تفسير القرآن
آل عمران / الآية 180

 الآية 180

الآيــة

{ولا يحسبنَّ الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم سيُطوَّقون بما بخلوا به يوم القيامة وللّه ميراث السَّماوات والأرض واللّه بما تعملون خبيرٌ}(180).

* * *

معاني المفردات:

[يبخلون]: يمسكون أشياءهم عمّن لا يحقّ حبسها عنهم، والبخل ـ كما يقول الراغب ـ ضربان: بخل بقنيّات نفسه، وبخل بقنيّات غيره، وهو أكثرهما ذمّاً، دليلنا على ذلك قوله تعالى: [الذين يبخلون ويأمرون النَّاس بالبخل][1] (النساء:37).

[سيُطوَّقُون]: أي: سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق، وفي أمثالهم: تقلّدها طوق الحمامة، إذا جاء بهنةٍ يسبّ بها ويذمّ، وقيل: يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوّقها في عنقه يوم القيامة، تنهشه من قرنه إلى قدمه، وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك. وأصل الطواق: هو ما يجعل في العنق خِلقةً كطوق الحمام، أو صنعةً كطوق الذهب والفضة.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في أسباب النـزول للواحدي عن جمهور المفسِّرين أنَّها نزلت في مانعي الزكاة، وروى عطية عن ابن عباس: أنَّها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمَّد (ص) ونبوّته، وأراد بالبخل: كتمان العلم الذي أتاهم اللّه تعالى[2].

* * *

للّه ميراث السَّماوات والأرض:

في هذه الآية بداية الحديث عن بعض النماذج البشريّة الموجودة في كلّ زمانٍ ومكان، وذلك من أجل أن يتعرّف الإنسان على ملامح الخيّرين ليعيش بينهم ويتعاون معهم، وعلى ملامح الشرّيرين من أجل أن يبتعد عنهم ويختلف معهم... وربَّما كانت النماذج التي تحدّثت عنها هذه الآية من الشخصيات اليهودية الإسرائيليّة التي لـم تتبدل في طريقة تفكيرها وأخلاقيتها طيلة القرون، فهم لا يعيشون الدِّين إلاَّ على أساس عصبية خاصّة في داخل مجتمعهم، وليسوا مستعدّين للتعايش مع الآخرين من مواقع إنسانية عامّة تدفعهم إلى البذل والعطاء، ككلّ مجتمع أناني منغلق على نفسه...

وقد تكون هذه الآيات مقدّمةً لما يريد القرآن أن يعرضه من النماذج، فإنَّ اللّه يريد أن يوحي بعمق النتائج السيّئة التي تواجه البخلاء في ما يبخلون به مما رزقهم اللّه من مال عندما يدعون إلى الإنفاق في سبيل اللّه، سواء في ذلك الفئات المحرومة التي تحتاج إلى المساعدة في رعاية أمورها الحياتية الملحّة، أو الدعوات الدينيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي تبني للأمّة حياتها العامّة والخاصّة، أو المشاريع الخيرية التي يحتاجها المستضعفون في قضاياهم الحيويّة وأوضاعهم المأساوية من يُتم وحرمان وتشريد وغير ذلك... فهم يحسبون أنَّ البخل خير لهم لما يوفره لهم من مال يختزنونه، فلا ينقص من رصيدهم شيء.

وتلك هي النظرة الساذجة للأشياء التي تنظر إلى الأمور من خلال ظواهرها لا من خلال بواطنها، ويواجهون الأعمال فيحكمون عليها من موقع بداياتها لا من موقع النتائج. ولو أنَّهم درسوا القضية من مواقعها الحقيقية، لتغيّرت نظراتهم واختلفت حساباتهم. فهذا المال ليس مالهم في الحقيقة، بل هو عطيّة من اللّه الذي أتاهم إيّاه من فضله لينفقوه على أنفسهم في ما يحتاجونه من أمورهم الحياتية، ولينفقوه على الآخرين في ما يواجههم من حاجات الحياة مما لا يملكون الإنفاق عليه، فإذا بخل الإنسان به، فإنَّ ذلك يوحي بالإساءة إلى الدور الذي أراد اللّه له أن يقوم به، كما أنَّه يبعده عن السير مع مصلحته، بما يحصل عليه من نتائج جيّدة لحساب دنياه وآخرته، على تقدير الإنفاق، وبذلك لن يكون البخل خيراً له، لأنَّ قضية الخير والشرّ في أيّ عمل من الأعمال لا تُقاس على أساس البدايات، بل على أساس النتائج الإيجابيّة والسلبيّة له.

وهذا ما أراد اللّه أن يثيره أمام هؤلاء الذين يبخلون بما أتاهم اللّه من فضله، في قوله تعالى: [ولا يحسبنَّ الذين يبخلون بما آتاهُمُ اللّه من فضله هو خيراً لهم بل هو شرٌّ لهم]وقد أطلق القرآن كلمة الشرّ، فلم يحدّد مسارها بشكلٍ صريح، ليعيش الإنسان البخيل الآفاق الواسعة التي ينتظر فيها النتائج السلبيّة من عمله في الدُّنيا والآخرة... ولكنَّه تحدّث له عن النتائج الأخروية بما يوحي بضرورة الإحساس بالأهميّة لقضايا الآخرة في عذابها وثوابها، عندما تدعوه شهواته وأطماعه للانحراف عن الخطّ المستقيم من أجل نتائج الحياة الدُّنيا، ليدخل الإنسان في عملية مقارنةٍ دقيقة بين ربح العاجلة وخسران الآجلة، في ما يستعجله من نعيم الدُّنيا، وينتظره من شقاء الآخرة، وذلك هو قوله تعالى: [سيطوَّقُون ما بخلوا به يوم القيامة] فإنَّ هذه الأموال التي كنـزوها ستتحوّل إلى أغلال في أعناقهم يطوَّقون بها كما يطوَّقون بالأغلال في الدُّنيا. وقد يكون التعبير استعارةً أو كنايةً عن العذاب، من خلال أنَّ البخل ينطلق من حالة داخليّة يشعر الإنسان معها بما يشبه حالة المثقل بالقيود التي تمنعه عن الحركة في الاتجاه الذي يريده، لأنَّ الأفكار السلبيّة الداخليّة تتحوّل إلى قيد فكري أو نفسي يمنع الإنسان عن التحرّكات الخيّرة ليبقى محصوراً في المجالات الضيّقة المحدودة.

ثُمَّ يثير القرآن في هذه الآية الفكرة الحاسمة أمام البخلاء: [وللّه ميراث السَّماوات والأرض واللّه بما تعملون خبيرٌ]، وهي أنَّ هذا المال الذي تُحافظون عليه وتحبسونه فلا تنفقونه، لن يبقى لكم، بل سوف تفارقونه ليبقى في الأرض من بعدكم، لأنَّ علاقتكم به ـ كعلاقة غيركم ـ هي علاقة طارئة تتحدّد بحسب الدور العملي الذي يمكنكم القيام به، وذلك بأن تحرّكوه في المجالات التي أراد اللّه لكم أن تحرّكوه فيها، في بناء الحياة والإنسان على أساس الخير الشامل، لتبقى لكم نتائجه الطيّبة عند اللّه، فبذلك يتحقّق لكم ربحه ودوامه. أمّا إذا لـم تقوموا بدوركم إزاءه، وأهملتم أمره، فسيفارقكم وتفارقونه، وتبقى أمامكم تبعاته ونتائجه السلبيّة، ويبقى الأمر كلّه للّه في ما تشتمل عليه السَّماوات والأرض، وما يقوم النَّاس به من أعمال لا يغيب عنها علمه، فهو خبير بكلّ ما يعملون، ليجزيهم بما عملوا من خير أو شر...

* * *

مع رواية ابن عباس في تفسير الآية:

وهناك رواية عن ابن عباس أنَّ الآية نزلت في كتمان العلم الذي قام به أحباره اليهود ـ في عصر الدعوة ـ عندما كتموا صفة محمَّد ونبوّته التي جاءت بها التوراة.

وفي ضوء ذلك، فإنَّ الآية تتحدّث عن العلم كطاقة معنوية فكرية من طاقات الإنسانية التي وزّعها اللّه على بني الإنسان، ليقوم كلّ واحدٍ منهم بتقديمها للنَّاس كافةً من خلال حاجاتهم المتنوّعة للمعرفة المتصلة بقضاياهم العقيديّة والفكريّة والعمليّة، لأنَّها أمانة اللّه عندهم، وليست ملكاً ذاتياً لهم يتصرّفون فيه ـ بحرية ـ كما يتصرّفون في خصوصياتهم، وبذلك فإنَّ البخل بالعلم، لا سيّما الذي يتصل بقضية الهدى والضلال، يمثِّل الخيانة الثقافية للأمانات الإلهية عند النَّاس، وبالتالي فهي أمانة النَّاس عندهم. وقد جاءت الآيات المتنوّعة التي تحذّر النَّاس من كتمان العلم الذي يتصل بالمسؤولية العقيدية للإنسان، كما في قوله تعالى: [إنَّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البيِّنات والهدى من بعد ما بيَّنَّاه للنَّاس في الكتاب أولئك يلعنهم اللّه ويلعنهم اللاعنون] (البقرة:159)؛ وقوله تعالى: [إنَّ الذين يكتمون ما أنزل اللّه من الكتاب ويشترون به ثمناً قليلاً أولئك ما يأكلون في بطونهم إلاَّ النَّار ولا يُكلِّمهم اللّه يوم القيامة ولا يزكِّيهم ولهم عذابٌ أليمٌ] (البقرة:174).

وهكذا نستوحي من ذلك أنَّ العلم أمانة اللّه عند العالم، لا سيّما في الظروف الصعبة التي يمثِّل فيها كشف العلم حركة رائدةً في مواجهة التحدِّيات المضادة للإسلام وأهله، وهذا ما يوحي به الحديث النبوي المأثور: «إذا ظهرت البِدع في أمّتي فليظهر العالـم علمه وإلاَّ فعليه لعنة اللّه».

ولكن الظاهر من سياق الآية ـ بلحاظ ما بعدها من الآيات ـ يدل على أنَّها واردة في البخل بالمال لا بالعلم، ما يجعل شمولها للبخل بالعلم عمليةً استيحائية من خلال الانتقال من المادي إلى المعنوي على الطريقة التي جرى بها أئمَّة أهل البيت (ع) في تفسير بعض الآيات من استيحاء المعنوي من الحديث عـن المادّي، كما ورد في تفسير قوله تعالـى: [فلينظر الإنسان إلى طعامه] (عبس:24) قال: علمه. ومن المعلوم أنَّ هذا ليس تفسيراً لكلمة الطَّعام ـ حتَّى بنحو المجاز ـ لأنَّ السياق في الآيات التي بعدها لا تتناسب مع ذلك، ولكنَّه استيحاء لفضل اللّه على الإنسان بالعلم بالدرجة العليا التي يتقدّم بها على الغذاء المادي.

* * *

علاقة الآية بتجسّم الأعمال:

وقد حاول بعض المفسِّرين الذين يلتزمون تجسّم الأعمال في يوم القيامة بالصورة المادية المماثلة لصورتها في الدُّنيا، أن يجد في الآية دلالة على هذه الفكرة، فذكر أنَّ هذه الأموال التي لـم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها، ولـم ينتفع بها المجتمع، بل صرفت في سبيل الأهواء الشخصية، سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان، أي أنَّها ـ طبقاً لقانون تجسّم الأعمال البشرية ـ ستتجسّم يوم القيامة، وتتمثّل في شكل عذاب مؤلـم يؤذي صاحبها ويخزيه[3].

ولكنَّنا نرى أنَّ نظرية تجسّم الأعمال انطلقت ـ في أغلب أدلتها ـ من الفهم الحرفي للنص القرآني، وهو أمر لا يتناسب مع القيمة البلاغية للأسلوب، التي تنفتح على الاستعارة والكناية والمجاز من خلال القرائن المحيطة بالنص، كما في هذه الآية، فإنَّ التطويق بالمال الذي بخلوا به كناية عن حملهم مسؤوليته السلبيّة بإيقاع العذاب بهم لعدم دفعهم لحقوق اللّه، وذلك بأن يلزموا وبال ما بخلوا به إلزام الطـوق ـ كما جاء في تفسير الكشاف[4] ـ أو يعود عليهم وباله فيصير طوقاً لأعناقهم، كقوله: [وكلَّ إنسانٍ ألزمناه طائره في عنقه] (الإسراء:13)؛ ـ كما عن ابن مسلم ـ قال: والعرب تعبّر بالرقبة والعنق عن جميع البدن، ألا ترى إلى قوله: [فتحرير رقبةٍ][5]؛ واللّه العالم.

ــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:35.

(2) انظر: أسباب النزول، ص:74.

(3) انظر: الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مؤسسة البعثة، بيروت، ط:1، 1413هـ ـ 1992م، ج:3، ص:23.

(4) انظر: تفسير الكشاف، ج:1، ص:484.

(5) مجمع البيان، ج:2، ص:897.