تفسير القرآن
آل عمران / الآية 185

 الآية 185

الآيــة

{كلُّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ وإنَّما تُوَفَّون أجوركم يوم القيامة فمن زحزح عن النَّار وأدخل الجنَّة فقد فاز وما الحياة الدُّنيا إلاَّ متاعُ الغُرُورِ} (185).

* * *

معاني المفردات:

[زحزح]: دُفع ونُحّي وأُبعد عن مقرّه في النَّار، والزحزحة ـ كما يقول صاحب الكشاف ـ التنحية، والإبعاد: تكرير الزحّ، وهو الجذب بعجلة[1].

[فَازَ]: نجا من الهلاك وحصل على ما يحبّ، يُقال لكلّ من نجا من هلكة. وكلّ من لقي ما يغتبط به فقد فاز، وتأويل فاز: تباعد عن المكروه ولقي ما يحبّ، ومعنى قولهم: مفازة للمهلكة: التفاؤل، وإنَّما المفازة: المنجاة، كما سمّوا اللديغ سليماً والأعمى بصيراً.

[متاعُ الغُرُورِ]: ما تشتهيه النفوس فتغتر به بحسبانه باقياً خالداً، وهو زائل فانٍ، وهو على نوعين: مادّي كالمال ونحوه، ومعنوي كالجاه ونحوه، والمتاع ما تستطيبه النفس في الحياة الدُّنيا ويأتي عليه الفناء كالمال والبنين، والغرور: كلّ ما يغر الإنسان ويخدعه ويغشّه.

* * *

كلّ نفسٍ ذائقة الموت:

وتلتفت هذه الآية إلى النَّاس في لفتةٍ روحيةٍ إلى المصير الذي ينتظر كلّ إنسان في هذه الدُّنيا، وهو الموت، ليواجه حسابه في يوم القيامة على عمله، وليوفّى أجره في كلّ صغيرة أو كبيرة. [كلّ نفسٍ ذائقةُ الموتِ] فليس ثمة فرقٍ بين نفسٍ ونفس، فالجميع يواجهون هذا الحادث البغيض إلى النفس، ويسقطون تحت تأثيره، فتخرج الأرواح من الأجساد، وتتحوّل إلى جثث ميتة هامدة لا تملك حسّاً ولا حركة. ولكن الموت ليس نهاية الحياة، بل هو نهاية مرحلة منها ـ وهي الحياة الدُّنيا ـ فهناك مرحلة أخرى للحياة التي لا مجال فيها للموت، وهي الحياة الآخرة، التي يواجه فيها الإنسان عمله، [وإنَّما تُوفَّونَ أجوركم يوم القيامة] لأنَّ الدُّنيا هي دار المسؤولية وموقع العمل، أمّا الآخرة فهي دار الحساب والحصول على نتائج حركة المسؤولية في الإنسان، إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ، فسينال كلّ عاملٍ فيها أجره تبعاً لنوعية عمله.

وقد جاء في الكشاف التعليق على توسط: [وإنَّما تُوَفَّونَ أجوركُم] بين الجملة الأولى [كلُّ نفسٍ] إلخ والجملة الثانية [فمن زحزح] إلخ، فقال: «فإن قلت: كيف اتصل به قوله: [وإنَّما توفَّونَ أجوركُم]؟ قلت: اتصاله به على أنَّ كلّكم تموتون ولا بُدَّ لكم من الموت، ولا توفّون أجوركُم على طاعاتكم ومعاصيكم عقيب موتكم، وإنَّما توفّونها يوم قيامكم من القبور. فإن قلت: فهذا يوهم نفي ما يروى: «إنَّ القبر روضة من رياض الجنَّة أو حفرة من حفر النَّار». قلت: كلمة التوفية تزيل هذا الوهم، لأنَّ المعنى أنَّ توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم، وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور»[2].

[فمن زُحزحَ عن النَّار] وأبُعد عنها ونُحّي عنها بسرعة فلا يعود إليها [وأُدخل الجنَّة] من خلال إيمانه وعمله الصالح، [فقد فاز] فقد حصل له الفوز المطلق الذي لا مجال فيه لأيّة فرصةٍ جديدة للخسارة والسقوط. وهذه اللفتة توحي بالنتائج الطيبة الحاسمة، وتؤكّد على أنَّ الفوز كلّ الفوز هو أن يبتعد الإنسان عن النَّار ويدخل الجنَّة، لأنَّ قضيّة الفوز ترتبط بالمصير النهائي الذي لا تبقى عنده مرحلة منتظرة لتغيير الواقع.

[وما الحياة الدُّنيا] بكلّ شهواتها ولذائذها ودرجاتها ومواقعها وحاجاتها [إلاَّ متاعُ الغرور] لأنَّه الربح الذي لا يدوم لصاحبه، بل يفنى بفنائه أو قبل موته عندما يفارقه ذلك في حياته؛ وبذلك كان هذا يمثِّل حالة خدّاعة لا مجال فيها لأيّة حقيقةٍ خالدةٍ. أمّا وجه الشبه للحياة الدُّنيا بالمتاع، فإنَّ المتاع يدلّس به على المستام ويغرّ حتَّى يشتريه ثُمَّ يتبيّن له فساده... فلا قيمة للفوز في الحياة الدُّنيا إذا كانت نتيجته الخسارة في الآخرة بدخول النَّار، لأنَّ هذه الحياة لا تمثِّل في واقع الإنسان إلاَّ متاعاً، مجرّد متاع لا بقاء له، يعيش معه أجواء الخديعة والغرور من دون حقيقةٍ ثابتةٍ.

أمّا إيحاء هذه الفقرة للمؤمنين، فهو أن يواجهوا الموقف في الحياة الدُّنيا بالصبر على ما يُصيبهم من الأذى والشدّة والبلاء المتنوّع في أوضاعهم المادية والمعنوية من دون أن يشعروا بالإحباط والسقوط، من خلال الحالات النفسية الصعبة بفعل التعقيدات المزاجية والعاطفية والشعورية والانفعالات السلبية، لأنَّ الدُّنيا ليست خالدة، فلا دوام لمشاكلها وآلامها، كما لا قيمة للذائذها ولأفراحها؛ أمّا الآخرة، فهي دار الحيوان ودار السعادة الخالدة، فعليهم أن يتحمّلوا جهد الدُّنيا للحصول على راحة الآخرة، ليتحرّكوا في مسيرتهم من القاعدة النفسية الفكريّة للاستعداد للتحمّل بأقصى الدرجات، فلا يرهقهم شيء من ذلك الذي يصيبهم من المشاكل والآلام.

* * *

لِمَ الحياة الدُّنيا متاع الغرور؟!

وقد يخطر في البال سؤال: كيف أقحم اللّه هذه الآية في أجواء الحديث عن أهل الكتاب، وما هي مناسبته؟ وربَّما يكون الوجه في ذلك، أنَّ اللّه يريد أن يُفرّغ نفس الإنسان من كلّ المشاعر الضاغطة التي تقوده إلى الانخداع بأساليب اليهود وغيرهم، طمعاً في ربح عاجل، أو متعةٍ طارئة، فيوحي إليه بأنَّ الموت نهاية ذلك كلّه، فينبغي له أن يفكّر في هذا الاتجاه ليعرف أنَّ الفوز هو فوز الآخرة من خلال عمله الخيّر في الدُّنيا، وليس فوز الدُّنيا من خلال الشهوات العاجلة فيها... وتلك هي قصة الحياة والموت في عمر الإنسان.

وقد يطوف في البال خاطر وسؤال: لماذا هذا التركيز على أنَّ الدُّنيا متاع الغرور؟ هل هو أسلوب قرآني للدعوة إلى رفض الدُّنيا في كلّ مجالاتها الحيويّة وطيّباتها ولذائذها العاجلة؟ والجواب هو أنَّ دراسة الآية وأمثالها من الآيات تعطينا الفكرة الحقيقية التي تريد أن تربط الدُّنيا بالعمل لتجعلها موقع عمل يعيش فيه الإنسان حركة المسؤوليّة في ما يُمارسه من طيّبات الحياة وشهواتها، لئلا تنحرف به عن الصراط المستقيم الذي يمثِّل مصيره. ولعلّ أروع الكلمات في هذا السبيل كلمة الإمام عليّ (ع) عن الدُّنيا: «من أبصر بها بصّرته، ومن أبصر إليها أعمته»[3]. فإذا جعل الإنسان الدُّنيا طريقاً إلى رؤية الحقيقة، وعيناً يبصر بها فيحدّق في ما خلفها وفي ما وراءها، فإنَّه يستطيع أن يحقّق المعرفة في كلّ شيء من خلال ما تكشفه له من خلفيّات الأمور والأشياء، فيعرف من خلال ذلك دوره وحقيقة واقعه، أمّا إذا وقف أمامها مبهوراً مسحوراً يتطلّع إليها بشغف وانبهار، فإنَّها تغشي بصره في كلّ ما تعرضه أمامه من زخارف ومتع وشهوات، وتعميه عن رؤية الواقع الذي لا يمثِّل إلاَّ متاعاً يُمارسه كما يُمارس الأشياء الطارئة التي تنتقل مع الإنسان فيستهلكها، كما في الغذاء أو اللباس أو نحو ذلك؛ أمّا الأرض، أمّا البيت، فلا تطلق عليه هذه الكلمة، لأنَّها لا تمثِّل ثباتاً في حياة الإنسان، فكأنَّ اللّه يريد أن يقول لنا: إنَّ الدُّنيا لا ترتبط بنا ارتباطاً عضوياً لاصقاً غير منفصل عن وجودنا، بل هي مرحلة من مراحل العمر التي تمرّ به مروراً سريعاً، فتخدعه وتغريه وتغرّه وتبعده عن الأهداف الأساسية للحياة، فلا بُدَّ من أن ننظر إليها كمرحلة ولا نستسلم إليها كنهاية، فنتصرّف بها كما نتصرّف بالمتاع الطارئ مع التركيز على طبيعته الذاتية من واقع ما يمثِّله ما حاجة كبقية الحاجات الماديّة التي ينتفع بها قليلاً ثُمَّ يتركها ليستقبل حاجةً جديدة ووضعاً جديداً، وعلى هذا الأساس، يستطيع الإنسان أن يضبط وضعه وحياته في نظرة ثاقبة عميقة واسعة.

ــــــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف، ج:1، ص:485.

(2) تفسير الكشاف، ج:1، ص:485.

(3) نهج البلاغة، الخطبة/82، ص:64.