تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 181 إلى الآية 182

 من الآية 181 الى الآية 182

الآيتـان

{لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إنَّ اللّه فقيرٌ ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ ونقول ذوقوا عذاب الحريق* ذلك بما قدَّمت أيديكم وأنَّ اللّه ليس بظلامٍ للعبيد} (181ـ182).

* * *

معاني المفردات:

[سمع]: يُقال: سمع يسمع سمعاً إذا أدرك بحاسة الأذن، واللّه يسمع من غير إدراك بحاسة، والسميع: من هو على حالة يسمع لأجلها المسموعات إذا وجدت، والسامع: المدرك لذلك.

[ذوقوا]: قال الخليل ـ كما في مجمع البيان ـ كلّ ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه إلاَّ أنَّه توسع، وجاء في الخبر: «حتّى تذوقي عسيلته ويذوق من عسيلتك» كنَّى بذلك عن الجماع، وهذا من الكنايات المليحة[1]. وأصل الذوق: إدراك الطعم في الفم، ثُمَّ استعمل في إدراك سائر المحسوسات كما في هذه الآية.

[الحريق]: أي العذاب المحرق والمؤلم، والحريق: اسم للملتهبة من النَّار، والنَّار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة.

* * *

مناسبة النزول:

أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتـم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: دخل أبو بكر بيت المدارس[2]، فوجد يهوداً قد اجتمعوا إلى رجل منهم يُقال له فنحاص، وكان من علمائهم وأحبارهم، فقال أبو بكر: ويلك يا فنحاص! اتّق اللّه وأسلم، فواللّه إنَّك لتعلم أنَّ محمَّداً رسول اللّه تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فقال فنحاص: واللّه يا أبا بكر ما بنا إلى اللّه من فقر، وإنَّه إلينا لفقير، وما نتضرّع إليه كما يتضرّع إلينا، وإنَّا عنه لأغنياء، ولو كان غنيّاً عنّا ما استقرض منّا، كما يزعم صاحبكم، ينهاكم عن الربا ويعطينا، ولو كان غنيّاً عنّا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربةً شديدة وقال: والذي نفسي بيده، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ اللّه. فذهب فنحاص إلى رسول اللّه(ص) فقال: يا محمَّد، انظر ما صنع صاحبك، فقال رسول اللّه(ص) لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول اللّه، قال قولاً عظيماً، يزعم أنَّ اللّه فقير، وأنَّهم عنه أغنياء. فلمّا قال ذلك غضبت للّه مما قال، فضربت وجهه. فجحد فنحاص فقال: ما قلت ذلك، فأنزل اللّه في ما قال فنحاص تصديقاً لأبـي بكر: [لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إنَّ اللّه فقيرٌ] الآية[3].

مفهوم الغنى الخاطئ:

وهذه بعض النماذج البشرية في ملامحها الذاتية من خلال كلماتها، وهي نماذج الأغنياء الذين يعيشون المال كقيمةٍ حياتية يرتفعون بها في ميزان أنفسهم، فهم يُعانون الضعف النفسي أمام قصة الغنى والفقر، ويحسّون بالانسحاق الروحي إزاء المال، وبذلك تتحوّل نظرتهم إلى الأشياء والأشخاص تبعاً لمواقعها ومواقعهم من حركة المال في الحياة، لأنَّهم لا يرون الحياة إلاَّ من خلاله، فيقفون عنده ولا يتجاوزونه إلى ما وراءه من آفاقٍ وعقائد.

وتتعاظم هذه العقدة ـ النظرة لدى هذه النماذج، فيحوّلونها إلى مواقف وكلمات لا توحي لسامعها إلاَّ بالسخريّة، وهذا ما عبّر عنه قوله تعالى: [لقد سمع اللّه قول الذين قالوا إنَّ اللّه فقيرٌ ونحن أغنياء]، فقد واجهوا الأنبياء الدّاعين إلى اللّه، ورأوا أنَّهم لا يملكون المال؛ فخيّل إليهم أنَّ فقرهم يدلّ على أنَّ اللّه فقير، لأنَّه لو كان غنياً لتمثّل غناه في غنى الذين يؤمنون به ويدعون إليه... أمّا هم، فإنَّهم الأغنياء الذين يملكون المال الكثير، الذي يستطيعون من خلاله أن يملكوا السلطة والسيطرة والقوّة. وفي ذلك الجوّ، لا يبقى هناك مجال لأن يسيروا مع الأنبياء، إذ كيف يخضع الغنيّ للفقير في عالـم تتحرّك فيه القيم من خلال الغنى والفقر، لأنَّ الفقر يعني الضعف على أساس الحاجة، بينما يعني الغنى القوّة على أساس عدم الحاجة. وهذا هو التفسير الذي يفسِّرون به دعوة اللّه لهم للعطاء، فإنَّها توحي بحاجته إليهم من أجل أن يعينوا عباده، ما يوحي لهم بالشعور بالفوقية التي تمنعهم من الإيمان، وذلك هو أعلى مظاهر الطغيان والتجبر.

وقد أثار القرآن الفكرة في أسلوب لا يعمل على مناقشتها كونها الفكرة التي لا تثبت أمام الوهم فضلاً عن الفكر، بل أطلق الأسلوب في مجال التهديد. فقد سمع اللّه قولهم وسيكتب ما قالوا ليواجههم به يوم القيامة ويعاقبهم عليه، [سنكتب ما قالوا] فذلك هو الأسلوب الطبيعي الذي يُقابل هذا المنطق، لأنَّه لم ينطلق من قناعة ليُقابل بقناعةٍ أخرى، ولـم يتحرّك من حجّة ليواجه بحجّة أخرى، بل هو ناشئ عن عقدة كبرياء وطغيان. واللّه لا يسمح للمتجبرين والطغاة أن يأخذوا حريتهم بالحوار، لأنَّهم لا يفهمون كلمة الحقّ ولا يريدون أن يفهموها، فقد اختاروا الباطل على أساس موقف لا على أساس علم وفكر؛ فلا بُدَّ من مخاطبتهم باللغة التي يفهمونها، وهي القوّة التي كانوا يخاطبون بها النَّاس، وذلك من أجل تحطيم كبريائهم وإضعاف زهو القوّة في نفوسهم.

[وقتلهم الأنبياء بغير حقٍّ] وهذا دليل على أنَّهم لا يعيشون مسؤولية الكلمة التي يسمعونها ليفكّروا بها ويعملوا على أساسها، فقد واجههم هؤلاء الأنبياء بالحقيقة، وبلّغوهم كلّ ما يتعلّق بها ويدعو إليها من آيات اللّه، وفتحوا أمامهم أبواب الحوار، ولكنَّهم لـم يستجيبوا لذلك كلّه، فلم يُحاولوا سماع الكلمات الإلهية فضلاً عن مناقشتها، بل واجهوهم بالقتل، كما هو أسلوب الطغاة الذين يملكون المال والقوّة والسلطة، فينطلقون منها لإسكات كلّ أصوات المعارضة بالقوّة، ولا يسمحون لها بالدخول في حوار جدّي معهم ومع بقيّة فئات الأمّة من أجل الوصول إلى القناعات من خلال الحوار. وهكذا يلتقي الأسلوب القديـم لطغاة المال والسلطة، بالأسلوب الجديد لأمثالهم، في مواجهة الرسالات بالقوّة، سواء كان الذين يحملونها أنبياءً أو كانوا من حملة رسالتهم، لأنَّ القضية ليست موجّهة إلى الشخص لتكون له خصوصيته الذاتية، بل هي موجّهة إلى الفكرة والرسالة.

وهكذا يجب أن نقرأ هذه الآية، فهي ليست حديثاً من أحاديث الماضي، بل هي حديث من أحاديث الحياة التي ينطلق فيها الماضي ليلتقي بالحاضر والمستقبل في كلّ التحدِّيات التي يواجه فيها الإيمان الكفر، فإنَّ العقلية التي عاشت في الماضي هي العقليّة التي تعيش الآن، وبذلك يجب أن يكون الأسلوب هو الأسلوب والردّ هو الردّ.

* * *

قانون العدالة الإلهية:

[ونقول ذوقوا عذاب الحريق] فليس هناك إلاَّ لعذاب المحرق المؤلـم، فقد قامت الحجّة عليهم واستنفدت كلّ الوسائل... [ذلك بما قدَّمت أيديكم] من خطايا وجرائم وطغيان، فإنَّ الإنسان الذي يقف في خطّ الانحراف والتمرّد على اللّه في كلّ أعماله وأقواله وعلاقاته وأوضاعه، لا بُدَّ من أن يواجه نتائج كلّ ذلك عقاباً وعذاباً من خلال ارتباط نتائج المسؤولية بمقدّماتها، فهم قد اختاروها بإرادتهم باختيار أسبابها، فقد حذرهم اللّه من ذلك كلّه، وأنذرهم عذابه إذا خالفوا أوامره ونواهيه؛ ولـم يخافوا مقام ربّهم، وها هم يواجهون الموقف من موقع قانون العدالة الإلهية، فإنَّه جعل لهم حرية الاختيار، وأراد لهم اختيار خطّ الاستقامة، فكانت النتائج السلبيّة من صنع أيديهم.

وقد لا تقتصر على ذلك بالنتائج السلبيّة في الآخرة، بل تتصل ـ إلى جانب ذلك ـ بالنتائج السلبيّة في الدُّنيا، لأنَّ لكلّ عمل آثاره السلبيّة في حياة النَّاس الذين يعملونه، وقد أشار القرآن إلى ذلك في أكثر من آية، كما في قوله تعالى: [ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي النَّاس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلَّهم يرجعون] (الروم:41) وقد جاء في حديث الإمام عليّ (ع) في نهج البلاغة أنَّه قال: «وأيم اللّه، ما كان قوم قطّ في غضّ نعمة من عيش فزال عنهم إلاَّ بذنوب اجترحوها، لأنَّ اللّه ليس بظلامٍ للعبيد»[4].

[وأنَّ اللّه ليس بظلامٍ للعبيد] فهو الحكم العدل الذي لا يظلم أحداً، لأنَّه القويّ الذي لا يحتاج إلى الظلم، إذ لا يحتاج إليه إلاَّ الضعيف، تعالى اللّه عن ذلك علوّاً كبيراً.

ــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:898.

(2) المدارس والمدرس: الموضع الذي يدرس فيه، والمدرس أيضاً: الكتاب.

(3) الدر المنثور، ج:2، ص:396.

(4) نهج البلاغة، الخطبة/178، ص:186.