بسبب كفرهم ـ من سوء العاقبة، فليس لهم حظّ في الآخرة في يما يملكه المطيعون من نعيم اللّه ورضوانه، ]ولهم عذابٌ عظيمٌ[ مما أعدّه اللّه للكافرين. وتلك هي قصة هؤلاء الذين كانوا في عهد الرسالة وتمرّدوا على الدعوة.

* * *

إرادة اللّه تتصل بإرادة الإنسان في مسؤوليّاته:

[ولا يحزنك] يا محمَّد في مسيرتك الرسالية المنطلقة في اتجاه إخراج النَّاس من الكفر إلى الإيمان، إذا رأيت ـ في الطريق ـ [الذين يُسارعون في الكفر] في مبادراتهم الفكرية والعملية، وفي حركتهم الواقعية مما يحاولون فيه أن يحافظوا على قيم الكفر وامتيازاته، ليعطلوا كلّ المبادرات الإيمانية التي تقوم بها بأساليبهم المتنوّعة، ووسائلهم المختلفة، فلا يثقل ذلك نفسك ولا يعطّل حركتك بالطريقة التي يثقل بها الحزن النفس الإنسانية، فيمنعها عن الاستمرار في الخطّ، ويعطّل حركتها في تنفيذ الخطّة، باعتبار أنَّ العوامل النفسية السلبيّة تترك تأثيراتها على الإنسان في تفكيره وحركته، فإنَّك إذا كنت تفكّر بالموضوع من خلال فضل مهمتك، فإنَّك تعرف أنَّ مهمتك تنتهي عند إبلاغ الدعوة بالوسائل الحكيمة التي تفتح فيها قلوب النَّاس على الحقّ النازل من عند اللّه، بحيث لا تترك أيّة فرصةٍ للهداية وأيّ أسلوب للإيمان إلا أتيت به، فإذا بلغت البلاغ الحسن، فقد حقّقت النجاح الرسالي في مرحلته الأولى.

[إنَّهم لن يضرُّوا اللّه شيئاً] لأنَّك اخترقت كلّ الحواجز التي نصبوها أمام الدعوة. ويبقى الصراع بين الكفر والإيمان يفرض نفسه على الساحة لينتهي في نهاية المطاف، بعد استكمال الشروط الموضوعية، إلى النتائج الحاسمة. وإذا كنت تحزن لأجل اللّه لأنَّهم أساءوا إليه وظلموه حقّه وتجرّأوا على مقامه وتمرّدوا عليه، فعليك أن لا تشعر بالمشكلة من هذه الجهة، إذ [يريد اللّه ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة] لأنَّ مسألة الكفر والإيمان لا تتصل باللّه في حاجته إلى ذلك، فهو الغنيّ عن عباده في أصل وجودهم، لأنَّه الذي خلقهم والقادر على إزالتهم بكلّ تفاصيل وجودهم، فهو الذي أعطاهم عقولهم وحواسهم وأجسادهم وما يحتاجونه مما خلقه في الأرض وفي السَّماء، مما يتوقف عليه وجودهم. أمّا معادلة الإيمان، فهي مسألتهم التي بها يسعدون ويغتنون ويرتاحون ويفلحون، وقد ترك اللّه لهم الحرية في ذلك، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر؛ فإذا كانوا قد اختاروا الكفر وتركوا دعوة اللّه، فإنَّ اللّه قد وكلهم إلى أنفسهم وأبعدهم عن رحمته، ومنع عنهم لطفه، وحكم عليهم بالضلال بعد اختيارهم له. وهذا هو الذي يؤدّي بالنتيجة إلى حرمانهم من كلّ حظّ في الآخرة من نعيم الجنّة ومواهب اللّه في العالم الآخر، وهذا هو تفسير قوله تعالى: [يريد اللّه ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة] فليست القضية قضية إرادة تكوينية تمنعهم من الحصول على فرصة السعادة في الآخرة فلا يملكون معها أيّة إمكانية لذلك، بل قضية اختيار منهم بعد أن أعطاهم اللّه فرصة الوصول إلى إيمانه من أوسع الأبواب، من خلال ما ركبه فيهم من الإرادة الحرّة التي يتحملون مسؤولية قراراتها، ما يؤدّي إلى النتائج السلبيّة. فإنَّ إرادة اللّه للأشياء تتصل بإرادة الإنسان في مسؤولياته، فإذا اختار الخير في حركة عمله أعطاه اللّه الخير في نتائجه، وإذا اختار الشرّ فإنَّ اللّه يريد لهم عند ذلك من موقع إرادته، أن لا يكون لهم حظّ في الآخرة [ولهم عذابٌ عظيمٌ].

وتنطلق الآية الثانية لتؤكّد الفكرة في نطاق عامّ شامل يطرح القضية في مستوى القاعدة الكليّة: [إنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان] في عمليّة اختيار ذاتيّة، لـم تفرضها عليهم شبهة فكريّة، بل كانت نتيجة حالة نفسية مرضيّة معقدة، فقد باعوا الإيمان بالكفر واستبدلوه به بعد وضوح الحقّ لديهم، [لن يضُرُّوا اللّه شيئاً] بل يضرُّون أنفسهم في ما يفقدونه من نعمة الإيمان الذي يفتح آفاق الإنسان على كلّ المعاني الطيبة في الحياة، ويوحي له بكلّ الأفكار الطاهرة المنفتحة التي تثير فيه مشاعر السموّ والخير والانطلاق... وماذا بعد ذلك؟ إنَّ الإضرار بأنفسهم لن يقتصر على الجانب السلبي، بل هناك الجانب الإيجابي الذي يتمثّل فيه العذاب الأليم [ولهم عذابٌ أليمٌ] بما اختاروه لأنفسهم من الكفر والعصيان.

* * *

العبرة في نهايات الأمور وعواقبها لا في بداياتها:

وتمتدّ الحياة بالكافرين وتنفتح لهم كلّ الأبواب التي تكفل لهم ما يريدونه من الرغبات والشهوات والفرص الماديّة والمعنويّة، وتطول أعمارهم، ويتقلّبون في نعيم الدُّنيا كما يحبّون، ويحسبون أنَّ في ذلك الخير كلّ الخير والسعادة كلّ السعادة... ولكن ما هو مقياس الخير؟ هل هو في ما يحصل عليه الإنسان من النعيم في حساب اللحظات السريعة الزائلة، أم هو في ما يعيشه من الرضى والطمأنينة والنعيم في حساب الخلود الدائم في نهاية المطاف، وإن كان ذلك من خلال الأذى والتعب والشقاء في بداية الأمر؟! وفي هذا الجوّ يمكن أن نُقرِّر حالة هؤلاء الكافرين في ما تخضع له من خير أو شر. ويحسم القرآن الموقف لمصلحة الفكرة التي تجعل القضية خاضعة للنتائج لا للبدايات، لأنَّها هي التي تعمّق السعادة في حياة الإنسان، فلا تكون مجرّد حالة طارئة تزول مع الزمن.

وتلك هي حالة الإحساس بالسعادة التي يعيشها الكافرون في امتداد الحياة لديهم [ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنَّما نملي لهم خيرٌ لأنفسهم] والإملاء: الإمهال وطول المدّة، لأنَّهم لا يتحرّكون في حياتهم من المواقع الصحيحة التي تربطهم بطاعة اللّه وما تؤدّي إليه من خير كثير، [إنَّما نملي لهم ليزدادوا إثماً] لأنَّ الكافر كلّما امتدّ به العمر كلّما ازداد معصيةً وإثماً وتمرّداً على اللّه... وفي ذلك الشرّ كلّ الشرّ في ما يؤدّي به إلى عذاب اللّه، وما يعنيه ذلك من سوء العاقبة. واللام هنا للعاقبة لا للغاية، كما هو واضح، فيكون وزانها وزان قوله تعالى: [فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوّاً وحزناً] (القصص:8)؛ فقد أخذوه ليكون لهم سروراً وقرّة عين، لأنَّهم انفتحوا على مستقبله معهم ليكون لهم ولداً في تمنياتهم العاطفية النفسية، ولكن جهلهم بأحداث المستقبل أخفى عنهم النتائج القاسية المرعبة التي تنتهي إليها علاقة هذا الوليد بهم، فسيتحوّل الأمر إلى أن يكون عاقبة أمره العداوة لهم من خلال عداوة الرَّسول للكافرين، والحزن العميق الذي تحمله المأساة التي سوف يعيشون في داخلها.

وهكذا يجد هؤلاء الذين كفروا أنَّ هذا الترف الذي يتنعمون به، وهذا الجاه الذي يتحرّكون فيه، وهذه الثروة التي يملكونها، وهؤلاء الأولاد الذين ينتسبون إليهم ويفرحون بهم، وغير ذلك من متاع الحياة الدُّنيا... سيجدون كلّ ذلك خيراً لأنفسهم، وأيّ خير في الدُّنيا أعظم من أن يملك الإنسان كلّ ما يحقّق رغباته وحاجاته وشهواته، ولكنَّهم ينطلقون في ذلك في استغراقهم في الدُّنيا التي يعتبرونها نهاية المطاف، ولا يلتفتون إلى أنَّهم سيواجهون الآخرة في كلّ مسؤولياتهم مما قدّموه من عمل خير أو شر، ليعرفوا أنَّ العبرة بأواخر الأمور وعواقبها لا ببداياتها وأولياتها، وسيرون أنَّ طول المدّة في الدُّنيا ـ في هذا الخطّ المنحرف الذي يتحرّكون فيه ـ سوف يكون زيادة في الإثـم، وخطورة في المسؤولية، وعذاباً مهيناً. وهكذا نعرف أنَّ اللّه لـم يرد لهم أن يزدادوا إثماً، لأنَّه خلقهم ليطيعوه وليحصلوا على جنّته من خلال الحصول على رضوانه، ولكنَّهم عندما ازدادوا معصية ازدادوا إثماً من خلال أنَّ النتيجة تتبع المقدّمـات [وما ظلمهم اللّه ولكن أنفسهم يظلمون] (آل عمران:117).

[ولهم عذابٌ مهينٌ] يعيشون في المهانة والإذلال والانسحاق في النَّار وبئس القرار.

* * *

على الداعية إخضاع انفعالاته للتفكير العقلاني:

وقد نحتاج إلى إثارة هذه الصورة في أجواء الدعوة إلى اللّه من خلال هذه الآيات، وذلك من أجل التخفيف من الحالة النفسية السيّئة التي تواجه الدُّعاة في ما يواجهونه من كفر الكافرين والابتعاد بهم عن المشاعر الضاغطة في ما يشاهدونه من امتداد الحياة بالكافرين مما يخيّل للنَّاس أنَّه الخير كلّ الخير، لا سيّما في مقابل ما يشاهدونه من البلاء الذي يصيب المؤمنين في أنفسهم وأموالهم... فإنَّ التركيز على الطبيعة الواقعية لهذا كلّه يربط العاملين بالحقائق الأساسية لحركة العمل، ولا يجعلهم تحت رحمة المشاعر الطارئة من خلال المظاهر والأوهام.

ولعلّ الفكرة التي نستوحيها من الآيتين هي أنَّ اللّه يريد للإنسان، سواء أكان نبيّاً أم وليّاً أم داعية إلى اللّه، ممن يتحرّكون في خطّ الدعوة، أن يجعل انفعالاته النفسية خاضعة للتفكير العقلاني الموضوعي الذي يحسب حسابات الواقع في حركة النَّاس من حولهم، وفي طبيعة الظروف المعقّدة المحيطة بهم، ليعرفوا أنَّ الداعية لا يملك انفعاله في دائرة الذات، بل يتحرّك بها في خطّ الرسالة التي تخطّط من أجل الوصول إلى عقول النَّاس وقلوبهم مما قد يكلّف الكثير من العناء والجهد والمشاكل العملية، وذلك من جهة أنَّ هناك أكثر من عقدةٍ فكريةٍ أو نفسيةٍ أو واقعيةٍ تتحكم في شخصيات أولئك الكافرين، الأمر الذي يحتاج إلى تجارب عديدة وصدمات متنوّعة تؤثّر تأثيراً بالغاً في إزالة الطبقة الصخرية المتحجّرة الملتصقة بعقولهم وقلوبهم، ولذلك فإنَّ المسألة تحتاج إلى الصبر، والصبر يحتاج إلى الوعي المعرفي والروحي لحجم المشكلة في الواقع، ليكون الداعية منفتح العقل والروح والقلب والحركة على ذلك من أجل الوصول إلى تنفيذ خطّة الدعوة في تفسير الإنسان.

إنَّ على الداعية أن يتحرّك ـ في ساحة الصراع ـ بمزاج الرسالة التي لا تعيش تحت تأثير الانفعال، بل تعيش في دائرة العقل المتحرّك في اتجاه عناصر النجاح الواقعية للدعوة.

ولعلّ مشكلة البعض من الدُّعاة أنَّهم يربكون حركة الدعوة بانفعالاتهم الذاتية، وقد نجد البعض منهم يسقط أمام تهاويل القوى المضادة، لأنَّ ذلك يثقل نفسه، ويحطّم كرامته، ويوحي إليه بالمهانة والإذلال، وقد يتطوّر الأمر ببعض هؤلاء فيخضع للمشاعر المنحرفة التي تؤدّي به إلى الإحساس بخذلان اللّه لأوليائه ونصرته لأعدائه، مما يراه من امتداد سلطة الأعداء وانحسار فاعلية الأولياء، وذلك من خلال النظرة السطحية الانفعالية إلى الأمور، والابتعاد عن النظرة العميقة الواسعة المنفتحة على واقع الحياة والإنسان.

وهذا ما يجب على العاملين في حقل الدعوة إلى اللّه أن يفهموه ويتدبروه ويخطّطوا له في تربية الدّعاة، وترشيد الحركة، وتصويب الوسائل، وتثبيت المواقف والمواقع.

وفي ضوء ذلك، فإنَّنا لا نفهم النهي عن الحزن في مسارعة الكافرين في الكفر أنَّه أسلوب من أساليب التسلية، بل هو وسيلة من وسائل الوعي لحركة المفاهيم العقيدية في وجدان الإنسان المسلم، ليمنعه ذلك من الضعف والانسحاق أمام مظاهر التحدّي، وذلك من خلال دراسة العناصر الموضوعية التي قد تجعل من ظاهرة الهزيمة في السطح واللحظة عملية نصر في العمق والامتداد. واللّه العالم.