الآية 199
الآيــة
{وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمنُ باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه لا يشترون بآيـات اللّه ثمنـاً قليلاً أولئك لهم أجرهم عند ربِّهم إنَّ اللّه سريـعُ الحساب} (199).
* * *
معاني المفردات:
[خاشعين]: خاضعين: وأصل الخشوع السهولة، من قولهم: الخشعة: وهي السهولة في الرمل كالربوة، والخاشع من الأرض: الذي لا يهتدي لأنَّ الرمل يُغطّي آثاره، والخاشع: الخاضع ببصره، والخضوع: هو التذلل خلاف التعصب.
* * *
مناسبة النزول:
جاء في مجمع البيان: اختلفوا في نزولها فقيل: نزلت في النجاشي ملك الحبشة واسمه أصحمة وهو بالعربية عطية، وذلك أنَّه لما مات نعاه جبرائيل لرسول اللّه(ص) في اليوم الذي مات فيه، فقال رسول اللّه: اخرجوا فصلّوا على أخٍ لكم مات بغير أرضكم. قالوا: ومن؟ قال: النجاشي، فخرج رسول اللّه(ص) إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى ارض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي وصلّى عليه، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على علج نصراني حبشي لم يره قط، وليس على دينه، فأنزل اللّه هذه الآية، عن جابر بن عبد اللّه، وابن عباس، وأنس، وقتادة.
وقيل: نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، واثنين وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبيّ(ص)، عن عطاء. وقيل: نزلت في جماعة من اليهود كانوا أسلموا، منهم: عبد اللّه بن سلام ومن معه، عن ابن جريج، وابن زيد، وابن إسحاق. وقيل: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلّهم، لأنَّ الآية قد تنـزل في سبب وتكون عامّة في كلّ ما تتناوله، عن مجاهد[1].
ولعلّ الرِّواية الأخيرة، أو الرأي الأخير، هو الأقرب إلى الجوّ القرآني في الآية، لأنَّ الحديث عن أهل الكتاب يمثِّل الحديث العام المتحرّك في ساحة الواقع الديني الذي كان الإسلام يعيش فيه، باعتبار أنَّهم الفريق الآخر المعترف به إسلامياً في المجتمع المسلم، بحيث إنَّ الإسلام يعمل ـ في تشريعه أو في حركته ـ على توحيد الأسس الإيمانية بينه وبين أهل الكتاب، وذلك على أساس الكلمة السواء في توحيد اللّه، وفي ضوء ذلك، كانت التجربة الإسلامية في خطّ الدعوة والحوار تنفتح على جماعةٍ هنا وجماعة هناك من أهل الكتاب يؤمنون بالإسلام من خلال البراهين الموجودة عندهم، كما أنَّ هناك منهم من يعيشون العقدة الفئوية التي لا تريد التنازل عن موروثاتها وامتيازاتها، فتبقى في ساحة التحدّي تواجه النبوّة في عقائدها ومفاهيمها وأحكامها ومناهجها.
وهكذا كانت هذه الآية حركةً في المسيرة القرآنية التي توصل خطوط العقيدة في الواقع الذي كانت تعيشه الدعوة في خطّ الإيمان والكفر، وربَّما كانت الاختلافات المذكورة اختلافات في الاجتهاد في تطبيق الآية على هذا أو ذاك، أو هذه الجماعة أو تلك. واللّه العالم.
* * *
تحرّي جوانب الخير في أهل الكتاب:
وينطلق القرآن في ساحة الصراع الفكري والعملي بين أتباع الديانات السَّماويّة، ليؤكّد حقيقةً ثابتةً في مجال الدعوة إلى اللّه، وهي الابتعاد عن خطّ اليأس من تغيير الواقع عندما نواجه الكثيرين ممن يتعصبون لفكرهم ويخالفون فكرنا ويحاربونه ويتعصبون ضدَّه، فقد نخضع في مثل هذه الحالة إلى حالةٍ نفسيّة سيّئة ضاغطةٍ تجعلنا نفكّر بعدم الجدوى في الحديث مع هؤلاء عن الإسلام ومفاهيمه وأحكامه... ويريد القرآن أن يوحي إلينا بأن لا نيأس ولا ننهزم، بل يجب أن نتابع الطريق حتَّى نهاياته، ونؤمن بأنَّ هناك جانباً طيّباً في نفس كلّ إنسان يمكن أن يلتقي بالحقيقة، فيؤمن بها ويتحرّك معها، فلا بُدَّ لنا من أن نلاحقه ونستثيره، ونصرّ على التعامل معه، فلا نهزم أنفسنا ومواقفنا قبل أن ندخل في المعركة، بل نتابع المسيرة لنلتقي بالجانب الطيب الإنساني الذي يلتقي بالإيمان في دعوتنا إلى اللّه.
وربَّما يحتاج العاملون للإسلام أن يتعاملوا مع هذه الحقيقة في مجال الدعوة، في المجتمعات الضاغطة التي تخضع للسيطرة ـ شبه المطلقة ـ لبعض الاتجاهات غير الإسلامية، ما يوحي بأنَّ القضية ميؤوس منها على مستوى الحاضر والمستقبل. فقد يبدو لنا أنَّ مثل هذا التفكير ينطلق من دراسة المستقبل على أساس طبيعة الأمر الواقع في الحاضر، فيتصوّر المستقبل في أجواء الحاضر، ولكن هذا الاتجاه خاطئ في المجال العملي، لأنَّ قضية النصر في أيّة معركة تتطلّب منك أن تتصوّر المستقبل من خلال المعطيات الجديدة التي تستقبل الكثير من المتغيّرات السياسيّة والعسكريّة والاجتماعيّة، ما يمكن أن يترك أثره الإيجابي أو السلبي على حركة المعركة، كما يفرض عليك التصوّر الواقعي أن تبحث عن نقاط الضعف في الحاضر لدى خصومك من أجل أن تنميها وتطوّرها وتستفيد منها في عملية التغيير، وتبحث عن نقاط القوّة الصغيرة لديك من أجل أن تثيرها وتوجّهها في الاتجاه الواسع الكبير الذي يتحوّل إلى القوّة الكبيرة الضاغطة.
* * *
التغيير يبدأ من الداخل:
إنَّ الشرط الأساسي في حركة التغيير يبدأ من الداخل، وذلك بالشعور العميق بإمكانية التغيير أياً تكن الصعوبات، لأنَّ الصعوبات لا تنطلق في حجم الحياة، بل تتحرّك في حجم المرحلة، ما يجعلك تفكّر في الهدف على أساس سياسة المراحل. فإذا التقيت بمرحلة ضاغطة صعبة، فإنَّ بإمكانك أن تقفز إلى مرحلة أخرى تملك زمام الأمر فيها من أجل الوصول إلى الهدف. إنَّ التحدّيات الصعبة لا تلغي الهدف، بل ربَّما تؤخره إلى مرحلة جديدة.
وهذا ما عاشه الأنبياء في حركة الدعوة إلى اللّه والعمل في سبيله، فقد دخلوا المعركة والعالم من حولهم يعبد الأصنام ويكفر باللّه، ويستسلم للقيم المادية التي يفرضها واقع الكفر والشرك، ووقفوا يطلقون الصوت بقوّة، وكانت الأصوات المضادّة أقوى، ولـم يخفت الصوت الجديد ولم يتراجع، بل انطلق مرّة ثانية وثالثة ورابعة، واخترق الحاجز المضادّ، وبدأت الأصوات تخفّ، واستمر الأنبياء، وخفتت الأصوات كلّها، وبدأ صوت اللّه يتحرّك في كلّ أذن، ويعيش في كلّ قلب، ويفرض نفسه على كلّ ساحة. لقد آمن الأنبياء بحقيقة إنسانية ثابتةٍ في الإنسان، وهي أنَّ في الإنسان ينابيع خير يمكن أن تتفجّر، وطاقة إيمان يمكن أن تتحرّك وتتنامى، فلا بُدَّ من التعامل معها بواقعية وصبر، ولا بُدَّ للواقعية من أن تتحرّك في ضمن خطّة تحسب حساب الرواسب التاريخية التقليدية والعقد النفسية الصعبة والظروف الموضوعية الضاغطة، وتصبر على ذلك كلّه من أجل أن تذوّبه تدريجياً، لتعود الأرض صالحةً للغراس الجديدة من دون عوائق أو صعوبات كبيرة. وهكذا انطلقت غراس الإيمان في أرض الإنسان الذي صبر الأنبياء عليه حتَّى اكتشف الحقيقة.
إنَّ من واجبنا أن نفكّر أنَّ الحياة بحاجة إلى الإسلام، ولكنَّها تحتاج إلى جهدٍ كبير لتكتشف حاجتها إليه، ولتسعى ـ بعد ذلك ـ من أجل الانطلاق إيجابياً مع هذه الحاجة، ولذلك فإنَّ علينا أن نتعامل مع هذه الحقيقة بحجم الحياة وبحجم العالـم، فلا نستسلم للقضايا الصغيرة في عملية ضعف واستسلام.
إنَّ معنى أن نحمل الإسلام هو أن نشعر بأنَّ دعوته لا بُدَّ من أن تشمل العالـم بعيداً عن كلّ الحواجز الفكريّة والسياسيّة، تماماً كما حمله رسول اللّه محمَّد (ص)، وإنَّ مهمتنا هي أن نتقدّم به نحو هذا الهدف، ولو خطوة واحدة، أو بضع خطوات، من أجل أن يسير الآخرون على أساس هذه الخطوات في انطلاقهم نحو الهدف، فإنَّ الحياة مليئة بالفرص المتحرّكة في قضية الإيمان لدى الإنسان.
وهذا ما أرادت الآية الكريمة أن توحيه من خلال ما تقدّمه من نماذج أهل الكتاب الذين كانوا يمثِّلون الخطّ المعادي للإسلام في فكره ومسيرته، ولكنَّهم انطلقوا مع حقيقة الإيمان بعيداً عن التعقيدات، وتحرّكوا مع الخشوع للّه الذي يستدعي الخضوع لشريعته، فآمنوا بالإسلام فكراً وشريعة حياة... [وإنَّ من أهل الكتاب لمن يؤمنُ باللّه وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم خاشعين للّه] فقد كانوا يطلبون الوصول إلى الحقّ، ولكن الطريق مسدودة أمامهم في ما يعيشونه ويلتقون به من حواجز مادية ومعنوية... إلاَّ أنَّهم استطاعوا تحطيم تلك الحواجز وخشعوا للّه، فخضعوا للحقّ الواحد الذي أوحى به اللّه في رسالاته، ورفضوا كلّ الحساسيات السلبيّة التي تحول بينهم وبين الإيمان... [لا يشترون بآيات اللّه ثمناً قليلاً] لأنَّهم يؤمنون أنَّ قضية العقيدة هي قضية الإنسان في روحيته وإنسانيته ومصيره، فلا يمكن أن يتاجر بها لقاء دراهم معدودة، [أولئك لهم أجرهم عند ربِّهم] لأنَّهم تمرّدوا على كلّ مشاعر العصبيّة الضاغطة، وتحرروا من كلّ الدوائر الضيّقة التي تحبس فكرهم وشعورهم وتسجنه في الظلام، وعرفوا أنَّ الحياة موقف، وأنَّ الموقف يجسِّد للإنسان معنى أن يكون إنساناً أو لا يكون... [إنَّ اللّه سريعُ الحساب].
ـــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:2، ص:916 ـ 917.
تفسير القرآن