الآية 186
الآيــة
{لتُبلَوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتَّقوا فإنَّ ذلك من عزم الأمور}(186).
* * *
معاني المفردات:
[لتُبلوُنَّ]: البلاء في الأموال: الإنفاق في سبل الخير وما يقع فيها من الآفات، والبلاء في الأنفس: القتل والأسر والجراح، وما يرد عليها من أنواع المخاوف والمصائب.
[عزم الأمور]: العزم والعزيمة: عقد القلب على إمضاء الأمر، يُقال عزمت الأمر، وعزمت عليه واعتزمته، والمراد به هنا: معزومات الأمور، أي: ما يجب العزم عليه من الأمور أو مما عزم اللّه أن يكون، يعني أنَّ ذلك عزمة من عزمات اللّه لا بُدَّ لكم من أن تصبروا وتتَّقوا.
* * *
جاء في مناسبة النـزول أنَّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً، وكان يهجو النبيّ (ص) ويحرّض عليه كفّار قريش في شعره؛ وكان النبيّ (ص) قدم المدينة وأهلها أخلاط، منهم المسلمون، ومنهم المشركون، ومنهم اليهود، فأراد النبيّ(ص) أن يستصلحهم، فكان المشركون واليهود يؤذونه ويؤذون أصحابه أشدّ الأذى، فأمر اللّه تعالى نبيّه(ص) بالصبر على ذلك، وفيهم أنزل اللّه [ولتسمعُنَّ من الذين أوتُوا الكتاب] الآية.
وفيه، في رواية عروة بن الزبير، أنَّ أسامة بن زيد أخبره أنَّ رسول اللّه (ص) ركب على حمار على قطيفةٍ فدكية، وأردف أسامة بن زيد، وسار يعود سعد بن عبادة في بني الحرث بن الخزرج قبل وقعة بدر، حتَّى مرّ بمجلس فيه عبد اللّه بن أبيّ ـ وذلك قبل أن يُسلم عبد اللّه بن أبيّ ـ فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين، عبدة الأوثان واليهود، وفي المجلس عبد اللّه بن رواحة. فلمّا غشي المجلس عُجاجة الدابة خَمَر عبد اللّه ابن أبيّ أنفه بردائه، ثُمَّ قال: لا تغبروا علينا، فسلّم رسول اللّه (ص) ثُمَّ وقف، فنـزل ودعاهم إلى اللّه، وقرأ عليهم القرآن، فقال عبد اللّه بن أبيّ: أيُّها المرء، إنَّه أحسن مما تقول، إن كان حقّاً فلم تؤذينا به في مجالسنا؟! ارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه. فقال عبد اللّه بن رواحة: بلى يا رسول اللّه، فاغشنا به في مجالسنا، فإنّا نحبّ ذلك، واستبّ المسلمون والمشركون واليهود حتّى كادوا يتساورون، فلم يزل النبيّ (ص) يخفضهم حتّى سكتوا.
ثُمَّ ركب النبيّ(ص) دابته وسار حتّى دخل على سعد بن عبادة، فقال له: يا سعد، ألـم تسمع ما قال أبو حباب؟ يريد عبد اللّه بن أبيّ، قال: كذا وكذا، فقال سعد بن عبادة: يا رسول اللّه، اعف عنه واصفح، فوالذي أنزل عليك الكتاب، لقد جاء اللّه بالحقّ الذي نزل عليك وقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوِّجوه ويعصبوه بالعصابة، فلمّا ردّ اللّه ذلك بالحقّ الذي أعطاك شرق بذلك، فذلك فعل به ما رأيت، فعفا عنه رسول اللّه(ص) فأنزل اللّه تعالى: [ولتسمعُنَّ من الذين أوتُوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً] الآية[1].
وقد نلاحظ على هاتين الرِّوايتين أنَّ الواقع الذي عاشه النبيّ (ص) والمسلمون معه كان واقع البلاء الشديد في أنفسهم وأموالهم على مستوى التهديد المتنوّع بالقتل والتشريد والتعذيب في مكّة، بحيث إنَّ المسألة لم تكن مفاجِئة لهم، ولذلك فقد كانت المعاناة هي ما كانوا ينتظرونه في مستقبل الدعوة بما عاشوه في ماضيها وحاضرها، الأمر الذي لا يجعل لأيّة حادثة مماثلة لمثل هاتين الحادثتين أن تهزّ واقع النبيّ(ص) والمسلمين، وتثقل حركتهم، وتدفع بهم إلى الاستنفار الشعوري لتنـزل الآية في تأكيدٍ لخطّ المعاناة وتوجيهٍ إلى مواجهتها بالتَّقوى والصبر، ليكون ذلك موقف عزم إنساني حازم.
إنَّنا لا نريد نفي العلاقة بين هاتين الحادثتين أو إحداهما وبين الآية، بل نريد أن نسجّل ملاحظة استفهامية حول ذلك من حيث تاريخ النـزول، ما يرجح أن تكون من الآيات المتحرّكة في خطّة التوعية العامّة للمسيرة الإسلامية في حركة النبيّ (ص) والمسلمين في مواجهة التحدِّيات المضادّة من قبل المشركين وأهل الكتاب، لا سيّما اليهود، الذين يقفون ضدَّ الرسالة من أجل إسقاطها أو إضعافها، وذلك من خلال الرفض النفسي والفكري والعملي للدعوة، بحيث يُمارسون كلّ الأساليب الضاغطة والمتعسفة والمؤذية ضدَّ الإسلام والمسلمين، ولكن ذلك كلّه لا يحقّق أيّ شيء من أهدافهم إذا كان الصبر على المرحلة الصعبة هو الطابع الحركي للمسلمين، وإذا كانت التَّقوى التي تدرس كلّ خطوات الحركة وكلّ ظروف المرحلة وكلّ مفردات القضية، هي مسؤولية المسلم التَّقي الذي يتحرّك من خلال أوامر اللّه ونواهيه في حركة الوجود والعدم، وبذلك كانت من آيات الخطّ الكبير الذي يحكم الواقع الطبيعي للمسيرة الكبرى، بحيث يكون الحديث عنه هو حديث المرحلة كلّها، لا حديث مناسبةٍ محدودةٍ من مناسباتها المتنوّعة.
* * *
الإيمان موقف يتخذه المؤمن في مواجهة التحدِّيات:
إنَّ الإيمان ـ في حياة المؤمن ـ موقف لا كالمواقف، لأنَّه يمثِّل التحدّي الكبير لما تعارف عليه النَّاس من اتجاهات فكريّة وتيارات عمليّة، في ما ينطلق فيه من تصوّر شامل للكون والحياة من خلال البداية والنهاية وعلاقة ذلك باللّه، وحركة دائبة في أجواء الواقع الإنساني الكبير... وفي هذا الجوّ سوف يلتقي بالكثيرين الذين يعيشون الامتيازات الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة على أساس التعصّب لبعض الأفكار المنحرفة والتصوّرات الضالّة والمنطلقات الكافرة، وسيُحاول هؤلاء أن يثيروا الصعوبات والعقبات في الطريق أمام المؤمنين، في ما يواجهونه من الكلمات القاسية، والإهانات الجارحة، والأوضاع السيّئة التي تسيء إلى أمنهم واطمئنانهم وتهدر كرامتهم، وتعرّضهم للأخطار الكبيرة في أموالهم المعرّضة للضياع، وفي أنفسهم المعرّضة للموت.
[لتُبلوُنَّ في أموالكم وأنفسكم ولتسمعُنَّ من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا] وتؤكّد الآية على أهل الكتاب وعلى المشركين في ما يثيرونه في هذا الاتجاه، باعتبارهم من الفئات البارزة التي تمثِّل التحدّي الصارخ في التصوّر والعمل للخطّ الإيماني السليم الذي يتمثّل في الإسلام والمسلمين، [أذى كثيراً] فقد يتحرّكون في اتجاه إثارة الأذى الكثير في وجه المؤمنين من خلال مسيرتهم الإيمانية، والشكوك التي يحرّكونها في الأذهان، والاتهامات التي يطلقونها في الساحة، والتحريفات التي يشوهون بها وجه الحقيقة الأصيل، في ما يبتعدون به عن صفاء الوحي وطهر التنـزيل، مما يستهدفون من خلاله إبعاد المسلمين عن الخطّ المستقيم في الإسلام، وإبعاد الآخرين عن الدخول في الدِّين الجديد؛ لتبقى لهم حرية اللعب والعبث بمقدرات أمور النَّاس في قضاياهم العامّة والخاصّة...
[وإن تصبروا وتتَّقوا فإنَّ ذلك من عزم الأمور] ويريد القرآن للمؤمنين أن يواجهوا ذلك بالصبر والتَّقوى، هذان العنصران اللذان يكون أحدهما نتيجةً للآخر، فلا معنى للتَّقوى بدون صبر، لأنَّها تعني الإرادة الصلبة في حركة الإيمان نحو اللّه أمام اهتزازات الإغراءات الكثيرة المتنوّعة التي تعمل على أن تهزّ مشاعر الإنسان وأعماقه بطريقةٍ شهوانيّة متحرّكة، ولا بُدَّ في ذلك كلّه من الصبر الذي يتجسّد في داخل الإنسان كقوّة رائدة تمثِّل العزم الكبير في الأمور... ولا معنى للصبر بدون التَّقوى، لأنَّه يعني الخطّ الإيماني الروحي الذي ينطلق في الفكر والشعور، ليُثير في الإنسان الفكر الذي يهدي، والعاطفة التي تحرّك، والخشوع الذي يهزّ، ويوحي بانطلاقة العبودية الخاضعة في آفاق الربوبية الواسعة، فيتحوّل الصبر إلى تقوى تتحرّك في مواقع الإرادة، وتطوف التَّقوى بالروح وبالفكر وبالنفس لتزرع في أعماقها غراس الصبر التي تنتج الحركة المنطلقة أبداً في اتجاه الحرية الداخلية في ما تريده من خيرٍ وبركةٍ وإيمان.
* * *
تمثّل الصبر والتَّقوى عملياً:
أمّا كيف نتمثّل الصبر والتَّقوى في الخطّ التطبيقي العملي للفكرة المطروحة في الآية؟ فهذا ما نواجهه في نظرة سريعة إلى واقع الحركة من خلال واقع التحدّي؛ فقد نجد ذلك في ما يعيشه الإنسان من المشاعر السلبيّة الذاتية إزاء حالات البلاء الصعبة التي يمرّ بها في حياته العمليّة، فربَّما تُساهم هذه الحالات لدى بعض النَّاس في هزيمتهم النفسيّة، لأنَّهم لا يطيقون الصبر على ذلك كلّه، من خلال الآلام المتنوّعة التي تتحدّى طاقتهم الروحيّة والجسديّة، وقد نواجه ذلك في المواقف الانفعالية التي يقفها الإنسان في مواجهة الكلمات المؤذية التي يسمعها من القوى المضادّة، سواء في ذلك ما يتعلّق منها بشخصه أو برسالته، أو بالنَّاس الذين يشاركونه خطوات الرسالة...
وقد يخيّل له أنَّ الصبر على هذا أو ذاك يمثِّل موقف ضعفٍ لا يجوز للمؤمن أن يقفه، وقد يتصوّر أنَّ التَّقوى تتحرّك في اتجاه الحركة الانفعالية لا في اتجاه الحركة الصابرة العاقلة؛ فكانت هذه الآية إعلاناً بأنَّ المسيرة تفرض على المؤمن الصبر على الأذى بإيجابيّة ووعي وانفتاح، وتوحي له بأنَّ ذلك سبيل من سُبُل التَّقوى، لأنَّ القضية التي تحكم تصرّفات الإنسان المؤمن ومواقفه هي مصلحة الإسلام والمسلمين من خلال ما يثيره الإنسان من ردود الفعل السلبيّة والإيجابيّة في مواقف التحدّي العمليّة. وفي ضوء ذلك، يستطيع الإنسان أن يعرف كيف يكون الصبر والتَّقوى من عزم الأمور التي ترتكز على الأسس القويّة الثابتة في شخصية الإنسان المسلم، وذلك من خلال الحسابات الدقيقة المنطلقة من مواجهة النتائج الحاسمة للأشياء، ما يبعد المسألة عن أجواء الضعف والانفعال المتحرّك من ملاحظة بدايات الأمور والغفلة عن نهاياتها.
وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل اللّه والدُّعاة إليه أن يواجهوه في مسيرتهم العملية في ما يلتقون به من الأذى في القول والعمل من قِبَل الكافرين من أيّة فئة كانوا، ومن البلاء في أموالهم وأنفسهم، بأن لا يخضعوا للانفعالات الذاتية الطارئة، ما يجعل من تحرّكهم ذلك سبيلاً للدخول في معارك متنوّعة خاضعةٍ لتخطيط الأعداء ـ في وقتها ومكانها ـ على أساس ما يتوقعونه من انفعالات العاملين.
ــــــــــــــ
(1) أسباب النزول، ص:75 ـ 76.
تفسير القرآن