تفسير القرآن
النور / من الآية 4 إلى الآية 5

 من الآية 4 الى الآية 5

الآيتـان

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شهداء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (4ـ5).

* * *

معاني المفردات

{يَرْمُونَ}: يقذفون العفائف من النساء بالفجور والزنى. وقال في الميزان: «الرمي: معروف، ثم استعير لنسبة أمر غير مرضي إلى الإنسان، كالزنى والسرقة، وهو القذف، والسياق يشهد أن المراد به نسبة الزنى إلى المرأة المحصنة العفيفة»[1].

* * *

عقوبة رمي المحصنات

وإذا كان القرآن يهتم بجريمة الزنى فيفرض عليها الحد القاسي الرادع، لإنقاذ المجتمع من مخاطرها على توازن النظام العائلي، فإنه ـ في الوقت نفسه ـ لا يسمح للناس أن يأخذوا حريتهم في إطلاق التهم جزافاً ضد من يشكّون في قيامه بذلك، فيتحدثون بكل حرية عنه، ليشوّهوا سمعته، أو لإيجاد نوع من الإثارة الشعبية ضدّه، وتأكيد الانطباع بارتكابه الجريمة التي قد لا يكون ارتكبها، وإقامة الحد عليه، كما يحدث في كثير من الأحوال، حيث تنطلق الإشاعات اللاّمسؤولة القائمة على الظنّ والتخمين، لتصدر حكماً على بريءٍ، أو لتؤكد جريمةً ضد متّهم..

ولهذا فرض لإثبات هذه الجريمة أربعة شهود عدولٍ، لا يطلقون الكلام جزافاً، بل تحكمهم التقوى في هذا المجال، بحيث لا تأتي شهادتهم إلا على أساس الرؤية الحسية التفصيلية التي لا تترك أيّة شبهة في أكثر التفاصيل دقّةً، حذراً من خطأ العين في ما ترى، أو خطأ الأذن في ما تسمع، فتدعو الإنسان الشاهد إلى أن يتهم سمعه وبصره، حتى لا يستعجل في تكوين القناعة عن الواقعة بطريقةٍ سريعة..

ثم جعل على الذين يطلقون التهمة بشكل قطعي دون ثبوت الجريمة بأربعة شهداء، الحدّ الشرعي للقذف ـ وهو الرمي بالزنى ـ ومقداره ثمانون جلدة.

{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات} العفيفات، سواء أكنّ من المتزوجات أم غير المتزوجات.. وقد خصّ الآية بالنساء، مع شمول الحكم للرجال، لأن المجتمع الغالب هو مجتمع الرجل الذي يوجّه مسؤولية الزنى إلى المرأة أكثر من الرجل، باعتبارها العنصر الأضعف الذي لا يملك الكثير من فرص الدفاع عن نفسه، ما يجعلها عرضةً لخطر الاتهام اللامسؤول، ولهذا أراد القرآن التأكيد على حمايتها بعيداً عن كل الامتيازات، وتوجيه الوعي الإسلامي للإنسان إلى رفض اعتبار الضعف أساساً للتصرف المجحف بحق الضعيف، وذلك لأن الإسلام يرى الحق في معطياته الواقعية هو الأساس الذي يحكم القوي والضعيف معاً بميزانٍ واحدٍ، لذا اعتبر البيّنة العادلة قاعدةً للحكم، وجعل الحديث عن الزنى في حق كل واحد، خاضعاً لقيام البيّنة على وقوعه. أما إذا انطلق الناس في الحديث اللامسؤول، فرموا المحصنات أو المحصنين {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ} يؤكدون مشاهدتهم للعملية الجنسية بتفاصيلها الدقيقة، {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}، لأنهم أجرموا في حقّ هؤلاء الناس، وأساءوا إلى سمعتهم، دون أن يقدّموا دليلاً شرعياً لدعواهم، فالتشريع يسعى لحماية الناس من هذا العبث الكلامي، الذي ينتهك حق الإنسان في الحفاظ على سمعته.

{وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} لأن من يحترم القضاء العادل شهادته هو الإنسان الذي يقف عند حدود الله في ما يأمر به أو ينهى عنه، بحيث يكون أميناً على إقامة الشهادة.

{وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} المنحرفون عن خط الطاعة، السائرون في خط المعصية، بعيداً عن المسؤولية الشرعية في قضايا الناس العامة والخاصة.

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ} وأعلنوا الندم على ما بدر منهم {وَأَصْلَحُوا} أمرهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، لأن التوبة تعني التغيير الداخلي للنوايا والأفكار والدوافع التي تقود الإنسان إلى التمرد على الله، لتحوّله إلى الانفتاح عليه، والقرب منه، وممّا يريده لعباده الصالحين.

وقد تحدث المفسرون عن رجوع الاستثناء إلى الجملة الأخيرة {وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}، لتكون التوبة غايةً للحكم بالفسق، فلا يحكم بفسقهم بعد التوبة، أو رجوعه إلى جميع الأحكام الموجودة في الآية، وهي الجلد وعدم قبول الشهادة، بالإضافة إلى الفسق، وذلك على ضوء البحث الذي حرره الأصوليون، من أنه إذا عقب الاستثناء جملاً متعددة، فهل يرجع إلى الجميع أو يرجع إلى الأخيرة؟ ولعل الأوفق بقواعد الكلام أن لا يتعين شيء منهما بعد صلاحية الاستثناء لكل منهما، ولكن رجوعه إلى الأخيرة متيقن لثبوته في كلا الحالين..

ويقول صاحب تفسير الميزان إن الظاهر رجوعه إلى الجملة الأخيرة بحسب ما يعطيه السياق في الآية، «لكنها لما كانت تفيد معنى التعليل بالنسبة إلى قوله {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} ـ على ما يعطيه السياق ـ كان لازم ما تفيده من ارتفاع الحكم بالفسق ارتفاع الحكم بعدم قبول الشهادة أبداً، ولازم ذلك رجوع الاستثناء بحسب المعنى إلى الجملتين معاً»[2].

وقد نلاحظ على ذلك، أنه لا ظهور له في ما ذكره، بل ربما نستوحي من قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، كنتيجةٍ للتوبة والإصلاح، هو ارتفاع العقوبة عنهم بالجلد، وقبول شهادتهم، وزوال الحكم بفسقهم، لأن ذلك هو ما يناسب الغفران والرحمة نظراً لرجوع الإنسان عن موقفه المنحرف في الإساءة إلى المقذوف.. والله العالم.

ــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:15، ص:82.

(2) تفسير لاميزان، ج:15، ص:83.