تفسير القرآن
آل عمران / الآية 200

 الآية 200

الآيــة

{يا أيُّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتَّقوا اللّه لعلَّكُم تُفلِحونَ} (200).

* * *

النداء الأخير في السورة:

[يا أيُّها الذين آمنوا] قد يكون هذا النداء الأخير في هذه السورة دعوةً إلى الانطلاق مع كلّ القضايا التي أثارها اللّه في السورة من مواقف الصراع الصعب بين المؤمنين والكافرين من المشركين وأهل الكتاب، لأنَّ ذلك يفرض على الإنسان الصلابة والثبات والاستمرار على الخطّ، فلا يضعف ولا ينحرف ولا يتزلزل، بل يبقى في المستوى الكبير من المسؤولية إزاء إيمانه ومسيرته ومصير النَّاس من حوله. وبهذا انطلق النداء في التركيز على جوانب أربعة ذات قيمةٍ عملية في تحقيق عملية التوازن في حركة الشخصيات الإسلامية:

1 ـ الصبر:

[اصبروا] وقد تحدّث اللّه عن الصبر في القرآن الكريـم من حيث ما يمثِّله من قيمة روحيّة وعمليّة كبيرة، في ما تتحرّك فيه من تحقيق القوّة والتماسك أمام نوازع الضعف، واشتداد الأزمات، واهتزاز المواقف من خلال اهتزاز الساحة، فإنَّ الإنسان الذي يملك طاقة الصبر على الشدائد والأهوال يستطيع أن يملك أمره في كلّ مواقفه الخاصّة والعامّة، وبذلك كان الصبر من عزم الأمور كما تحدّث به القرآن. وقد لا نحتاج إلى التأكيد على قيمة الصبر في حياة الداعية إلى اللّه في ما يواجهه من انحرافات ضاغطة في الأفكار والمشاعر والمواقف والأوضاع السلبيّة المحيطة به، ليُقابل ذلك بهدوء الرسالة وعمقها وامتدادها في حركة الحياة.

* * *

2 ـ المصابرة:

[وصابروا] فسّر بعضهم المصابرة بما يلتقي مع معنى الصبر، كما لو كانت كلمة مرادفة لها. وفسّرها البعض بـ «الغالبة في الصبر»، فهو لا يطلب منهم أن يصبروا في أنفسهم فقط، ولكن أن يغالبوا أعداءهم في الصبر؛ فالصبر يكون في كلّ ما يصيب المرء من أزمات تقع عليه خاصّة، والمصابرة تكون في ما يصيب المرء ويصيب أعداءه من شدائد في مثل الحرب والجهاد. وقد جاء الأمر بالمصابرة في قوله تعالى: [إن يمسسكم قرحٌ فقد مسَّ القوم قرحٌ مثلُهُ] (آل عمران:140) أي: فلا يغلبوكم بالصبر على قرحهم أكثر من صبركم على قرحكم، وفي قوله تعالى: [إن تكونوا تألمون فإنَّهم يألمون كما تألمون وترجون من اللّه ما لا يرجون] (النِّساء:104)؛ أي: فعندكم سبب للتفوّق والغلبة مما ليس عندهم مع استوائكم وإيّاهم في تحمّل الأذى والألم.

* * *

3 ـ المرابطة:

[ورابطوا]: والرباط: اللزوم والثبات، وأصله من الربط بمعنى الشدّ، وهو عزيمة يعزمها المؤمن بالشيء، فيربط اللّه بها على قلبه، فلا يتحوّل ولا يتزلزل.

ولعلّ المراد بها هنا هو أن يكون الإنسان مستعداً للثبات والصمود على حدود الإسلام، سواء أكانت حدوداً جغرافيّة أم كانت حدوداً فكريّة أم سياسيّة أم اجتماعيّة أم اقتصاديّة، فيشعر أنَّ من واجبه مراقبة تحرّكات العدوّ في كلّ أوضاعه، سواء كان العدوّ شيطاناً يريد أن يغويه، أو إنساناً يريد أن يتحدّاه أو يتحدّى أيّ ثغر من ثغور الإسلام، أو فكراً من أفكاره أو شريعة من شرائعه، أو شعباً من شعوبه، أو سرّاً من أسراره... ليُدافع عن الإسلام من مواقعه التي يُرابط فيها من حيث يملك إمكانات الدفاع.

وربَّما كانت هذه الكلمة انطلاقةً إيحائية بأنَّ على المؤمنين أن يبتعدوا عن أجواء الكسل والاسترخاء واللامبالاة والابتعاد عن تحمّل المسؤولية ومواجهة التحدّيات، لأنَّ معنى ذلك أن تكون الساحة الإسلامية في بعض مجالاتها خاليةً من وسائل الدفاع، مفتوحةً لكلّ مغامر وعدوّ، فلا بُدَّ لكلّ مؤمن من أن يدرس ساحته وطاقته وحاجة الإسلام إليه ليحدّد دوره الرسالي على أساس ذلك كلّه. وقد لا يعذر اللّه الكثيرين من المؤمنين الذين انعزلوا عن حركة الحياة، وعاشوا لأنفسهم ومسؤولياتهم الشخصية بعيداً عن مسؤولية الإسلام والمسلمين، لأنهم استراحوا للفكرة السهلة التي تخفف عنهم أثقال المسؤولية لتجعلها في حركة انتظار طويلة إلى آخر الزمان، لأنَّنا نفهم الانتظار حركةً متقدّمةً نحو الهدف الذي ننتظر أن نصل إليه من خلال تحرّكنا الطويل، وليس استرخاءً وغيبوبةً في أجواء الراحة والفراغ.

* * *

4 ـ التَّقوى:

[واتَّقوا اللّه] والتَّقوى ـ كما ألمحنا إليها في أكثر من مرّة ـ تمثِّل الانضباط أمام اللّه في ما أحلّه وما حرّمه، وذلك هو معنى أن تكون مسلماً في الخطّ العملي للإسلام الذي هو موقفٌ في حركة الواقع، وليس مجرّد كلمة وشعور.

* * *

لعلَّكم تفلحون:

وتأتي كلمة [لعلَّكم تفلحون] في نهاية الآية، لتوحي للإنسان بأنَّ السعي في تحقيق هذه المبادئ التي تضمّنها هذا النداء يمكن أن يحقّق لك الفلاح من خلال التدقيق في الموازنة بين جانبي النظرية والتطبيق. وربَّما كانت كلمة «لعلَّ» واردةً في الإيحاء بضرورة التركيز على طبيعة الخطوات العملية والتدقيق في مراحل الطريق، فقد يحصل للإنسان بعض المفاجآت التي لـم يحسب لها حساباً، فتنحرف به عمّا يهدف إليه، فلا بُدَّ من مضاعفة الجهد واستنفاد الطاقة ليضمن لنفسه الفلاح، حتّى لا يسترخي ولا يستريح أمام الطاقات التي يبذلها في المعركة، بل يعمل على تنمية طاقاتٍ جديدة في ما يملك أن ينمّيه ويطوّره من طاقاته وطاقات الآخرين.

ورد في بعض الرِّوايات تفسير الآية بطريقة أخرى، فقد جاء في الدر المنثور: «أخرج ابن جرير، وابن حبان، عن جابر بن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه (ص): ألا أدلّكم على ما يمحو اللّه به الخطايا، ويكفّر به الذُّنوب؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه. قال: إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخُطى إلى المساجد، وانتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة، فذلكم الرباط»[1].

وجاء عن الإمام الصادق(ع) في قوله تعالى: [اصبروا وصابروا ورابطوا واتَّقوا اللّه لعلَّكم تُفلحون] الآية: اصبروا على أداء الفرائض، وصابروا عدوّكم، ورابطوا إمامكم[2].

وفي رواية عن عليّ(ع) أنَّ معنى رابطوا، أي رابطوا الصَّلوات، ومعناها انتظروا واحدة بعد واحدة، لأنَّ المرابطة لم تكن حينئذٍ.

وروي عن أبي جعفر الباقر(ع) أنَّه قال: معناه اصبروا على المصائب، وصابروا على عدوّكم، ورابطوا عدوّكم[3].

والمرابطة في اصطلاح الفقهاء هي السفر إلى ثغور بلاد الإسلام، حيث يخشى هجوم الكفّار من خلاله، والمرابطون هم الذين يمثِّلون جنود الحدود للبلاد الإسلامية.

وقد جاء في الحديث عن سلمان عن رسول اللّه (ص): «رباط ليلة في سبيل اللّه خير من صيام شهر وقيامهم، فإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمل، وأجرى عليه رزقه، وأمن الفتّان» وعن فضالة بن عبيدة قال: «إنَّ رسول اللّه (ص) قال: كلّ ميت يختم على عمله إلاَّ المرابط في سبيل اللّه فإنَّه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتّان القبر» وجاء عن رسول اللّه (ص) أنَّه قال: «كلّ عين باكية يوم القيامة إلاَّ ثلاثة أعين: عينٌ بكت من خشية اللّه، وعينٌ غضّت عن محارم اللّه، وعينٌ باتت ساهرة في سبيل اللّه»[4].

ومن الطبيعي أنَّ الرباط يمثِّل وسيلةً من وسائل الجهاد، بل هو من أكثر الأعمال ارتباطاً بحركيته وسلامته، من حيث إنَّه يرصد حركة العدوّ ويحدّد مواقعه، وينذر الجيش بكلّ أوضاعه، ليقف المسلمون على أهبة الاستعداد للمواجهة المدروسة المنطلقة في الخطّة المرسومة للوصول إلى النصر أو إلى دفع العدوان. وهذا ما جعلها من أفضل المستحبات، بل قد تكون من الواجبات التي يتوقف عليها حماية البلاد الإسلامية بطريقةٍ أو بأخرى.

وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربِّ العالمين.

ــــــــــــــــــ

(1) الدر المنثور، ج:2، ص:417.

(2) البحار، م:9، ج:24، باب:57، ص:142، رواية:14.

(3) (م.ن)، ص:140، رواية:6.

(4) (م.ن)، م:37، ج:101، باب:91، ص:283، رواية:18.