تفسير القرآن
آل عمران / الآية 187

 الآية 187

{وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتُبيِّنُنَّهُ للنَّاس ولا تكتمونَهُ فنبذُوهُ وراء ظُهُورِهِم واشتروا به ثمناً قليلاً فبِئسَ ما يشتَرُون}(187).

* * *

معاني المفردات:

[فَنَبَذُوهُ]: النبذ: إلقاء الشيء لعدم الاعتداد به.

* * *

أخذ اللّه ميثاق أهل الكتاب:

[وإذ أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب] بما عهد إليهم من المسؤوليات الحركية في حركتهم الرّسالية فيه [لتُبيِّنُنَّهُ للنَّاس] لأنَّ اللّه أنزله للنَّاس كافةً، من أجل أن يتحوّل إلى فكرٍ في عقولهم، وإلى عاطفةٍ في قلوبهم، وإلى إحساس في مشاعرهم، وإلى واقع في حياتهم العامّة والخاصّة، ما يفرض على الطليعة الحاملة له أن تقوم بمهمّة إبلاغه للنَّاس ودعوتهم إليه وتوجيههم إلى مفاهيمه، لأنَّ الهدف المنفتح على واقع الفكر لا يمكن أن يحصل إلاَّ بأن ينتشر الحقّ في وعي النَّاس كلّهم، باعتبار أنَّ الوعي هو الخطوة الأولى للحركة، [ولا تكتُمُونَهُ] انطلاقاً من بعض التعقيدات النفسية، والنوازع الذاتية، والأطماع المادية، والعلاقات الاجتماعية... وغير ذلك من المؤثرات التي تدفع الإنسان إلى إخفاء الحقيقة، لأنَّها قد تربك بعض حياته، كما في الحالات التي تعمل على تأييد الظَّالمين ودعم مواقعهم، وتطييب نفوسهم، وتسهيل أمورهم رغبةً في الحصول على بعض امتيازاتهم وأموالهم، لأنَّ الكتاب يشجب ذلك كلّه، ويدعو إلى حماية المستضعفين من هؤلاء المستكبرين، وإلى اعتبار الإيمان قيمةً تتفوّق على كلّ قيم الثروة والجاه ونحو ذلك، وربَّما يكون الكتمان لبخل في العلم واستئثار به لعقدة نفسية ونحو ذلك، [فَنَبَذُوهُ وراء ظُهُورِهِم] أي نبذوا الكتاب وطرحوه، لأنَّهم لا يلتزمون به التزام المؤمن بالنص المقدّس وبالإيمان المسؤول وبالواقع المنفتح على القيم الروحية والأخلاقية، بل كانت المسألة لديهم مجرّد انتساب بالاسم، للانتفاع به في مصالحهم الدنيوية ونوازعهم الذاتية، وقد جاء في بعض التفاسير أنَّ الضمير في كلمة [فَنَبَذُوهُ] يرجع إلى الميثاق ـ كما في تفسير الكشاف ـ حيث ذكر في معناه: «فَنَبَذوا الميثاق وتأكيده عليهم، يعني لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه»[1]. [واشتروا به ثمناً قليلاً] فقد استبدلوا بعهد اللّه عليهم وميثاقه ومخالفته عوضاً يسيراً من حطام الدُّنيا مما حصلوا عليه من مالٍ أو جاه أو شهوة لا يبقى لهم منه شيء.

[فبئس ما يشترون] لأنَّهم حصلوا على أسوأ النتائج، وأيّ نتيجة أكثر سوءاً من عذاب جهنم التي لا يمكن أن يعادلها أيّ نفع عاجل من حطام الدُّنيا؟!

* * *

العلم أمانة اللّه:

وإذا كانت هذه الآية قد تحدّثت عن ميثاق اللّه لأهل الكتاب في تبيانه للنَّاس وعدم كتمانه، فإنَّها توحي بالخطّ العريض الذي يشمل العلم كلّه، مما يحتاج النَّاس إليه في كلّ أمور دنياهم وآخرتهم، فإنَّ العلم أمانة اللّه في عقل العالـم ووجدانه، فلا بُدَّ له من أن يؤدِّيه إلى كلّ جاهل يحتاج إليه في حركة وجوده، وهو أمانة الإنسان عند الذين يملكونه، باعتبار أنَّ طاقات الأمّة ليست شيئاً معلّقاً في الفضاء، بل هي موجودة في طاقات الأفراد الذين يتجمّعون ليمثِّلوا طاقة الأمّـة مجتمعةً، ولذلك فإنَّ الذين يحجبون عن الأمّة طاقاتهم، فلا يبذلونها لها، هم من الخائنين لأماناتهم العامّة. وقد جاء في الحديث عن النبيّ محمَّد(ص): «من كان عنده علم فكتمه ألجمه اللّه يوم القيامة بلجام من نار»[2]. وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال: «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث، فألفيته على بابه فقلت: إمّا أن تحدّثني وإمّا أن أحدّثك؟ فقال: حدّثني. فقلت: حدّثني الحكم بن عتيبة عن نجم الجزار قال: سمعت عليّ بن أبي طالب(ع) يقول: «ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتّى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا»[3]. قال: فحدّثني أربعين حديثاً»[4].

وخلاصة الفكرة: أنَّ العلم يمثِّل مسؤولية العالم في بذله للنَّاس بالطريقة التي تفتح عقولهم على اللّه وعلى الرسالة وعلى الحياة، بحيث يكفل لهم ذلك الارتفاع إلى الدرجات العليا في الوعي الشامل وفي مواجهة حاجات الدُّنيا والآخرة، فلا بُدَّ له من أن يقوم بمسؤوليته في ذلك كلّه على أساس الحساب أمام اللّه في ذلك كلّه.

من هنا، فإنَّ المعرفة مسؤولية الأشخاص الذين يملكونها، فقد أخذ اللّه ميثاقهم على أن يقدّموها للنَّاس ويبذلوها، لينطلق النَّاس في خطّ الوعي الذي يفتح لهم حياتهم على قضايا الحقّ والهدى والإيمان، فتتحرّك من مواقع النور وتبتعد عن آفاق الظلام، بينما يتحوّل كتمانها واستغلالها لمطامع شخصية أو فئوية، إلى عنصر من عناصر الضَّلال والضياع والاستسلام للجهل والانحراف، وهذا ما لا يريده اللّه لعباده، في ما يريده لهم من الانفتاح على ما فيه صلاح أمورهم والابتعاد عمّا فيه فسادهم...

وقد أكّد اللّه المسؤولية على الذين أوتوا الكتاب في ما حمّلهم من كتابه، واعتبر قضيّة إبلاغه للنَّاس ميثاقاً بينه وبينهم، وأراد لهم من خلال ذلك أن لا يُتاجروا به ليشتروا به ثمناً قليلاً، لأنَّ التجارة إذا دخلت في وعي حملة الكتاب وسيطرت على مسيرتهم، كانت وسيلةً من وسائل الإفساد للأمّة، ذلك كونها تخضع لقانون العرض والطلب، وأساليب الربح والخسارة، في ما يتعامل به المتاجرون من أوضاع وأساليب.

وقد أساء هؤلاء إلى أنفسهم وإلى النَّاس حين أساءوا إلى هذا الميثاق الإلهي، فكتموا كتاب اللّه عن النَّاس، ولـم يبيّنوه لهم ليعرفوا من خلاله قواعد الحقّ والباطل، فينطلقوا مع الحقّ ودعاته عن معرفة، ويبتعدوا عن الباطل وأهله عن معرفة... ونبذوه وراء ظهورهم، فلم يحترموا مفاهيمه، ولـم يكترثوا به، [واشتروا به ثمناً قليلاً] وخانوا الميثاق، [فبئس ما يشترون]، لأنَّ هذه الأموال التي يقبضونها لقاء انحرافهم وتحريفهم لكتاب اللّه لإرضاء أطماعهم وشهواتهم، سوف تُفسد عليهم مصيرهم في الدُّنيا والآخرة، وتحرق أصابعهم وتعرّضهم للعنة الأبديّة عند اللّه، وذلك هو جزاء المفسدين.

وقد لا نحتاج إلى التأكيد على استيحاء المفهوم الشامل الذي لا يجعل الآية في حدود هؤلاء الذين تحدّثت عنهم من أهل الكتاب، بل يمتد إلى كلّ من حمل كتاب اللّه وعرف آياته وأحكامه، سواء كان الكتاب توراةً أو إنجيلاً أو قرآناً، لأنَّ الفكرة هي أنَّ الحقيقة أمانة اللّه عند أهلها، فلا يجوز لهم أن يخونوها بالتحريف والكتمان والتضليل، ولا يجوز لهم أن يتاجروا بها ليحصلوا ـ من خلال ذلك ـ على ثمن قليل، سواء كان مالاً أو جاهاً أو إرضاءً لعقدة ذاتية، لأنَّ الثمن مهما كان كبيراً، فهو قليل أمام ما يخسرون من حياتهم ومصيرهم، ومصير الآخرين.

ــــــــــــــ

(1) تفسير الكشاف، ج:1، ص:486.

(2) البحار، م:19، ج:57، باب:39، ص:415، رواية:11.

(3) نهج البلاغة، قصار الحكم/478.

(4) مجمع البيان، ج:2، ص:905.