تفسير القرآن
آل عمران / الآية 183

 الآية 183

الآيــة

{الذين قالوا إنَّ اللّه عهد إلينا ألا نؤمن لرسولٍ حتَّى يأتينا بقربانٍ تأكله النَّار قل قد جاءكم رسلٌ من قبلي بالبيِّنات وبالذي قلتم فَلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين}(183).

* * *

معاني المفردات:

[بقربانٍ]: مصدر على وزن غدوان وخُسران، تقول قربت قرباناً؛ وقد يكون اسماً كالبرهان والسلطان، وهو كلّ برّ يتقرّب به العبد إلى اللّه. قال الراغب: وصار في التعارف اسماً للنسيكة التي هي الذبيحة[1].

[تأكله النَّارُ]: وهذا دلالة على قبول القربان، وقد كانوا يعتقدون بأنَّ النَّار تأتي من السَّماء لتحرق وتأكل القربان الصادق الحقّ.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في أسباب النـزول ـ للواحدي ـ قال الكلبي: نزلت في كعب بن الأشرف، ومالك بن الضيف، ووهب بن يهوذا، وزيد بن تابوه، وفي فنحاص بن عازوراء، وحيي ابن أخطب، أتوا رسول اللّه (ص) فقالوا: تزعم أنَّ اللّه بعثك إلينا رسولاً، وأنزل عليك الكتاب، وإنَّ اللّه قد عهد إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنَّه من عند اللّه حتَّى يأتينا بقربان تأكله النَّار، فإن جئتنا به صدقناك. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية[2].

* * *

تشكيك جاحد:

كان من بين أساليب اليهود في التشكيك برسالة النبيّ محمَّد (ص) قولهم: إنَّ اللّه عهد إليهم في ما أنزله عليهم من الكتب السَّماوية التي تتحدّث عن تاريخ الأنبياء وعلامات صدقهم في نبوّتهم، أنَّ علامة ذلك هو أن يقدّم الرَّسول قرباناً للّه، فتأكله النَّار السَّماوية القادمة من السَّماء؛ ولـم يأتِ محمَّد بهذا، فكيف يمكن أن نؤمن بصدقه في دعوى النبوّة؟! وهكذا حاولوا أن يُمارسوا عمليّة الإيحاء بالعلم الغامض الذي يعلمونه عن الدِّين في ما يجهله البسطاء من ذلك كلّه في مجتمع الرسالة الأول، من أجل المزيد من التشكيك والتضليل، فكيف ناقشها القرآن؟ إنَّه لم يناقشهم في طبيعة الفكرة التي أثاروها من حيث سلامتها وعدم سلامتها، لأنَّ ذلك لا يحقّق أيّة فائدة في هذا المجال، لأنَّهم لا ينطلقون فيها ـ أمام البسطاء ـ من منطلقٍ فكري موضوعي، بل انطلقوا فيها من خلال مزاعم خاصّة في ما أوحاه اللّه إليهم من علوم خاصّة بهم، مما لم يمنحه لغيرهم، فلا فائدة في الدخول معهم في جدل مفيد... ولذلك كان الردّ يتجه في اتجاه آخر؛ وهو العمل على تعرية مواقفهم الكاذبة من تاريخهم الأسود الذي عاشوه في تاريخ الأنبياء، فقد جاءهم الأنبياء السابقون الذين أرسلهم اللّه إليهم بالبيّنات والدلائل الواضحة التي تثبت صدقهم وصحة رسالتهم من ناحية الفكر، وبالقرابين التي تأكلها النَّار، فماذا كانت النتيجة؟ لقد كانت النتيجة هي أنَّهم اضطهدوهم وقتلوهم لأنَّهم رفضوا التخلي عن امتيازاتهم العنصرية، في ما تريده حركة الرسالات من ابتعاد النَّاس عن المشاعر المتعالية ضدَّ النَّاس الآخرين، وانطلاقهم نحو الالتقاء على خطّ الإنسانية السائرة في طريق اللّه.. ومن خلال ذلك، ينطلق الاستفهام الإنكاري الذي يعلّمه القرآن للنَّاس الطيبين ليقولوا لهـم: [فَلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين]؟ ويبقى السؤال بلا جواب، لأنَّهم لا يملكون الجواب عنه، لأنَّهم ليسوا بصادقين في ما زعموه.

وهذا هو الأسلوب الذي كان يتبعه اليهود في إثارة التشكيك بالدعوات المضادّة لهم، ثُمَّ الهروب بعد ذلك من الدخول في حوار مع الآخرين إذا ما أراد الآخرون اكتشاف الحقيقة في ما أثاروه، لأنَّهم يريدون أن يخلقوا الجوّ القلق في داخل المجتمع ليُعطي نتائجه الآنيّة. وليس من المهمّ بعد ذلك أن تتغيّر الصورة ويتراجع النَّاس عن صورتهم التي أرادوها، لأنَّهم يكونون قد فكروا في أسلوب جديد للإثارة من أجل مشكلة جديدة في حركة التشكيك والتضليل.

[الذين قالوا] في الخطّة المتنوّعة الأساليب المتعدّدة الوسائل في إسقاط الإسلام في وجدان المسلمين بكلّ مفردات التشكيك التي تناقش الطروحات الإسلامية بالأكاذيب التي تلبس لبوساً دينياً، للإيحاء بأنَّهم ينطلقون في مواقفهم الرافضة للرَّسول وللرسالة من المصادر الدينية التي يعترف بها النبيّ محمَّد (ص)، ما يجعل من المسألة مسألة إلزام له بما يلتزم به من صدق التوراة التي ينسبون إليها الكلمات الموحية بالتشكيك أو التكذيب للنبيّ ولرسالته، [إنَّ اللّه عهد إلينا] في ما عهده في التوراة من علامات النبيّ الصادق الذي يؤمن به النَّاس، التي لا بُدَّ من الالتزام بها وعدم تجاوزها، بشكلٍ دقيـق [ألا نؤمن لرسول] أيّاً كان، وفي أيّ زمن كان، ممن يدعو النَّاس إلى تصديق نبوّته واتّبـاع مسيرته [حتَّى يأتينا بقربانٍ تأكله النَّارُ] فهذا ـ وحده ـ هو الذي يؤكّد لنا ارتباطه باللّه، لأنَّ مسألة النبوّة من المسائل غير العادية، باعتبار أنَّها تمثِّل علاقة الغيب الإلهي بالشهود البشري في نزول الوحي على فردٍ من البشر، ما يفرض على مدّعي النبوّة أن يحصل على شاهد غير عادي متناسب مع طبيعة الحدث والدور، ولا يبتعد هذا الشاهد المادّي عن حركة التاريخ الرسالي في مسيرة النبوّات؛ فقد كان الصادق والكاذب يتباهلان في تقديـم القربان كما فعل هابيل وقابيل، فقدّما قربانـاً [فتُقبل من أحدهما ولـم يُتقبّل من الآخر] (المائدة:27)، وليست القضية التي كانت موضع النـزاع بين الأخوين بأكثر خطورةً من القضية المتصلة بموضوع النبوّة، فإذا كنت ـ يا محمَّد ـ صادقاً في دعواك أنَّ الرسالة من اللّه، فقدّم قرباناً إلى اللّه، فإذا جاءت النَّار الإلهية وأكلته كان ذلك دليلاً على صدقك، وكان ذلك وسيلة لإيماننا بك.

* * *

قتل الرُّسل قبل محمَّد (ص):

[قل] ـ يا محمَّد ـ لهؤلاء الذين يتحدّثون بهذا المنطق الذي يرى أنَّ مسألة النبوّة في دعوى النبيّ تحتاج إلى دليل حاسم يُثبت صدقه. ولكن لماذا هذا التركيز على هذه الوسيلة القربانية كدليلٍ وحيدٍ على ذلك؟! فلماذا تنكرون بقية الأدلة التي قد تتصل بالجانب العقلي من المسألة، كإعجاز القرآن في مورد، وقد تنفتح على الجانب الغيبـي، كالمعجزات التي قام بها الأنبياء الآخرون ـ ومنهم موسى (ع) ـ في موردٍ آخر، ولعلّ من المهم التأكيد أنَّ النبيّ موسى لم يأتِ بقربان تأكله النَّار كشاهدٍ على صدقه أمام فرعون، بل كان دليله في معجزة اليد البيضاء وتحوّل العصا إلى ثعبان... ثُمَّ هناك رسل آخرون جاءوا بالقربان الذي أكلته النَّار للأجيال التي سبقتكم من اليهود [قد جاءكم رسُلٌ من قبلي بالبيّنات] أي بالبراهين والأدلة القاطعة من وسائـل الإثبات للنبـوّة، [وبالذي قلتم] أي بالقربان الذي طلبتموه في قولكم هذا، وكان من المفروض، بناءً على قولكم، أن تؤمنوا بهؤلاء لأنَّهم قدّموا الدليل الذي ترونه بالغ الدلالة، ولكنَّكم كذبتموهم وبالغتم في التكذيب فقتلتموهم، بعد أن أقاموا عليكم الحجّة.

فيا أيُّها اليهود الذين تمثِّلون في خطّة التحرّك المنحرف المتمرّد على اللّه ورسالاته ورسله، وحدة بين الجيل القديـم والجيل الجديد [فَلِمَ قتلتموهم إن كنتم صادقين] وما هو المبرّر لذلك بعد أن أثبتوا لكم أنَّهم أنبياء صادقون،كما حدث ذلك لزكريـا ويحـيى (ع) وغيرهما ممن قتلهم اليهود، إن كنتم صادقين في منطقكم الذي تزعمون أنَّ اللّه عهد به إليكم في التوراة، وفي ضوء ذلك، فإنَّ من الممكن ـ استناداً إلى الواقع التاريخي في تجربتكم السابقة ـ أن تكذبوا النبيّ محمَّد (ص) بعد أن يقدّم لكم القربان الذي تأكله النَّار، لتزعموا ـ في أسلوب العناد ـ كما زعم المشركون، أنَّه سحر وليس معجزة، ما يجعل من القضية المطروحة قضية عبث ولعب، واللّه سبحانه لا يأذن بالعبث برسوله، وباللعب بحركة رسالته بالاستجابة للاقتراحات المقدّمة من النَّاس بعد إقامة الحجّة عليهم بالدليل القاطع الذي يُثبت صدق الرَّسول (ص).

* * *

اليهود يثيرون الشبهات والشكوك في كلّ عصر:

إنَّ هذا الأسلوب لا يزال يطرح نفسه على الساحة في مجتمعاتهم ضدَّ خصومهم، وقد تحوّل إلى أسلوب من أساليب السياسة في عالمنا المعاصر التي درجت على أن تواجه الحركات الثوريّة والإصلاحية بإثارة الأجواء التي تخلق حولها الكثير من الشبهات والشكوك، ثُمَّ تهرب من الحوار، لتخلق واقعاً جديداً من خلال علامات استفهام جديدة. وقد يكون من الضروري للمسلمين الواعين أن يلتفتوا إلى الأسلوب القرآني، ليهتدوا به من أجل الانطلاق معه في فكرة حاسمة، وهي أنَّ علينا مواجهة قاعدتنا بإثارة الأسئلة المحرجة لهؤلاء لتحقيق هدفين:

الأول: أن تقتنع القاعدة بصحة مسيرتها فلا تخضع لأساليب التزوير والتشكيك.

الثاني: أن نحوّل دور القاعدة من دور سلبيّ يعمل على أن يهتز أمام علامات التساؤل التي تتحدّى يقينه، إلى دور إيجابي يواجه الآخرين بهجوم مماثل من علامات الاستفهام التي تعمل على تعرية واقعهم من خلال تعرية التاريخ الذي يكمن خلف هذا الواقع، كأسلوبٍ من أساليب تعميق التجربة وتثبيت الخطّ الصحيح.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:414 ـ 415.

(2) أسباب النزول، ص:75.