تفسير القرآن
آل عمران / من الآية 190 إلى الآية 195

 من الآية 190 الى الآية 195

الآيــات

{إنَّ في خلق السَّماوات والأرض واختلاف الليل والنَّهار لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكَّرون في خلق السَّماوات والأرض ربَّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النَّار* ربَّنا إنَّك من تُدخل النَّار فقد أخزيته وما للظَّالمين من أنصار* ربَّنا إنَّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربِّكم فآمنا ربَّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنَّا سيئاتنا وتوفَّنا مع الأبرار * ربَّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنَّك لا تخلف الميعاد* فاستجاب لهم ربُّهم إنِّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفِّرنَّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنَّهُم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللّه واللّه عنده حسنُ الثَّواب} (190ـ195).

* * *

معاني المفردات:

[اختلاف الليل والنَّهار]: تعاقبهما، ومجيء كلّ منهما خلف الآخر.

[الألباب]: جمع اللب، وهو العقل. سمي به لأنَّه خير ما في الإنسان، واللب من كلّ شيء خيره وخالصه.

[جنوبِهِم]: أصل الجنب: الجارحة، وجمعه: جنوب، ثُمَّ يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال، كقول الشاعر:

مـن عـن يمينـي      مـرّةً وأمامـي

[سبحانك]: معناه: تنـزيهاً لك من أن تكون خلقتهما باطلاً، وبراءةً مما لا يليق بصفاتك.

[أخزيته]: خَزي الرّجل: لحقه انكسار إمّا من نفسه وإمّا من غيره، فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية، والذي يلحقه من غيره، يُقال: هو ضرب من الاستخفاف[1]. ومصدره الخزي.

[الأبرار]: جمع برّ، وهو الذي برّ اللّه بطاعته إياه حتّى أرضاه، وأصل البرّ الاتساع، فالبَر: الواسع من الأرض خلاف البحر، والبِر: صلة الرحم، والبِرّ: العمل الصالح، والبُرّ: الحنطة، وأبرّ الرّجل على أصحابه: زاد عليهم.

[الميعاد]: من الوعد يكون في الخير والشرّ، يُقال: وعدته بنفع وضُرّ وعداً وموعداً وميعاداً. والوعيد: في الشرّ خاصّة، يُقال منه أوعدته. والموعد والميعاد يكونان مصدراً واسماً.

* * *

مناسبة النزول:

جاء في أسباب النـزول: روي أنَّ أم سلمة قالت: يا رسول اللّه، لا أسمع اللّه ذكر النساء في الهجرة بشيء، فأنزل اللّه تعالى: [فاستجاب لهم ربُّهُم أنِّي لا أضيعُ عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى] الآية[2]. وقال البلخي: نزلت الآية وما قبلها في المتّبعين للنبيّ(ص) والمهاجرين معه، ثُمَّ هي في جميع من سلك سبلهم وحذا حذوهم من المسلمين[3].

وفي الرِّواية الأولى دلالة على أنَّ النَّاس ـ في عهد النبيّ(ص) ـ ومنهن بعض أمّهات المؤمنين كأمّ سلمة، كن يعشن الحساسية تجاه إغفال ذكر النِّساء بشكل صريح في القرآن الكريـم، فقد كان المهاجرون من الرجال والنِّساء ممن تحمّلوا الأذى في سبيل اللّه لالتزامهم بالإسلام عقيدةً وعملاً، فلماذا يتحدّث القرآن عن المهاجرين دون المهاجرات؟ لأنَّ الصيغة في الآيات كانت على أسلوب الجمع المذكر، ولكن الظاهر أنَّ التذكير ليس مراداً من التعبير؛ بل الكلمة واردة على سبيل التغليب، باعتبار أنَّ صفة التذكير تغلب على صفة التأنيث عند إرادة الحديث عنهما بكلمة واحدة.

وقد استجاب اللّه لهذه الرغبة النسائية ـ إن صحت الرِّواية ـ فتحدّث عن الذكر والأنثى ممن يعمل للّه من المؤمنين والمؤمنات من دون فرق في القيمة الإيجابية وفي الثواب، لأنَّ القضية في هذا الجانب هي قضية المبدأ الذي يتحرّك به الإنسان في سبيل اللّه، وهو الإخراج من داره، والإيذاء في سبيل اللّه والمقاتلة أو القتل في خطّ الجهاد في سبيل اللّه. وهذا هو الذي ينبغي التأكيد عليه من مساواة المرأة للرّجل في القيمة الجهادية وفي الثواب الإلهي، لأنَّهما في ذلك سواء في النية والعمل.

وفي الرِّواية الثانية: دلالة على أنَّ الآية لا تنغلق على النَّاس الذين عاشوا في عهد الدعوة الأول، ولو كانت قد نزلت فيهم، بل هي منفتحة على كلّ السالكين في هذا السبيل الجهادي والعملي في خطّ الإسلام، لأنَّه لا خصوصية ـ من حيث المبدأ ـ للمرحلة الأولى إلاَّ من خلال أفضلية الموقف في عناصره القيميّة بعيداً عن الزمن في خصوصياته، فقد يكون المتأخرون متميّزين ببعض الخصائص التي تميّزهم عن المتقدّمين، وقد تكون مرحلة التأسيس أكثر غنى في بعض عناصرها من المراحل التالية، بلحاظ قسوة الاضطهاد التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة.

* * *

العقل هو المنهج الأصيل لاكتشاف الحقيقة الإلهية:

ما هو المنهج الأصيل الذي يمكن للإنسان أن يكتشف به الحقيقة في وجود اللّه، وفي اللقاء به، وفي الشعور بعظمته التي تستولي على الفكر والقلب والشعور؟ هل هو الفلسفة في أسلوبها التحليلي الذي يغرق الإنسان معه في الآفاق التجريديّة، وفي فرضياتها التي تقترب من الخيال أو تعيش معه؟

[إنَّ في خلق السَّماوات والأرض واختلاف الليل والنَّهار لآياتٍ لأولي الألباب]. إنَّ القرآن يحدّد المنهج في الفكر الذي يُلاحق الظواهر الكونيّة في عملية تأمّل وتدبّر وتفكير، فليس للإنسان أن يحدّق في كتب الفلسفة، بل عليه أن يحدّق في كتاب الكون، ليفكّر في خلق السَّماوات والأرض وما يتمثّل فيهما من قوانين طبيعية تنظم لهما المسار، وتربطهما بالحكمة في كلّ الحركات والسكنات والدقائق التي تتعلّق بهما، وليرصد حركة الليل والنَّهار، وكيف تختلف في الزيادة والنقصان حسب اختلاف الفصول والأزمنة، فيعرف أنَّ هناك سرّاً عميقاً وراء ذلك كلّه، فيكتشف أنَّ هناك عقلاً واسعاً كاملاً يخطّط للكون ونظامه، وإرادة قويّة فاعلةً قادرةً تسيطر عليه وتوجه حركته وتمسكه وتحفظه من الانهيار والضياع، فذلك هو النهج الذي يمكن أن يكون آيةً للعقول التي تفكّر في كلّ ما حولها ومَنْ حولها، ولأصحابها الذين لا يتحرّكون في الحياة ولا يحكمون على الأشياء سلباً أو إيجاباً إلاَّ من خلالها؛ وبهذا يلتقي العلم والدِّين في وجود اللّه، وفي تكامل الإنسان من خلال هذا الوجود، على أساس النتائج التي يتوصل إليها في أبحاثه ودراساته، لأنَّ الدِّين لا يدعو إلى الإيمان الأعمى ـ في ما يدعو إليه من إيمان ـ بل يعمل على خطّ الإيمان المنفتح الواعي المبنيّ على التفكير والتحليل الدقيق.

وفي ضوء ذلك، نستوحي الفكرة التي تنطلق لتؤكّد احترام الإسلام للعقل في ما يريد له أن يقوم به من أدوارٍ تتصل بالعقيدة الأساس فيه، فلولا ثقته بالعقل في ما يحلل وما يستنتج، لما اعتبره السمة للنَّاس الذين يتحرّكون في اتجاه اكتشاف الحقيقة، ليوحي إليهم بأنَّ عظمة الإنسان في عقله، كما أنَّ عظمة العقل في حركته في معرفة الحقّ من دراسته الفطرية للكون الواسع من حوله، في ما يحيط به، وفيمن يحيطون به... فإذا كان العقل هو القاعدة الأساس في أصل العقيدة، فكيف يمكن أن يُنسب إلى الدِّين انطلاقه من الخرافة والأسطورة والخيالات المثاليّة التي لا ترجع إلى قاعدة ولا تعود إلى محصل؟ إنَّ أولي الألباب لا ينطلقون في عقائدهم إلاَّ من خلال ألبابهم وعقولهم التي تُلاحق الظاهرة الكونية في عملية حساب، كما تُلاحق الظواهر السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة في ربطها بأسبابها وأوضاعها، لتكون العقيدة محسوبة، كما يكون الواقع العملي محسوباً في مقدماته ونتائجه.

وليست العقيدة باللّه في شخصية الإنسان المؤمن حالةً ذهنية مترفة مجرّدة، بل هي حالة فكريّة واقعية ترتبط باللّه لتحسّ به في حركة الفكر والشعور، كما لو كان ماثلاً أمامها في الحسّ والصورة؛ ولهذا فإنَّها تشعر به يحيط بها من جميع جوانبها وفي جميع حالاتها، ما يجعلها تذكره في كلّ صعيد ومع كلّ وضع.

[الذين يذكرون اللّه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم] لأنَّهم يرونه في كلّ ظاهرة خارج نطاق الجسم، وفي كلّ حركة من حركات الجسد في داخله وخارجه، فلا يغيب عنهم لحظةً واحدة، لأنَّه يملك عليهم الحسّ والشعور... وإذا ذكروا اللّه في ذلك كلّه، فإنَّ هذا الذكر لا يتحوّل إلى حالةٍ صوفيّة متشنجة تجعل الإنسان يغرق في الذات في مثل الغيبوبة الروحية التي تربطه باللاوعي، بل يتحوّل إلى وعي كامل للكون من خلال اللّه؛ فإنَّ اللّه القادر العليم الحكيم لا يمكن أن يخلق شيئاً عبثاً، فكلّ شيء عنده خاضع لحكمة خفيّة أو ظاهرة. إنَّها الفكرة الإجماليّة التي تحكم التصوّر الإنساني في شخصية المؤمن.

ثُمَّ تبدأ التفاصيل الدقيقة تباعاً في حركة الفكر الذي يُلاحق الظاهرة في حركة قوانين الحياة، [ويتفكَّرون في خلق السَّماوات والأرض ربَّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك] فقد انطلقت الحياة من خلال الحكمة في ظواهرها الخاضعة للنظام الكوني الشامل. وهكذا أرادت للإنسان أن يتحرّك على أساس الحكمة في أقواله وأفعاله، باعتباره المظهر الحيّ المتحرّك للحياة النابضة بالروح، لتتكامل الحياة في ظواهرها الكونية والإنسانية، فتنطلق من قاعدة النظام الكامل الحكيم...

وإذا كان الإنسان خاضعاً للنظام في الحياة من خلال ما أرادته له من سلوك عمليّ، وما وعدته من مصير مشرق في حالة الانسجام مع خطّ الطاعة، أو مصير مظلم في حالة التمرّد في خطّ المعصية؛ فإنَّنا نحن الذين يؤمنون بك ويرجون رضاك ويخافون عقابك، ندعوك بأن توفّقنا للسير في خطّ رضاك لنحصل على النجاة من النَّار، [فقنا عذاب النَّار] التي تمثِّل الخزي كلّ الخزي للإنسان في ما تمثِّله من أوضاع مهينة يتحوّل فيها إلى كمية مهملة، وشيء حقير، كأيّة حجارةٍ مرميةٍ في أيّة زاويةٍ من زوايا جهنم؛ في الوقت الذي يواجه فيه الذلّ والحقارة في صورة العذاب الذي يتعرّض له.

* * *

دعاء المؤمنين وابتهالهم إلى اللّه:

[ربَّنا إنَّك من تدخل النَّار فقد أخزيته] ومن هو هذا الإنسان الذي تدخله النَّار؟ ما هي صفته؟ إنَّه الإنسان الذي يظلم نفسه بالمعصية والتمرّد على اللّه، ويظلم النَّاس بالغلبة والقهر، فيكون في عداد الظَّالمين الذين لا يملكون أيّة قوّة أمام قوّة اللّه [وما للظَّالمين من أنصارٍ]. ويقف هؤلاء المؤمنون أمام اللّه في وقفة اعتراف وابتهال، ليشهدوه على إيمانهم الذي انطلق من وعيهم لحقيقته في ما انطلقوا فيه من فكر الحقيقة، فاستجابوا لنداء الدعوة إليه من قبل الرّسل: [ربَّنا إنَّنا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربِّكم فآمنا] فلم يتطرق إلينا الشك في اللّه لحظة واحدة، لأنَّنا انطلقنا في عقولنا من منطق الوعي، فلم نجمّد حركة الفكر في قضايا العقيدة، بل أطلقنا له العنان ليفتّش ويفكّر ويسأل ويحاور ويناقش الآخرين كلّ الآخرين، فوصلنا إلى القناعة من أقرب طريق.

ولكن الإيمان فكرة وعمل، ولا بُدَّ للعمل من إرادة وعزم. وقد تضعف الإرادة أمام اندفاع الشهوة، وقد يتلاشى العزم أمام قوّة التحدّي، فقد تزلّ بنا القدم في مزالق الطريق، وقد تنحرف بنا الخطى عن الصراط المستقيم، وقد نلتقي بالشَّيطان فيزيّن لنا المعصية، ويشوّه لنا صورة الطاعة، ويصوّر لنا الباطل في صورة الحقّ، ثُمَّ نتراجع فنعود إلى إيماننا لنحتمي به، ونرجع إلى ربّنا لنستغفره ونخضع له: [ربَّنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنَّا سيئاتنا] فإنَّك تغفر الذُّنوب لمن تشاء وتعفو عن السيئات لمن تشاء، [وتوفَّنا مع الأبرار] الذين يعيشون البرّ في الطاعة عندما يطيعون، وفي التوبة عندما يخطئون ويتراجعون عن خطئهم [ربَّنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك] من المغفرة عند التوبة، والجنَّة للمخلصين المطيعين لك في عملهم وفي توبتهم، [ولا تخزنا يوم القيامة] بالوقوف موقف الذل أمام أعين النَّاس، لأنَّك لا تخزي التائبين المنيبين إليك، وذلك هو وعدك الحقّ، وأنت أصدق الواعدين [إنَّك لا تُخلفُ الميعاد].

* * *

جزاء العمل الصالح:

ويتصاعد الدُّعاء من أعماق القلوب صافياً نقيّاً حاراً صادقاً، ويستجيب اللّه للدُّعاء؛ ولكن القضية ليست قضية ما يتحرّك في الدُّعاء من كلمات، بل في ما يمثِّله من مواقف، فإنَّ اللّه لا يتعامل مع النَّاس إلاَّ من خلال العمل الذي تتحرّك الرحمة في داخله ومن خلاله. فالعاملون الذين يصيبون في عملهم، أو الذين يخطئون وهم يريدون الإصابة، هم القريبون من المواقع الطبيعية للاستجابة وللرحمة. أمّا الذين لا يعملون، بل يعيشون الحياة عجزاً واسترخاءً وكسلاً وراحةً، فهم البعيدون عن رحمته القريبون إلى سخطه، لأنَّهم تنكّروا لسنّة اللّه في الحياة ولصراطه المستقيم في العقيدة والشريعة. [فاستجاب لهم ربُّهم أنّي لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى] فلكلّ واحد جزاء عمله من دون فرق بين الذكر والأنثى، لأنَّ قضية العمل الصالح لا تختلف في خصائص الذكورة والأنوثة، بل تنطلق من خصائص الإنسانية في حركتها الصاعدة في الحياة. فللأنثى نصيبها من نتائج العمل الصالح، وللذكر نصيبه منه، فربَّما تتفوّق عليه في عملها فتنال الدرجة العليا لدى اللّه، وربَّما يتفوّق عليها في عمله فينال ذلك من خلال جهده، [بعضُكم من بعضٍ] فقد خلق اللّه الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر في عملية التوالد الطبيعي.

أمّا العمل الأفضل في حركة الدعوة، وحماية الدِّين، وابتغاء مرضاة اللّه، وتحمّل الخروج من ديارهم، والأذى في سبيل اللّه، والقتال الذي هو السبيل للتكفير عن السيئات وللدخول إلى الجنَّة [فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفِّرنَّ عنهم سيئاتهم ولأدخلنَّهم جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهار ثواباً من عند اللّه واللّه عنده حُسنُ الثَّواب].

* * *

ماذا نستوحي من هذه الآيات؟

1 ـ قد نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات الفكرة عن شخصية المؤمن في الإسلام، فهي شخصية الإنسان الواعي المفكّر الذي يحرّك طاقته الفكرية في سبيل الوصول إلى قناعاته الإيمانيّة من وحي التفكير والمعاناة والتجربة والملاحظة، فلا يعتقد بشيء إلاَّ على أساس ذلك. وعندما نلتقي بشخصية الإنسان المفكّر المؤمن في خطّ العقيدة، فإنَّ من الطبيعي أن نلتقي بها في خطّ الحياة، فلا ينطلق مع أحداثها إلاَّ في خطّ الفكر والتجربة، لأنَّ ملامح الشخصية لا تتعدّد في مضمون الأشياء. فإذا كان الإنسان عاطفياً في جانب، فإنَّه يتحرّك عاطفياً في بقيّة الجوانب؛ وهكذا تكون القضية في خطّ الفكر في الحياة. ولكن شخصية المفكّر لا تلغي شخصية الإنسان الروحاني الذي يعيش الروحيّة العميقة تجاه اللّه، من خلال ما يعيش من مشاعر روحيّة، لأنَّ الفكر لا يتحرّك من مواقع الجفاف النفسي، بل ينطلق من أعماق الينابيع المتدفقة في الحياة في ما تشتمل عليه من أفكار ومشاعر... ولهذا نجد الانطلاقة الروحيّة في هذه الآيات في حركة الانطلاقة الفكريّة في هذه المناجاة الخاشعة التي تلتقي باللّه في مغفرته ورضوانه ورحمته لعباده المؤمنين، ليبقى الإنسان منسجماً مع إيمانه في روحيّة اللقاء باللّه والسعي لرضاه، باعتباره هدف الحياة الكبير، كما يعيش الانسجام معه في فكره العميق الذي يطرد من حوله الشكوك والشبهات ويركّز الخطّة الواحدة لحياته من خلاله.

2 ـ وقد نستوحي من هذه الآيات، أنَّ قضية الجنَّة تلتقي ـ في حركة الإنسان المؤمن في الحياة ـ بالجانب الجهادي الذي يعيش فيه المعاناة نتيجة ما يتعرّض له من اضطهاد وما يتحمّله من أذى، وما يضطرّ إليه من الوقوع تحت ضغط القوى الغاشمة التي تخرجه من داره وموطنه وتدفعه إلى الهجرة قسراً من خلال الضغوط القاسية التي تُمارسها ضدَّه، وذلك كلّه من أجل اللّه، وابتغاءً للحصول على رضوانه.

ومن خلال ذلك، ندعو أولئك الذين يعيشون الحياة في استرخاء، ويعتبرون الجنَّة ملتقى للعابدين الذين يغرقون كلّ همومهم وآلامهم وتطلّعاتهم في العبادة، وينعزلون عن الحياة في عمليّة هروب دائمة من التعرّض للخطر في المسير، ليأخذوا لأنفسهم ولمن يتعلّق بهم الأمن والراحة والطمأنينة، في الوقت الذي تهتز فيه الساحة أمام التحدّيات الكافرة والضالّة... إنَّنا ندعوهم إلى أن يقرأوا هذه الآيات بوعي وتأمّل، ليعرفوا ـ جيِّداً ـ أنَّ هؤلاء الذين استجابوا لداعية الإيمان فآمنوا، لـم يأخذوا الإيمان في كسلٍ واسترخاءٍ، بل انطلقوا فيه رسالةً وجهاداً ومعاناةً ومواجهةً قوية لكلّ الضغوط والتحدّيات الطاغية، فأوذوا في سبيل اللّه ولم يسقطوا تحت تأثير الأذى، وأخرجوا من ديارهم وهاجروا من دون أن يتعقّدوا من الجهاد وخطواته ونتائجه...

ولهذا كانت الجنَّة ثمناً لكلّ هذا الجهد ولكلّ هذا الجهاد، وكانت دعواتهم المتصاعدة من قلوبهم تمثِّل دعوات المجاهدين الذين يخافون على جهادهم أن يضعف ويهتز وينحرف أمام بعض الخطايا التي يرتكبونها من دون قصد، ويخشون على علاقتهم باللّه أن تنقطع من خلال الأوضاع التي تحيط بهم فتبعدهم عن اللّه وتنسيهم ذكره... ولهذا يشعر الإنسان بنبض القلوب يتحرّك في كلّ كلمة من هذه الكلمات، حتَّى كأنَّ قلوبهم تحوّلت إلى دعوات وكلمات، وليست كالدعوات التي تنطلق من قلوب هادئة بعيدة عن جوّ المعاناة، حيث يتمثّل الإيمان فيها كما لو كان ترف فكرٍ لا كخفقة روح وشعور. إنَّ هناك فرقاً بين أن تدعو اللّه من موقع المعاناة في سبيله، وبين أن تدعوه من موقع المعاناة في سبيل ذاتك، وذلك هو الفرق بين الذين يعيشون الإسلام فكراً واسترخاءً، وبين الذين يعيشونه جهاداً وعملاً وموقف حياة.

ــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:148.

(2) أسباب النزول، ص:77.

(3) مجمع البيان، ج:2، ص:914.