تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 188 إلى الآية 189

 من الآية 188 الى الآية 189

الآيتـان

{لا تحسبنَّ الذين يفرحون بما أتوا ويُحبُّونَ أن يُحمدوا بما لـم يفعلوا فلا تحسبنَّهُم بمفازةٍ من العذابِ ولهم عذابٌ أليمٌ * وللّه ملك السَّماوات والأرض واللّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ} (188ـ189).

* * *

معاني المفردات:

[بمفازةٍ]: الفوز: الظفر بالخير مع حصول السَّلامة، ومفازة: مصدر فاز، والاسم: الفوز، أي: لا تحسبنَّهُم يفوزون ويتخلّصون من العذاب.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في أسباب النـزول ـ كما في مجمع البيان ـ أنَّها «نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال النَّاس لهم ونسبتهم إيّاهم إلى العلم، عن ابن عباس. وقيل: نزلت في أهل النفاق، لأنَّهم كانوا يجمعون على التخلّف عن الجهاد مع رسول اللّه (ص)، فإذا رجعوا اعتذروا وأحبّوا أن يُقبل منهم العذر، ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان، عن الخدري وزيد بن ثابت»[1].

* * *

الفرح الوهمي:

ربَّما كان ما ذكر في أسباب النـزول منطلقاً للآية في حركتها في حياة الدعوة أمام خصومها من الكافرين والمنافقين الذين يعيشون الفرح الداخلي في ما أتوا به من أعمال تتناسب مع أهدافهم ومخططاتهم المنحرفة، لأنَّهم يرضون بذلك نوازعهم المعقّدة في الكيد للإسلام والمسلمين، ولكنَّهم ـ في الوقت نفسه ـ يريدون أن لا يعرفهم النَّاس بذلك لتبقى لهم امتيازاتهم الاجتماعية التي يحصلون من خلالها على الثقة وحرية الحركة.

[لا تحسبنَّ الذين يفرحون بما أتوا] مما لا يمنح الإنسان سعادة أبدية بالعمق، بل يمنحه الكثير من حالات الشقاء النفسي الواقعي على صعيد النتائج، الأمر الذي يجعله في وهمٍ كبير بما يوحي به إلى نفسه من تصوير الأشياء بغير صورتها الحقيقية، بحيث يتمثّلها في عكس الصورة، فيكون فرحه فرحاً بائساً يختزن في داخله الحزن الذي يتحرّك ليتجسّد في مستقبل حياته، عندما تفاجئه النتائج العملية التي تشغل حياته في مستقبل عمره، لتكون عاقبة أمره شرّاً. وهذا هو الفرح الوهمي الذي لا يتصل بالحقيقة من قريب أو بعيد، بل هو متصل بالمنطقة السطحية من النفس، وهو الذي يرفضه الإسلام، فإنَّه لا يرفض الفرح الحقيقي العميق المنفتح على اللّه وعلى القيم الروحية والأخلاقية وعلى الحياة في جمالاتها وانطلاقاتها في سنن اللّه الكونية والإنسانية، بل هو يريد للإنسان أن يعيش مشاعره الطبيعية في الحزن والفرح والألم واللذة بشكلٍ عميق متوازن، لا يطغى لينحرف فيتجاوز الحدّ، ولا يسقط ليتجمّد الإنسان أمام عناصر الإثارة في الحياة والإنسان؛ وهكذا كانت مشكلة هؤلاء المنحرفين عن الخطّ، السائرين في الوهم الكبير، أنَّهم يفرحون بما أتوا من السيّئات والأساليب الملتوية.

[ويُحبُّون أن يُحمدوا بما لـم يفعلوا] من الإيمان والإخلاص والارتباط بالحقّ والسير على هداه، فيحصلون بذلك على الأمن والطمأنينة في مجتمعاتهم، ويستسلمون للهدوء النفسي والدعة، ويضحكون في داخل نفوسهم فرحاً بما حقّقوه من الموازنة بين الحصول على ما يريدون من خطط وأهداف، وما وصلوا إليه من امتيازات وأرباح ومواقع، ويظنون أنَّهم بمفازة ونجاةٍ من العذاب، [فلا تحسبنَّهُم بمفازةٍ من العذاب] فإنَّ اللّه قد يمهلهم ويُملي لهم في الدُّنيا ليزدادوا إثماً، لينتظرهم في الآخرة الخزي والهوان [ولهم عذابٌ أليمٌ].

[وللّه ملكُ السَّماوات والأرض] فلا يعجزه أحد من هؤلاء لأنَّهم ملكه، [واللّه على كلِّ شيءٍ قديرٌ] فلا حدّ لقدرته في كلّ مجال يمكن للقدرة أن تتحرّك فيه، فما قيمة هؤلاء؟ وما أثرهم في الساحة؟ وما تأثير ألاعيبهم الصبيانيّة؟ إنَّ قدرة اللّه تنتظرهم لتقضي على ذلك كلّه.

* * *

القرآن يعرّي المنافقين:

ولكن الآية لا تتجمّد عند هؤلاء، بل تتحرّك في الاتجاه الواسع للحياة، لتجعل من هؤلاء نموذجاً حيّاً لهذه الفئة من النَّاس، التي تعيش الانحراف العملي فكراً وممارسةً وتحبّ أن تذكر بالاستقامة، وتواجه الواقع بالتآمر والعدوان وتريد أن تُمدح بالإخلاص والمحبّة، وتتحرّك في طريق الضَّلال وترجو أن يذكرها النَّاس بالهدى... وهكذا تنطلق هذه الفئة في مجالات الزيف والنفاق، لتظلّ في لعبها وعبثها وعدوانها من دون أن تفقد شيئاً من امتيازاتها. ويريد القرآن تعرية هؤلاء أمام النَّاس ليكتشف النَّاس أمرهم وواقعهم، فيبتعدوا عنهم ويحذروهم، ولا يحقّقوا لهم ما يريدون من الحمد والثناء، لئلا يسيئوا للحياة باسم الإحسان؛ وذلك بالتدقيق في شخصياتهم في ما يختبئ وراءها من خلفيّات، والالتفات إلى ألاعيبهم في ما يتحرّكون به من أعمال، والتأكيد على الموازنة في قضايا المدح بين مدلول الكلمة وصدق الواقع، على أساس أن يعيش النَّاس أساليب التقييم من موقع الحقّ والصدق لا من موقع المجاملة والمداراة، فإنَّ ذلك هو الكفيل بإبعاد المنافقين عن ساحة الواقع، لأنَّها لن تحتضن اللاعبين على الحبال، بل السائرين على الخطوط الواضحة بقوّة وثبات وإيمان.

وهكذا يتحوّل الموقف من هؤلاء إلى قاعدة صلبةٍ للتعامل مع النَّاس في مجال العلاقات الإنسانية، فلا مجال للمدح إلاَّ من خلال الفعل الذي يقوم به الإنسان في حياته بالحجم الطبيعي من دون تكبير أو تصغير، لأنَّ القضية ليست كلمة تُقال ثُمَّ تتبخّر في الهواء، بل هي صورة الواقع في صورة الإنسان، في ما يمثِّله من قيمة الحقيقة في حركة الحياة في جانبها السلبي أو الإيجابي، فإنَّ للزيف تأثيراً عكسياً يختلف اختلافاً كبيراً عن تأثير الصدق والإخلاص في طبيعة الموقف والإنسان.

وفي ضوء ذلك، نستطيع أن نجد في هذا النموذج من النَّاس، صورة الكثيرين الذين يحبّون أن يحمدوا بما لـم يفعلوا، من الشخصيات الدينية والسياسية والاجتماعية، التي تحبّ أن تعطي لنفسها حجماً أكبر من حجمها الحقيقي وتريد للنَّاس أن يطلقوا عليها ألقاباً كبيرةً لا تتناسب مع دورها الطبيعي في الحياة، وذلك من أجل أن ترضي زهو العظمة الفارغة في داخل ذواتها، لتأخذ لنفسها ـ في نظر النَّاس ـ مركزاً بارزاً ينسجم مع ما توحيه الألقاب من مشاعر وامتيازات، من دون أن تقدّم للحياة أي شيء في هذا الاتجاه.

إنَّنا نستطيع أن نجد في هؤلاء النموذج المعاصر للصورة التي تريد أن تواجهها الآية بالرفض والإنكار، لأنَّ الإساءة إلى صورة الواقع في قيمه الحقيقية، لا تقل شأناً عن الإساءة إلى المبادئ التي تمثِّلها هذه القيم، مما يكشف عن زيف ما يمثِّلونه من عظمة دينية أو سياسية أو اجتماعية.

ـــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:2، ص:906.