من الآية 6 الى الآية 10
الآيــات
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواَجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شهداء إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فشهادة أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ* وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين* وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ* وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عليها إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ* وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} (6ـ10).
* * *
معاني المفردات
{وَيَدْرَؤ}: يدفع.
مناسبة النـزول
نقل الميزان عن تفسير القمي في سبب نزول هذه الآيات أنها نزلت في اللعان، «فكان سبب ذلك أنه لما رجع رسول الله (ص) من غزوة تبوك، جاء إليه عويمر بن ساعدة العجلاني وكان من الأنصار وقال: يا رسول الله إن امرأتي زنى بها شريك بن السحماء، وهي منه حامل، فأعرض عنه رسول الله (ص)، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه حتى فعل ذلك أربع مرات.
فدخل رسول الله (ص) منزله، فنزلت عليه آية اللعان، فخرج رسول الله (ص) وصلى بالناس العصر، وقال لعويمر: ائتني بأهلك، فقد أنزل الله عز وجل فيكما قرآناً، فجاء إليها وقال لها: رسول الله يدعوك، وكانت في شرفٍ من قومها، فجاء معها جماعة، فلما دخلت المسجد قال رسول الله (ص) لعويمر: تقدم إلى المنبر والتعنا، فقال: كيف أصنع؟ فقال: تقدّم وقل: أشهد بالله إني لمن الصادقين في ما رميتها به، فتقدم وقالها.. فقال رسول الله(ص): أعدها، فأعادها حتى فعل ذلك أربع مرات، فقال له في الخامسة: عليك لعنة الله إن كنت من الكاذبين في ما رميتها به، فقال في الخامسة إن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين في ما رماها به، ثم قال رسول الله(ص): إن اللعنة موجبة إن كنت كاذباً.
ثم قال له: تنحَّ، فَتَنَحَّى ثم قال لزوجته: تشهدين كما شهد، وإلا أقمت عليك حدّ الله، فنظرت في وجوه قومها فقالت: لا أسوِّد هذه الوجوه في هذه العشيّة، فتقدمت إلى المنبر وقالت: أشهد بالله أن عويمر بن ساعدة من الكاذبين في ما رماني به، فقال لها رسول الله(ص): أعيديها فأعادتها، حتى أعادتها أربع مرات، فقال لها رسول الله(ص): العني نفسك في الخامسة إن كان من الصادقين في ما رماك به، فقالت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين في ما رماها به، فقال رسول الله(ص): ويلك إنها موجبة إن كنت كاذبة. ثم قال رسول الله (ص) لزوجها: اذهب فلا تحلّ لك أبداً، قال: يا رسول الله، فمالي الذي أعطيتها، قال: إن كنت كاذباً فهو أبعد لك منه، وإن كنت صادقاً فهو لها بما استحللت من فرجها..»[1] الحديث.
* * *
الملاعنة بين الزوجين
ولعل هذا التشريع جاء من أجل وضع المسألة في نصابها الصحيح، في مواجهة صعوبة الحالة التي يعيشها البيت الزوجي عند اتهام الزوج لزوجته بالزنى دون أن يملك أيّة وسيلةٍ من وسائل الإثبات الشرعية، في ما يكون رآه بعينه دون وجود أحدٍ معه، أو سمعه ممن يطمئن له، دون أن يكون ذلك كافياً لإقامة الحجة ضد الزوجة، فكيف يمكن حل المشكلة، التي قد لا يكون هناك سبيل إلى إثباتها أو نفيها عبر وسائل الإثبات التي تحسم الموضوع وتؤكده أمام الجميع؟ لذلك كان الحلّ الضغط النفسي الخاضع للجانب الإيماني في شخصية كلٍّ من الزوجين، على أساس ما يمكن أن تثيره فكرة الشهادة من انفعالات في نفس الاثنين، حيث يمكن أن يشكل ذلك تأكيداً لصدقه، أو تأكيداً لكلامها في كذبه، مع الإعلان عن توجيه اللعنة لنفسه إن كان من الكاذبين، أو توجيهها لنفسها إن كان من الصادقين.. وحيث يمكن أن يستسلم الكاذب منهما للمؤثرات الروحية ويتراجع عن موقفه في بعض مواقع تكرر اللعنة، ثم في الموقف الحاسم الأخير، مما يكون الحلّ النهائي الممكن للمسألة، فإذا لم تحل المشكلة عن هذا الطريق، فإن النتيجة تكون إغلاق ملف الحديث عنها، بعد أن أكّد كلٌّ منهما موقفه، دون الوصول إلى إدانة المتهم، ما يعني أن كلاًّ منهما برّأ نفسه مما رماه به الآخر، بحيث لم يبق مجالٌ لاتهام أي منهما شريكه بشيءٍ بعد ذلك، الأمر الذي يقتضي إنهاء المشكلة في جانبها الكلامي الاتهامي الذي يحكم ساحة الصراع ثم الفراق، ثم حرمة العلاقة بينهما أبدياً، لأن حدوث هذا النوع من اللعنة المتبادلة بين الزوجين يجعل الحياة الزوجية غير صالحة للامتداد والاستمرار... بالتالي فإن كلاًّ منهما يجب أن يذهب إلى حال سبيله حيث يمكن أن يعيش تجربة جديدة، في علاقةٍ جديدة بإنسانٍ آخر.
* * *
الملاعنة بديل عن الشهود الأربعة
{وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} باتهامهنّ وقذفهنّ بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ} لأنهم واجهوا الجريمة بشكل مباشر دون حضور أشخاص آخرين يشاركونهم الرؤية، فهناك طريقة بديلة عن شهادة الأربعة من الشهود الذين يتوقف على شهادتهم الحكم بالزنى، تستبدل فيها شهادة الأربعة بواحد {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله} يكرر فيها التهمة بشكلٍ حاسمٍ مؤكدٍ يشتمل على ما يشبه اليمين {إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} في ما يقوله عنها، وبذلك تكون المسألة مشابهةً لقيام اليمين مقام البيّنة..
ولم يكتفِ التشريع بذلك، فقد يسهل على البعض أن يحلف بالله كذباً، بل أراد لمن يتهم زوجته بالزنى أن يشهد شهادةً خامسة تختلف ـ في الإيحاء القويّ الرادع ـ عن تلك الشهادات، وذلك بأن يوجّه لنفسه لعنة الله إذا كان كاذباً {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَة اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَااذِبِينَ} مما قد يصعب على الإنسان تحمّله لما يُثيره في داخله من إحساس بالضعف نتيجة وضع نفسه في موضع الملعون من قبل الله، وذلك كأسلوب من أساليب الاحتياط للعدالة في ما يراد لها إثباته من قضايا تتعلق بحياة الآخرين.
فإذا أكمل ذلك، ثبت عليها الجرم، واستحقّت إقامة الحد عليها نتيجة ذلك، ولكن الله لا يريد للزوجة أن تقف موقف الخاضع لموقف زوجها الاتهامي لاحتمال كذبه وافترائه عليها، لذا جعل لها الحق في أن تدفع التهمة عن نفسها بالطريقة نفسها.
{وَيَدْرَْ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي يدفع عنها حدّ الزنى {أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} في دعواه، لتتضمن كل شهادة يميناً يدفع ما أكده من صدق في ادعائه، بتأكيد كذبه، {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِين} في قوله.. وفي ذلك إيحاء داخلي باستنزال غضب الله عليها، في ما توحي به كلمة اللعنة من معنى الإبعاد عن الرحمة، إن كان صادقاً في دعواه، وبذلك يتوازن الموقفان ويتساقطان، في ما أراد أحدهما أن يثيره من هواجسه ووساوسه، وأراد الثاني أن يؤكده من طهارته وصدقه، ما يؤدي إلى تنفيس الاحتقان، وتجميد المشكلة في جانب الاتهام والدفاع..
{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ}، ففي ما شرّعه لكم من وسائل تستطيعون بها تأكيد مواقفكم أو الدفاع عن أنفسكم مظهر فضل ورحمة، {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} يقبل عباده التائبين، ويدبر أمورهم على أساس من حكمته..
أما جواب الشرط الذي تختزنه كلمة لولا، فقد يكون تقديره: لولا فضل الله عليكم ورحمته وتوبته عليكم وحكمته في تدبير أموركم، وتشريع الأحكام التي تنظم حياتكم وتحل مشاكلكم، لتحوّلت حياتكم إلى ساحةٍ للمشاكل الخاصة والعامة، ولانتهيتم إلى السقوط في الخطيئة المميتة، ولاختل نظام حياتكم بالاهتزاز الدائم الذي يثيره وجود القضايا المعقّدة التي لا تنتهي إلى حلّ عادل..
ولم تتحدث الآيات عن نتائج المسألة لجهة استمرار العلاقة الزوجية بينهما بعد اللعان أو انقطاعها، لأنها كانت في سياق الحديث عن الحلّ الشرعي العملي للمشكلة الصعبة التي يفقد فيها المدّعي الحجّة على دعواه، وتفقد فيه المتهمة المعطيات التي تظهر براءتها، ما يوحي بالمزيد من التعقيد الذي يثير الكثير من المشاكل.
ولكن السنّة تحدثت عن الحرمة المؤبدة التي تقطع العلاقة الزوجية بينهما، ولا تسمح بعودتها بعد ذلك، حتى بعقدٍ جديد، كما هو معروف بين فقهاء المسلمين، ولكن هناك رأياً آخر يتحفظ في حكم الحرمة المؤبدة حال اعتراف الزوج بكذبه وإقامة الحدّ عليه، فقد ذهب أصحاب هذا الرأي إلى أن لهما أن يجتمعا بالنكاح إن شاءا، إذ الذي أوجب الحرمة بينهما هو اللعان، وما دام قائماً بينهما تقوم الحرمة، وإذا زال باعتراف الزوج بكذبه ولقائه حدّه، تزول بينهما الحرمة..
ولسنا في صدد تحديد النتائج النهائية فقهياً، لنناقش المسألة من هذه الزاوية، فذلك موكول إلى البحث الفقهي في الكتب المتخصصة.
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج :15، ص:87.
تفسير القرآن