تفسير القرآن
النور / من الآية 1 إلى الآية 2

 من الآية 1 الى الآية 2

الآيتـان

{سُورَةٌ أَنزَلْناهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فيها آياتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ* الزَّانِيَةُ والزاني فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طائفة مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} (1ـ2).

* * *

الله يفرض آياته البيّنات

{سُورَةٌ} هذا هو العنوان الذي يعطي السورة معنى الوحي الإلهي، فالله هو الذي أنزلها على رسوله، ولا بدّ للناس أن يستشعروا ذلك، ليعيشوا مع آياتها لطف الخالق بالمخلوق، ورحمة الله بعباده، في ما يحيطهم به من رعايته التي تضمن لهم السعادة والهناء.. {أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَااهَا}، فقد أنزلها الله من موقع الألوهية القاهرة التي تأمر وتنهى وتفرض على الناس الالتزام بأوامره ونواهيه، ليتعاطى الإنسان معها تعاطي الخضوع للقوّة الخالقة القادرة، وليشعر بأنّ عليه أن ينفّذ ما يريده الله منه على أساس مسؤوليته في الحياة، حيث ينتظر الثواب إذا أطاع، ويترقب العقاب إذا عصى.

{وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آياتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} مما يفتح للقلب الأفق الرحب على معرفة الله، ويثير في الروح الإشراق من روحه، ويحلّق بالعقل ليكتشف الحقيقة في وحيه، لتتخلصوا من ظلمات الجهل التي تسجن عقولكم، ولتتحرروا من عوامل الضلال التي تبعدكم عن مطالع النور، ولتبتعدوا عن أجواء الغفلة التي تبعدكم عن عوالم اليقظة..

{لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} كيف يجب للإنسان أن يتحرك، وللحياة أن تُعاش، وللعباد أن يلتقوا بالله من مواقع المحبة المتجسدة بالطاعة، ومواقع الخوف المتمثل بالابتعاد عن المعصية، ليكون العمر كله في طريق الله.

* * *

حكم الزنى في الإسلام

{الزَّانِيَةُ والزاني فَاجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِاْئَةَ جَلْدَةٍ} لأنهما انحرفا عن القاعدة الاجتماعية التي أراد الله أن يخضع لها نظام العلاقات الجنسية، بما يكفل ضبط نوازع الغريزة وتلبية حاجتها، ويؤمّن الإيحاء الداخلي الطاهر بأنها حاجة لتنمية الحياة في اتجاه هدفٍ متوازن، وليست قيمةً تتجمع في داخلها طموحات النفس.. ولهذا فإن عملية التنظيم والتخطيط في هذا المجال قد تحمل بعض سلبيات التحديد والتقييد، ولكنها تمنح الإنسان إيجابيات التوازن والاستقامة والتركيز، تماماً كما هي حاجات الحياة الأخرى في داخل الجسد وخارجه، التي لا يريد الله لها أن تموت، لأنها جزءٌ من حركة الحياة في وجوده، ولا يريد لها أن تطغى في أجواء الفوضى، لأنها تقود الإنسان إلى الموت، في ما يخيّل إليه أنها الحياة.

وقد جعل الله نظام الأسرة مرتكزاً على هذه القاعدة التي ترى في عقد الزواج شرطاً لشرعية العلاقة بين الرجل والمرأة، في ما يفرضه التعاضد الذاتي من حقوق وواجبات على أساس المودّة الروحية، والرحمة الإنسانية، والتشريع الإلهي الذي يرعى ذلك كله وينمّيه ويقوّيه، وضبط العلاقات النسبية لجهة الأبوّة والأمومة والبنوّة، وما يتفرع عنها، بسلسلة طويلة من المسؤوليات التي تنظّم حركة العلاقات الاجتماعية، بشكل دقيق ومتوازن..

فلم تعد مسألة الزنى مسألة فردية يستجيب فيها الإنسان لنوازعه الذاتية، أو نزوة غريزية يخضع الإنسان فيها لمشاعره الجنسية، لتكون مجرّد خطأ طارىء من أخطاء الإنسان التي تترقّب العفو، أو تهرب من المسؤولية، بل هي مسألة تمرّدٍ على تركيبة النظام الاجتماعي، ما يجعل الخلل الناتج عن هذا الانحراف أو ذاك، خللاً يمس السلامة الاجتماعية، وخطراً على استمرار التوازن في خط المسيرة الإنسانية. ولهذا أراد الله أن يعطي لهذه المسألة حجمها الحقيقي الذي يصل إلى حجم الجريمة التي تستوجب الردع الشديد الذي يمنع الإنسان من الإقدام على ممارسة هذا الانحراف، فجعل عقوبة كل من الزانية والزاني مائة جلدة، أي مائة سوط، إذا لم يكونا محصنين، أو لم يكن أحدهما محصناً بالزواج..

أمّا إذا كانا محصنين، أو كان أحدهما كذلك، فإن الحكم هو الرجم، الذي أوضحته السنّة النبوية الشريفة، عبر ما تحدث به النبي (ص) وما فعله، إذ إنه أقام هذا الحد ـ وهو الرجم ـ أكثر من مرة حصل فيها الزنى بعد الإحصان.. ثم امتد ذلك الحكم بعد ذلك، حيث كان القضاء الإسلامي يمارسه دون اعتراض من أحد، ما يدل على وضوح المسألة حتى أصبحت من المسلّمات الفقهية، بالرغم من عدم تعرّض القرآن الكريم لذلك.. وإطلاقه الحكم بالجلد في الزاني والزانية دون تقييد.

وقد ثبت في علم الأصول، أن القرآن يمكن أن يرفع اليد عن بعض ظواهره، بالسنة القطعية أو بما كان حجّةً شرعية من الظنيات..

وقد نُقل عن بعض المسلمين من الخوارج وبعض المعتزلة مخالفتهم لهذا الحكم، انطلاقاً من مخالفة هذا الحكم ـ وهو الرجم ـ لإطلاق القرآن، ما يفرض على المسلمين الملتزمين بالقرآن رفضه، لأن ما خالف كتاب الله فهو باطل وزخرف.

ولكنّ هؤلاء لم ينتبهوا إلى أن تخصيص العام القرآني، أو تقييد مطلقه، لا يندرج في دائرة المخالفة، بل يندرج في نطاق الشرح والتفسير الذي أوكل الله أمره إلى رسوله، في ما تتضمنه سنّته الشريفة من تفصيل لما أجمله القرآن، أو تحديد لما لم يحدد كل أطرافه.. وهذا ما لاحظناه في كل تفاصيل العبادات والمعاملات والعلاقات والحدود التي أطلقت الآيات القرآنية معناها، لتقرر المسألة من ناحية المبدأ، ليسأل المسلمون بعدها رسول الله حول التفاصيل. ولعل هؤلاء يعرفون أنَّ عملية الجلد أو الرجم، في دائرتهما الشرعية، تحتاج إلى إثباتات وشروطٍ معينةٍ، لا يتكفل القرآن بتحديدها، بل يرجع فيها إلى السنّة الشريفة.

ولسنا هنا في صدد تحقيق الموضوع بطريقة فقهيةٍ شاملة، لأن مجال ذلك في علم الفقه، بل نحن هنا في صدد الإشارة إلى المسألة بالمقدار الذي يتصل بالتفسير من حيث المدلول اللفظي للآية، ومن حيث التفسير التفصيلي للحدود التي يقف عندها الحكم الشرعي.

* * *

قسوة العقوبة: علامات استفهام وإجابات

وقد يثير البعض علامات استفهام كثيرة حول قسوة هذه العقوبة، ومدى واقعيتها على ضوء تطور أساليب العقوبات في الواقع، وعلى أساس التطور الحضاري لجهة احترام إنسانية الإنسان الذي يقضي بالتخفيف من قساوة ووحشية الوسائل التي تستخدم في عقابه، فهي وسائل تستمد عنفها من أجواء العصور القديمة، حيث كانت تواجه الجريمة بالعقوبة المباشرة، بعيداً عن مراعاة القواعد النفسية التي تحددها دراسات التحليل النفسي.

وربما يتحدث البعض عن طبيعة الجريمة، التي لا يراها بهذا الحجم من الأهمية، لأنها تتصل بحرية الإنسان في التصرف بجسده، كأيّة خصوصيةٍ من خصوصياته التي لا تهمّ المجتمع، كما لا يهمّه ماذا يأكل كل فرد منه، وماذا يشرب، وما هي الطريقة التي يفعل بها ذلك.. إلا في الحالات التي تمثل فيه عدواناً على حق الآخرين، كما إذا كان الزنى داخل الحياة الزوجية، في ما يقتضيه من عدوان على الزوج، أو على بيت الزوجية، ما يؤدي إلى دراسة المسألة في نطاق محدود لا يرقى إلى هذا المستوى من العقوبة، أو ما يقترب منها..

قد يثير البعض مثل هذه التساؤلات حول هذا الحد الشرعي للزنى، أو ما يماثله من الحدود الشرعية الأخرى لجرائم أخرى..

ولكن للإسلام نظرة أخرى للمسألة، في ما يتصل بقسوة العقوبة ووحشيتها، وفي ما يرتبط بطبيعة الجريمة ونتائجها وحجمها.

أما المسألة الأولى، فقد تناولناها في الحديث في ما تقدم من تفسير.. وإجماله أن الإسلام يرى دور العقوبة دوراً عميقاً ينفذ إلى أغوار النفس الإنسانية، ليواجه انحرافها بما يشبه الصدمة القاسية الرادعة التي لا تعالج المسألة من الخارج في ما تثيره من ضغوط نفسيةٍ أو جسدية خفيفة، بل تعالجها من الداخل بما تخلّفه من آثارٍ عميقةٍ في الجسد والنفس والواقع، لتحتوي الجريمة في طبيعتها الذاتية والموضوعية على أساس مواجهة ما مضى بأن لا يمر دون عقاب.. ومواجهة ما يحدث في المستقبل، بالأسلوب الوقائي الذي يمنعه من الحدوث..

ولم تأت المسألة نتيجة ذهنية قديمة أو حديثةٍ في النظرة إلى وسائل الجريمة، بل نتيجة الدراسة الواقعية لأفضل وسائل ردع الجريمة من خلال استخدام ما هو أقوى وأكثر فاعليّةً في إثارة الخوف في نفس المجرم أولاً، حتى لا يكرر جريمته، وحتى يشعر بخطورة ما قام به على حياته وسمعته، وفي نفس من يستعد للقيام بالجريمة ثانياً، ليحسب حساب النتائج السلبية الصعبة قبل أن يقوم بالجريمة، بحيث يكون العقاب رادعاً له عن القيام بذلك.

وقد استطاعت التجربة الواقعية إثبات صحة هذه النظرة لجهة تقليل نسبة الجريمة في المجتمع الإسلامي، عن بقية المجتمعات الأخرى، وذلك عندما يتاح للحدود الشرعية أن تأخذ طريقها إلى التطبيق الجدّي، في نطاق ما يمكن إثباته بشكل معقول.

ولعلنا لا نحتاج إلى المزيد من التحليل الموضوعي، إذا أردنا التأكيد على أنّ النتائج السلبيّة لاستخدام وسائل العقاب القاسية، قد لا تكون كبيرة إذا ما قيست بالنتائج الإيجابية على مستوى منع الجريمة، تماماً كما هي العملية الجراحية التي يضطر الأطباء لإجرائها لضمان سلامة حياة المريض..

وإذا درسنا القيود التي وضعها التشريع الإسلامي على وسائل الإثبات، حتى أنه لم يرخص للشهود أن يقوموا بالشهادة، أو أن يقبلها القضاة، إلا إذا جاءت صريحةً بكل التفاصيل التي تحدّد الزنى بكل دقّةٍ، ولا تدع مجالاً للاحتمال الضعيف المضادّ..

وإذا لاحظنا كيف أن الشارع لم يرد للزاني أو للزانية إذا تابا أن يعترفا، ولم يستحب للآخرين أن يقودوهما إلى الاعتراف، لأن الله إذا ستر على عبده فإنه لا يريد له أن يفضح نفسه..

إذا عرفنا ذلك، فإننا نفهم كيف يكون الحدّ الشرعي عاملاً رادعاً، من خلال ما يثيره في الذهن من صورة تهذّب روحية الإنسان وتدفعه للتراجع عن خطئه إن أخطأ، وتحمي من يقوده ضعفه إلى محاولة الخطأ، من الوقوع فيه.

* * *

موقع المسألة من حرية الإنسان

أمّا المسألة الثانية، وهي حرية الإنسان في جسده، فإنها مسألة تتصل بالمعنى الديني لحرية الإنسان بشكل عام، فإن الله لم يعطِ للإنسان الحرية في أن يسيء إلى نفسه، لأنه يملك منه ما لا يملك من نفسه، فهو خالقه ومدبره، تماماً كما هو الطفل بالنسبة إلى وليه، ولهذا حرّم عليه المطاعم والمشارب والملابس والشهوات التي تضرّه من قريب أو من بعيد.

كما أن القول بأن الزنى أمر خاص لا يُمثل تجاوزاً للمجتمع أو خطراً عليه، ليس قولاً دقيقاً، فهو يتصل بالنظام الاجتماعي الذي يحدد الخط الأخلاقي لعلاقات الفرد والمجتمع، حيث تشكل العِفّة والطهارة حدوداً وقيمة أخلاقية عليا لا بد من مراعاتها ضمن تلك العلاقات، كما أن له علاقة في تحديد الأنساب والوقوف عند حدود السلوك العام في تكوين النظام في الدوائر الاجتماعية الصغيرة والكبيرة.. وليست مجرد حق للزوج، لتكون العقوبة خاضعةً للخصوصية الزوجية، في التعدي على الزوج، أو على بيت الزوجية، لأن المسألة إذا أثيرت في هذا النطاق، فإنه قد يعطي البعض من خلال تجريد فكرة الحرية الفردية، أن للزوجة الحق نفسه على هذا المستوى بما لا يتنافى مع حق الزوج، تماماً كما هو الحال بالنسبة للزوج، في القانون الوضعي.

* * *

القاعدة الأخلاقية في التشريع الإلهي

وبكلمةٍ واحدةٍ، إن النظرة الإسلامية لطبيعة الأخلاق ودورها وحدودها لا تنطلق من تفكير موضوعي مجرّد، بل من الخط الإلهي الذي ترسمه الرسالات في شرائعها، بحيث يكون التشريع الإلهي في ما يأمر به الله أو ينهى عنه، لجهة ما يريد أن يؤكده في ذات الإنسان من عناصر الشخصية، ولجهة ما يريد أن يخطط له من علاقات في حركته الاجتماعية، هو القاعدة التي يتحرك من خلالها الإنسان.

وليس معنى ذلك، أن الخط الأخلاقي الرسالي يتحرك في المطلق، في دائرة التعبد الذي لا يخضع في طبيعته للحقائق الموضوعية في حركة الإنسان في الحياة، بل معناه أن المسلم لا يستطيع الاستقلال في نظرته إلى المسألة، ليتطلع إليها من خلال النظرة الذاتية، أو الموضوعية المستقلة من خلال المعطيات المتوفرة لديه، في ما يملكه من أدوات المعرفة للعمق الواقعي للأشياء، بل عليه أن يختزن ـ في داخله ـ النظرة الدينية التي يُسلم فيها لله موقفه وأمره وتقييمه للأمور، ويفكر في القاعدة الأخلاقية من خلال حدود التشريع الثابت بشكل قطعيّ، أو بحجّةٍ معتبرة.. وبذلك يكون الشرع هو الذي يبني للمسلم مفاهيمه عن القضايا العامة، بدلاً من أن تكون مفاهيمه الذاتية هي التي تحكم على الشرع في خطوطه وحدوده، بطريقةٍ سلبيةٍ أو إيجابيةٍ، تبعاً للانسجام معها أو عدمه.

وإذا كان الإسلام يفرض على الزاني أو الزانية هذه العقوبة، فإنه لا يريد للمسلمين الآخرين أن ينظروا إلى العقوبة نظرة عاطفيةً انفعاليّة، تصوغها النوازع الذاتية التي تتفاعل مع آلامهما وما تثيره في المشاعر والوجدان، لأن النتيجة الطبيعية لذلك أن تتحول المسألة إلى حالة احتجاجٍ على الحكم الشرعي من ناحيةٍ عمليةٍ، لتنتهي إلى حالة تفاعل مع الجريمة بالتخفيف من شأنها في حساب السلوك، والإيحاء الداخلي بأنها لا ترقى إلى مستوى هذه العقوبة القاسية، ما ينعكس سلباً على شعور الإنسان بالالتزام الديني داخلياً، الأمر الذي يقوده إلى الانحراف تدريجياً.. وهذا ما أراد الله تأكيده بقوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ اللَّهِ} كي تكون عاطفة المسلم الإنسانية تابعةً للخط الشرعي، في ما يريد الله أن يؤكده من طبيعة الرحمة، تماماً كما هو خضوع الخط الفكري للشريعة، فإذا كان الله قد أمر بجلدهما، فلا بد من أن يكون للإنسان مصلحة عميقة في ذلك، في الدائرة الفردية والاجتماعية، ما يجعل من العقوبة عمليةً جراحيةً على مستوى النظام الأخلاقي للإنسان.. وهذا ما يخطط له منهج الإسلام التربوي بهدف صياغة الإنسان على صورة الإسلام في الفكر والعاطفة والموقف.

وقد ورد في بعض الروايات المأثورة عن النبي (ص) في ما نقله الرازي في تفسيره: «يؤتى بوالٍ نقص من الحد سوطاً، فيقال له: لم فعلت ذاك؟ فيقول: رحمةً لعبادك، فيقال له: أنت أرحم بهم مني؟ فيؤمر به إلى النار، ويؤتى بمن زاد سوطاً، فيقال له: لِمَ فعلت ذلك؟ فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيقول: أنت أحكم بهم مني؟، فيؤمر به إلى النار»[1].

وهذا هو الخط الذي يعيش فيه الإنسان المسلم العقيدة الثابتة بأن الله هو أرحم بعباده من كل أحد، وأنه أحكم في تشريعه لهم من كل مخلوق، لأنه الرحيم العليم الخبير بما يصلح عباده، في ما يعاقبهم به، أو في ما يثيبهم به.. وبذلك تكون العاطفة منطلقة من القاعدة الفكرية التي تغذي الشعور كما تغذي العقل، وتؤكد الموقف.

وقد فهم البعض من الأخذ بالرأفة، أن لا يترك الجاني بعد ثبوت الجريمة عليه، ولا أن يخفف من حده، بل يضرب تمام الحد، وقال البعض الآخر: إن المراد به أن لا يكون الضرب خفيفاً لا يحس الجاني أذاه. والظاهر أن المراد به أن لا يقف الناس موقف الرأفة بالمجرم بأي شكل من أشكالها، سواءٌ بالرثاء له والإشفاق عليه، أو بالتخفيف من كمية الحد، أو بالتخفيف من أذاه، لأن الغاية المفروضة هي أن يأخذ كلّ عقوبته بشروطها الشرعية، دون أيّ إحساس بالموقف السلبي تجاه ذلك.

{إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر} لأن ذلك هو مظهر الإيمان بالله في مواقع المسؤولية في اليوم الآخر، الذي يجعل الناس يلتزمون رضاه في ما يريد أن يرضوا به، ويتعرّفوا مواقع سخطه في ما يريد لهم أن يسخطوا عليه.

{وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طائفة مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} وذلك بإعلانه بين الناس، وإقامته بمحضر منهم، ليتعرف الناس عليهما، ويفقدا موقعهما الاجتماعي، ليكون ذلك عبرة للآخرين، ليرتدعوا عن التفكير بمثل جريمتهم، ويكون ذلك درساً لهم في المستقبل، ما يجعل للعقوبة دوراً تربوياً على المستوى الاجتماعي العام، ودوراً تأديبياً يطال الجاني نفسه.

وإذا كان الخطاب موجهاً إلى المؤمنين كافة، فليس معنى ذلك أن لكل واحدٍ القيام به، بل معناه أنه مسؤوليتهم بشكل عام، ولكن تنفيذه يكون من صلاحيات وليّ أمور المسلمين الذي تستقيم له المعرفة، ويستقيم له التنفيذ.

وهناك عدة تفاصيل فقهية في شروط الحدّ، ومواقع الإلزام والرخصة فيه، مما لا مجال للبحث فيه الآن، فلا بد من الرجوع إلى كتب الفقه في شأنه.

ـــــــــــــــــ

(1) تفسير الرازي، م:12، ج:23، ص:148ـ149.