من الآية 196 الى الآية 198
الآيــات
{لا يغرَّنَّك تقلُّبُ الذين كفروا في البلاد * متاعٌ قليلٌ ثُمَّ مأواهم جهنَّمُ وبئس المهادُ * لكن الذين اتَّقوا ربَّهُم لهم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نُزُلاً من عند اللّه وما عند اللّه خيرٌ للأبرار} (196ـ198).
* * *
معاني المفردات:
[لا يغُرَّنَّك]: الغرور: إيهام حال السرور فيما الأمر بخلافه في المعلوم، وليس كلّ إيهام غروراً، لأنَّه قد يوهمه تخوّفاً فيحذر منه، فلا يُقال: غرّه. والغرر: نظير الخطر، والفرق بينهما أنَّ الغرر قبيح كلّه، لأنَّه ترك الجزم في ما يمكن أن يتوثق منه، والخطر قد يحسن على بعض الوجوه لأنَّه من العظم، من قولهم: رجل خطير: أي: عظيم.
[تقلُّبُ]: التقلّب: التصرّف مأخوذ من قلب الشيء تصريفه وصرفه عن وجه، إلى وجه، كقلب الثوب وقلب الإنسان، أي: صرفه عن طريقته.
[متاعٌ]: المتاع: النفع الذي يتعجل به اللذة، إمّا بوجود اللذة أو بما يكون به اللذة، نحو المال الجليل، والملك، والأولاد، والإخوان.
[المهادُ]: الذي يسكن فيه الإنسان ويفترشه.
* * *
الضعف طبيعة بشرية والقوّة المطلقة للّه وحده:
في هذه الآية، يريد اللّه سبحانه ـ كما في أكثر الآيات القرآنية ـ أن يُفرّغ نفوس النَّاس من كلّ إحساس بالتعظيم والاحترام والرهبة من القوى الكافرة الطاغية الباغية التي تواجه اللّه بالتمرّد في الفكر والعمل، وذلك من أجل إرجاعهم إلى إنسانيّتهم الحقيقية في الانفتاح على ما حولهم ومن حولهم بواقعيّة وانطلاق وموضوعيّةٍ، فلا يتصوّرون الأشياء بأكبر من حجمها الحقيقي في طبيعتها وفي تأثيرها، لأنَّ المشكلة التي يعيشها الإنسان في حياته، هي أنَّ الصورة التي يواجهها في ما يشاهده من القوى المسيطرة في الكون، تملأ نفسه بالرهبة والشعور بالصّغار والانسحاق أمام هذه القوى، ويتحوّل ذلك إلى خضوع لكلّ أفكارهم وأوضاعهم المنحرفة، ما يؤدّي إلى انحراف المنحرفين وتنازل الكثيرين عن خطّهم.
وهذا هو المنطق الذي يفرض نفسه على كثير من الساحات الإسلامية في العالـم، ولا يزال يفرض نفسه على ساحتنا الآن، فنحن ننظر إلى القوى في مرحلتها المتقدّمة ولا ننظر إليها في حالة ولادتها، أو في حالة انحسارها، فنشعر بالضعف أمام ذلك كلّه... أمّا إذا تبدّل هذا المنطق، فأصبحنا ننظر إليها في مراحل بداياتها أو نهاياتها، فإنَّنا سننظر إلى القوّة كمرحلة مجرّدة من مراحل نموّ الإنسان وتطوّره، فنتعامل معها، من خلال ذلك، تعاملاً واقعياً ليس فيه الكثير من حالات الانفعال والتضاؤل... وهذا ما أراد القرآن الكريـم أن يثيره أمام الإنسان في أكثر من صورة، فنراه يعرض هؤلاء الذين يعتبرهم النَّاس آلهة في حالات ضعفهم ولا يلتفت إلى حالة قوّتهم، لأنَّه يهدف إلى إبراز جوانب الضعف، ليعيش الإنسان الشعور بواقعية الضعف في حياتهم كشيء طبيعي جداً. فإذا رأوا جانب القوّة لديهم، نظروا إليه نظرة متوازنة تثير المقارنة بين الحالتين، فتتوازن من خلال ذلك النظرة والتصرّف والعلاقة والاتباع، وذلك كما في قوله تعالى: [إنَّ الذين تدعون من دون اللّه لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطَّالِبُ والمطلوب] (الحج:73).
فإنَّ الآية تواجه هؤلاء الذين يعتقد النَّاس أنَّهم آلهة معبودون من دون اللّه في ما يثيره ذلك التصوّر من قوّتهم وضخامة شخصيتهم، فتضع أمامهم شخصية الذباب في ضآلته وحقارته، ثُمَّ توحي بأنَّ هؤلاء الكبار الضخام الذين قد يشيّدون القصور الكبيرة والقلاع المحصّنة، لا يستطيعون خلق الذباب ولو اجتمعوا له وبذلوا طاقاتهم فيه، لأنَّهم لا يملكون القدرة على الخلق حتَّى في أشدّ الأشياء حقارة، فتتضاءل الصورة وتتصاغر، ويتعمّق الشعور بأنَّ قضية القوّة الإلهية لا تكمن في القدرة على إعلاء البناء فقط، بل تتمثَّل في إبداع الروح في الأشياء مهما كانت حقيرة، لأنَّ ذلك هو الشيء الذي يميّز الخالق عن المخلوق.
وتتصاعد الفكرة في اتجاه جديد، فهذه الذبابة الصغيرة الحقيرة تملك من القدرة على أن تسلبهم بعض الأشياء من قوّتهم وصحتهم، فلا يستطيعون إرجاع ذلك منها ولا يملكون استنقاذه، فأيّ ضعف هو هذا الضعف الذي يتمثّل في هؤلاء الأقوياء الذين إذا ملكوا القوّة في جانب، فإنَّ الضعف يتمثّل فيهم في جوانب أخرى. وتلك هي القصة في الأشياء التي يتمثّل فيها الضعف من جهة وتتحرّك فيها القوّة من جهة أخرى، لتتوازن النظرة في الإنسان، فلا يصعد إلى ما لا يبلغه من الدرجة لدى نفسه ولدى الآخرين.
صورة الكافرين في القرآن:
وتنطلق هذه الآية في هذا الاتجاه: [لا يغرنَّك تقلُّب الذين كفروا في البلاد] فقد يخضع الإنسان للشعور بالانسحاق أمام القوّة الكبيرة المتمثّلة في حركة الكافرين، عندما يفتحون بلداً أو يحكمون آخر ويسيطرون على شعب من الشعوب، وقد يغرّه ذلك، فيمتد معهم في ما لا يستحقونه، ويستسلمون له استسلام الأمل الكبير للفرص الخالدة الممتدة المتعاظمة أمامهم، التي توحي إليهم بالكثير من الأطماع والشهوات، فيستريحون إلى ذلك كلّه في ما ينتظرهم من مستقبل الأيام الطويلة... ولكن القرآن يريد أن يربطهم بواقع الأشياء ويُبعدهم عن الأجواء الخياليّة المتحرّكة بالأحلام الضبابيّة؛ فلكلّ واحدٍ منهم عمر محدود وطاقة محدودة، ولكلّ واحد منهم نقاط ضعف في ذاته وفي حكمه. إنَّهم مجرّد مرحلة في حياة الأمّة، قد تتسع وقد تضيق، وقد تمتد وقد تنكمش... ولكنَّها سوف تنتهي في وقت قصير [متاعٌ قليلٌ].
وماذا بعد ذلك؟ ما قيمة ذلك كلّه؟ إنَّ العاقبة الوخيمة تنتظرهم هناك عندما يفارقون هذه الدُّنيا، فسيفقدون كلّ هذه العظمة الفارغة ويتحوّلون إلى غذاءٍ شهيّ للنَّار، تماماً كما هي الأخشاب والهشيم... [ثُمَّ مأواهم جهنَّمُ وبئس المهاد] فذلك هو مأواهم ومصيرهم السيِّئ وبئس المهاد. إنَّه الدور النفسي الذي يستهدف تفريغ داخل الإنسان من التأثيرات النفسية المنبهرة بمظاهر العظمة المحيطة بهم، فما قيمة ذلك كلّه في نطاق إدراكنا بأنَّ هؤلاء الكافرين يعيشون الحياة كمتاع، مجرّد متاع؟! فقد لا يكون لهذه النظرة السلبية في داخلنا ضدَّهم تأثير على القوى الطاغية والباغية بشكلٍ فوري حاسم، ولكنَّه يترك الأثر الإيجابي للمستقبل، لأنَّ الصّراع بين المستكبرين والمستضعفين، في حركة الصراع بين القوّة والضعف، لا تحكمه القوى الماديّة فقط، بل تتدخل فيه القوى النفسية.
فإنَّ هناك عنصرين يساهمان في هزيمة الضعفاء أمام الأقوياء وهما: عنصر القوّة المادية التي يملكها المستكبرون، وعنصر المشاعر السلبية الانهزامية التي ينسحق ـ من خلالها ـ المستضعفون تحت تأثير المستكبرين. وقد تعامل الإسلام ـ في ما يريده من تقوية حركة المقاومة ضدَّ هؤلاء ـ مع العنصر الأول في ما جاءت به الآية الكريمة: [وأعدُّوا لهم ما استطعتم من قوّةٍ] (الأنفال:60)، ومع العنصر الثاني في ما جاءت به هذه الآية وأمثالها للدخول في عملية موازنة ومقارنة بين القوّة التي تفنى وتزول، وبين القوّة التي تملك أمر الحياة والموت، فلا يستسلم الإنسان للقوّة الزائلة، بل يخضع للقوّة الخالدة التي تملك كلّ القوى المادية والمعنوية، وبذلك يتحرّك في عملية تطوير القوّة المضادّة والانطلاق بالصراع إلى نهايته حتّى النصر، ولو بعد حين. إنَّ الفكرة الحاسمة هي أنَّ كلّ القوى لن تدوم، لأنَّها مجرّد متاع قد يفنى في الدُّنيا، وقد تفنيه الدُّنيا. وفي هذا الجوّ، ينطلق التفاؤل بالمستقبل الكبير من أجل صنع القوى الوليدة الجديدة التي تمسك بزمام الأمر كلّه على اسم اللّه.
* * *
صورة المؤمنين في القرآن:
تلك هي صورة الكافرين؛ متاع قليل لا يلبث أن يتحوّل إلى عالـم الموت، وكيان يحترق حتّى يستحيل إلى رماد. [لكن الذين اتَّقوا ربَّهُم] فوقفوا حيث يريد اللّه منهم أن يقفوا، وتحرّكوا حيث يريد اللّه منهم أن يتحرّكوا، في مختلف مجالات الحياة السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والعسكريّة... لأنَّ لكلّ جانبٍ من جوانب الحياة تقوى تحكمها في ما يتحرّك فيها من أحكام شرعية ومفاهيم إسلامية تفرض على الإنسان الخضوع لها والانضباط على أساسها؛ انطلاقاً من شمول الإسلام لكلّ نواحي الحياة، ما يوحي لك بأنَّ عليك أن تحسب حساب اللّه في ذلك كلّه، ولا تستسلم لنـزواتك ومزاجك، أو لما يُحاول الآخرون أن يهوّلوا به عليك، أو يبرروه لك من دون أن تملك فيه حجّة أو برهاناً، فذلك هو خطّ التَّقوى الذي يُعطينا اللّه ـ من خلاله ـ فكرةً عن الأجواء في الآخرة التي تنتظر السائرين عليه... [لهم جنَّاتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نُزُلاً من عند اللّه] فهو الذي ينـزل رحمته على المتَّقين في الدُّنيا والآخرة، [ومـا عند اللّه خيرٌ للأبرار] فإنَّ هذه الآفاق الرحيبة التي تفتح قلب الإنسان وروحه على المتع الروحية المطلقة، هي خير من كلّ ما يتطلعون إليه في الدُّنيا أو يفقدونه فيها، وقد ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن الجنَّة ونعيمها: «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر». وهكذا تتقارن الصورتان أمام المؤمن، صورة الكافرين وصورة المتَّقين، ليقف مع الخطّ الإيماني التَّقي الأصيل من موقع النهايات السعيدة التي تنتظره في نهاية المطاف.
تفسير القرآن