تفسير القرآن
النور / من الآية 11 إلى الآية 18

 من الآية 11 الى الآية 18

الآيــات

{إِنَّ الَّذِينَ جاءوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ والذي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ* لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ* لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شهداء فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بالشهداء فَأُوْلَـئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكاذبون* وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ في الدُّنْيَا والآخرة لَمَسَّكُمْ في مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ* إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ* وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لنا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ* يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ* وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (11ـ18).

* * *

معاني المفردات

{بِالإِفْكِ}: الكذب العظيم الذي قلب فيه الأمر عن وجهه ـ كما يقول في المجمع ـ[1]. وقال الراغب: ورجل مأفوك: مصروف عن الحق إلى الباطل[2].

{عُصْبَةٌ}: جماعة.

{كِبْرَهُ}: معظمه.

{أَفَضْتُمْ فِيهِ}: خضتم فيه.

{تَلَقَّوْنَهُ}: تتلقونه.

{بُهْتَانٌ}: افتراء، سمي بالبهتان لأنه يبهت الإنسان المفترى عليه. والبهتان: الكذب والزور العظيم عقابه.

* * *

قصة الإفك.. خلفيات وتأثيرات

وهذا حديث عن خط قرآني عريضٍ يتناول مواجهة المؤمنين والمؤمنات للشائعات التي يسمعونها، لجهة ما يوجهه الناس إلى المؤمنين والمؤمنات من اتهامات بالزنى وأمثاله من الأفعال الشنيعة التي تمثل انتهاكاً لحرمة الإنسان المؤمن في عرضه..

فليس للمؤمنين أن يأخذوا بتلك الاتهامات، أو أن يثيروها في أحاديثهم وكأنها حقائق ثابتة، أو ما يقرب من ذلك، بل لا بد لهم من التوقف عندها والتفكير العميق فيها لتحديد طبيعتها من خلال التدقيق في شخصية قائليها وما يمثلونه على مستوى الإيمان، وفي شخصية الشخص الذي تتناوله بالاتهام، وشخصيته الإيمانية، والظروف الموضوعية الداخلية والخارجية المحيطة بالقضية كلها، ليكون الاتهام في خط الحقيقة، ويكون الحكم في دائرة العدل، في ما فرضه للحقيقة من وسائل الإثبات، وفي ما أراده الله للعدل من الحجج والبيّنات.

ولم يتناول القرآن الكريم ـ في هذه الآيات ـ المسألة من باب الحديث عن مبدأ عام يثيره التفكير في القضايا بشكل مطلق كما هي حال الفكر عندما يثير القضايا في دائرته الفكرية العامة، بل تحدث عنها من موقع حدث كبير عاشه المسلمون في قضيةٍ استهدفت بيت النبي (ص) في شخص إحدى زوجاته التي نسبت إليها شائعات الانحراف عن خط الطهر والعفّة والوقوع في الزنى مع بعض الناس، ما أعطى المسألة بعداً خطيراً لما فيها من إساءة إلى الجوّ الأخلاقي الداخلي في بيت النبيّ، الأمر الذي قد يترك تأثيراً كبيراً على مصداقيته الرسالية، وموقعه المميز في حياة الأمة، ويؤدي إلى هزّ الركائز التي يقوم عليها البيت النبويّ.

* * *

روايات في سبب النزول

وقد تحدثت روايات السيرة النبوية، أن هذه الزوجة المستهدفة بالإشاعة هي عائشة، التي وردت الروايات عنها في تفاصيل القصة التي حدثت لها.. قالت:

كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذا أراد أن يخرج إلى سفر أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلّم معه. قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها، فخرج سهمي، فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بعدما نزل الحجاب، وأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلّم من غزوته تلك وقفل فدنونا من المدينة قافلين، آذن ليلةً بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فإذا عقد لي من جزع ظفار[3] قد انقطع، فالتمست عقدي وحبسني ابتغاؤه، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون بي فاحتملوا هودجي، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلهن اللحم، إنما تأكل المرأة العلقة[4] من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه، وكنت جاريةً حديثة السن، فبعثوا الجمل، فساروا فوجدت عقدي بعدما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها داعٍ ولا مجيب، فيمّمت منزلي الذي كنت به، فظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ، فبينا أنا جالسة إذ غلبتني عيني فنمت.

وكان صفوان بن المعطل السلميّ ثم الذكوانيّ من وراء الجيش[5]، فأدلج، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم، فأتاني فعرفني حين رآني وكان يراني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمّرت وجهي بجلبابي، والله ما كلمني كلمةً واحدة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، حتى أناخ راحلته، فوطىء على يديها، فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعد أن نزلوا موغرين في نحر الظهيرة، فهلك فيَّ من هلك.

وكان الذي تولّى الإفك عبد الله أن أبيّ بن سلول، فقدمنا المدينة فاشتكيت حين قدمت شهراً، والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك لا أشعر بشيءٍ من ذلك، وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلى الله عليه وسلّم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي، إنما يدخل عليّ فيسلم ثم يقول: كيف تيكم؟ ثم ينصرف، فذاك الذي يريبني ولا أشعر بالشرّ، حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قبل المناصع وهي متبرّزنا، وكنا لا نخرج إلا ليلاً إلى ليل، وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا، وأمرنا أمر العرب الأول في التبرز قبل الغائط، فكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا.

فانطلقت أنا وأم مسطح، فأقبلت أنا وأم مسطح قبل بيتي قد أشرعنا[6] من ثيابنا، فعثرت أم مسطح في مرطها[7]، فقالت: تعس مسطح، فقلت لها: بئس ما قلت، أتسبين رجلاً شهد بدراً؟ قالت: أي هنتاه[8] أولم تسمعي ما قال؟ قلت: وما قال؟ فأخبرتني بقول أهل الإفك، فازددت مرضاً على مرضي. فلما رجعت إلى بيتي، دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم فسلَّم فقال: كيف تيكم؟ فقلت: أتأذن لي أن آتي إلى أبويّ؟ قالت: ـ وأنا حينئذٍ أريد أن أستيقن الخبر من قبلهما ـ قالت: فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلّم فجئت لأبويّ، فقلت لأمي: يا أمتاه ما يتحدث الناس؟ قالت: يا بنية هوني عليك، فوالله لقلَّما كانت امرأة قطّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاَّ أكثرن عليها. فقلت: سبحان الله، ولقد تحدث الناس بهذا؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ولا أكتحل بنوم. ثم أصبحت أبكي.

ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد حين استلبث الوحي يستأمرهما في فراق أهله. فأما أسامة فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلّم بالذي يعلم من براءة أهله، وبالذي يعلم لهم في نفسه من الودّ، فقال: يا رسول الله، أهلك ولا نعلم إلا خيراً، وأمّا علي بن أبي طالب فقال: يا رسول الله، لم يضيّق الله عليك، والنساء سواها كثير، وإن تسأل الجارية تصدقك. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بريرة فقال: أي بريرة، هل رأيت شيئاً يريبك؟ قالت بريرة: لا والذي بعثك بالحق، إن رأيت عليها أمراً أغمصه أكثر من أنها جارية حديثة السن، تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله.

فقام رسول الله صلى الله عليه وسلّم فاستعذر يومئذ من عبد الله بن أبيّ، فقال وهو على المنبر: يا معشر المسلمين، من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهل بيتي؟ فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً، وما كان يدخل على أهلي إلا معي.

فقام سعد بن معاذ الأنصاري فقال: يا رسول الله، أنا أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربت عنقه، وإن كان من إخواننا من بني الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك. فقام سعد بن عبادة، وهو سيّد الخزرج، وكان قبل ذلك رجلاً صالحاً، ولكن احتملته الحمية، فقال لسعد: كذبت، لعمر الله ما تقتله ولا تقدر على قتله. فقام أسيد بن حضير، وهو ابن عم سعد، فقال لسعد بن عبادة: كذبت لنقتلنه، فإنك منافق تجادل عن المنافقين. فتثاور الحيّان: الأوس والخزرج، حتى همّوا أن يقتتلوا، ورسول الله صلى الله عليه وسلّم قائم على المنبر، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلّم يخفضهم حتى سكتوا وسكت.

فبكيت يومي ذلك، فلا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم، فأصبح أبواي عندي وقد بكيت ليلتين ويوماً، لا أكتحل بنوم ولا يرقأ لي دمع، وأبواي يظنان أن البكاء فالقٌ كبدي.

فبينما هما جالسان عندي، وأنا أبكي، فاستأذنت عليّ امرأة من الأنصار، فأذنت لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحن على ذلك دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، ثم جلس، ولم يجلس عندي منذ قيل فيّ ما قيل قبلها، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه في شأني بشيء، فتشهّد حين جلس، ثم قال: أما بعد يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنبٍ فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.

فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلّم مقالته قلص[9] دمعي حتى ما أحس منه قطرةً، فقلت لأبي: أجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: والله ما أدري ما أقول لرسول الله! فقلت لأمي: أجيبي عني رسول الله صلى الله عليه وسلّم، قالت: والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلّم!

فقلت ـ وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن ـ: إني والله لقد علمت أنكم سمعتم هذا الحديث حتى استقرّ في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلت لكم: إني بريئة ـ والله يعلم أني بريئة ـ لا تصدّقوني، ولئن اعترفت لكم بأمر ـ والله يعلم أني منه بريئة ـ لتصدقني، والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا قول أبي يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.

ثم تحوّلت، فاضطجعت على فراشي وأنا حينئذٍ أعلم أني بريئة، وأن الله مبرّئي ببراءتي، ولكن والله، ما كنت أظن أن الله منزلٌ في شأني وحياً يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقر من أن يتكلم الله فيّ بأمرٍ يُتلى، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلّم رؤيا يبرّئني الله بها.

قالت: فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلّم مجلسه ولا خرج أحد من أهل البيت حتى أنزل عليه، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي، حتى إنه ليتحدّر منه مثل الجمان من العرق، وهو في يوم شاتٍ من ثقل القول الذي أنزل عليه، فلما سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلّم ، سُري عنه وهو يضحك، فكان أوّل كلمةٍ تكلّم بها أن قال: أبشري يا عائشة، أما الله فقد برّأك، فقالت أمي: قومي إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه ولا أحمد إلا الله الذي أنزل براءتي، وأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} العشر الآيات كلها.

فلما أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكر، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره: والله لا أنفق على مسطحٍ شيئاً بعد الذي قال لعائشة ما قال، فأنزل الله: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُو أُوْلِى الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ} إلى قوله: {رَّحِيمٌ}. قال أبو بكر: والله إني أحب أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً[10].

* * *

مناقشة الرواية

وإننا نتحفّظ على صدق هذه الرواية، لأنها تسيء إلى الشخصية الرسالية التي يتميز بها النبي (ص) لجهة تكوين الانطباعات السلبية عن الناس، لا سيّما الأقربين إليه قبل التأكد من تحقق الأسس الشرعية التي تثبت عناصر الاتهام.. فكيف يتصرف (ص) بهذه الطريقة السلبية مع عائشة طيلة هذه المدّة؟ وكيف يعيش داخلياً المرارة النفسية إزاء هذه القضية، تماماً كما لو كانت في حجم الحقيقة، وكيف يتصرف معها بهذا الأسلوب القاسي الذي يرهق نفسيتها، ويوحي بأن ما نسب إليها هو الحقّ؟

وإذا كان بعض الناس يثير المسألة بصفتها مشكلة أحاطت بالمجتمع الإسلامي في ما أثارته من إرباك وتعقيدٍ وخلل، في نظرته إلى طبيعة البناء الأخلاقي للبيت النبوي، مما قد ينعكس سلباً على حركة الالتزام فيه، أو مستوى الثقة بالنبي(ص).. إذا كان بعض الناس يثيرون المسألة في هذا الاتجاه، فإن ذلك لا يغيّر من التحفّظات شيئاً، لأنه بإمكان النبي (ص) أن يواجه المجتمع الإسلامي من حوله بالأحكام الشرعية التي تعالج مثل هذه القضايا، حيث يتهم فيها الناس بعضهم بعضاً دون حجّة، لتكون هذه الحادثة مدخلاً للتوعية العامة وتركيز المفاهيم الإسلامية في وجدان المسلمين، حتى إذا افترضنا أن حدّ القذف كان لاحقاً لقصة الإفك، لا سابقاً لها، مما يحلّ مشكلة السؤال عن سبب امتناع النبي عن إقامة حد القذف على القائلين، ولكن ذلك لن يحل مشكلة السؤال عن سرّ امتناع النبي (ص) عن استنكار تحريك الإشاعات الكاذبة، أو القلقة، أو غير الثابتة بحجةٍ شرعيةٍ، في نواديهم ومجتمعاتهم الخاصة والعامة، مما يبتعد عن خط العدل.

وقد ذكر الكثير من المفسرين أن طهارة البيت النبوي، وخلوّه مما يسيء إلى العفة، هو من الأمور التي لا يجهلها النبي (ص)، لأنها تتصل بالجانب العميق من قاعدة الثقة بالرسول والرسالة، فكيف يرتاب النبي في هذا الأمر؟!

إننا نلاحظ أن مثل هذه الروايات لا تتناسب مع ما نعرفه عن شخصية الرسول (ص) الروحية المنفتحة، التي حدثنا الله عنها في أكثر من آية، حيث نستوحي أنها شخصية ذات خلق عظيم تلتزم بالعلاقات الإنسانية من خلال انفتاح روحه على الخير، في ما توحي به الرسالة من الخير كله، ومن العدل كله.. وهي ـ أي هذه الروايات ـ توحي بالشخصية القلقة الحائرة التي لا تعرف بسبب الانفعال والحَيْرة ماذا تفعل وكيف تتصرف، مما يسيء إليه وإلى أجواء الرسالة.

ثم ما معنى سيادة هذا الجوّ في المجتمع المسلم واختلافهم على الوقوف مع النبيّ في شأنٍ كبيرٍ من شؤونه المتعلقة بالجانب العميق من شخصيته ذاتاً وموقعاً وحركة على مستوى الرسالة في الواقع، وكيف يتصرفون أمامه بالطريقة المعقّدة التي تتحدث عنها الرواية؟ وكيف يتحدث بعضهم إلى بعض دون أن يحسبوا حساباً لوجوده معهم مما تفرضه أبسط قواعد الاحترام للنبي الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور؟ فمهما كانت العقدة التي تختفي في شخصية البعض منهم، ولكن ذلك لا يدفع إلى مثل هذه المواجهة التي لا تتناسب مع طبيعة الواقع.

وهناك نقاط ضعف كثيرة، صغيرة وكبيرة، في هذه الرواية، ليس مجال بحثها الآن.. ولكننا نريد التأكيد ـ من خلال بعض اللمحات الفكرية ـ أنَّ علينا دراسة النصوص الدينية التي تتحدث عن النبي في ملامح شخصيته، تماماً كما ندرس النصوص التي تتحدث عن ملامح الرسالة، لأن شخصيته جزءٌ من شخصية الرسالة، فلا مجال في وعينا للفصل بين الرسالة والرسول، ما دام الله جعل الرسالة في القدوة، كما جعلها في الآية، فهو القرآن المتجسد في حركة الواقع، كما كان القرآن هو الفكر الذي يتجسد في حياة الناس.

ولهذا لا بد من دراسة مضمون النص، كما لا بد من دراسة السند الذي يثبت صدق مصدر النص، بعيداً عن كل الأجواء التي تثيرها فينا شخصية الأشخاص الذين ينقلون لنا التراث، لأن قضية الرسالة أكبر منهم.

* * *

قصة الإفك وروايات أخرى

وهناك روايات تتحدث عن أن قصة الإفك تستهدف شخصية أخرى.. فإذا كانت السيدة عائشة هي المستهدفة في الرواية السابقة وأمثالها من الروايات، فإن الروايات التالية تقول إن مارية القبطية هي المستهدفة وإن عائشة هي التي رمتها بالزنى، وذلك في ما رواه بعض الرواة عن الإمام أبي جعفر الباقر (ع) كما جاء في تفسير القمي، أنه قال: «لما هلك إبراهيم ابن رسول الله ، حزن عليه حزناً شديداً، فقالت عائشة: ما الذي يحزنك عليه؟ ما هو إلا ابن جريح، فبعث رسول الله(ص) عليّاً(ع) وأمره بقتله. فذهب علي (ع) ومعه السيف، وكان جريح القبطي في حائط، فضرب علي(ع) باب البستان، فأقبل جريح له ليفتح الباب، فلما رأى علياً (ع) عرف في وجهه الغضب، فأدبر راجعاً ولم يفتح باب البستان، فوثب علي(ع) على الحائط ونزل إلى البستان واتبعه، وولى جريح مدبراً، فلما خشي أن يرهقه[11] صعد في نخلة وصعد علي (ع) في أثره، فلما دنا منه رمى بنفسه من فوق النخلة، فبدت عورته، فإذا ليس له ما للرجال، ولا له ما للنساء.

فانصرف علي (ع) إلى النبي (ص) فقال له: يا رسول الله، إذا بعثتني في الأمر أكون كالمسمار المحميّ في الوبر أم أتثبَّت؟ قال: لا بل تثبّت. قال: والذي بعثك بالحق، ما له ما للرجال وما له ما للنساء، فقال: الحمد لله الذي صرف عنا السوء أهل البيت»[12].

وهذه الرواية أكثر إثارةً لعلامات الاستفهام من الأولى.

أولاً: إن جريح ـ في ما تنقله كتب السيرة ـ كان خادماً خصياً لمارية أهداه مقوقس عظيم مصر لرسول الله (ص) وأرسله معه ليخدمها.. فكيف قبل رسول الله (ص) سماع الاتهام له، مع كونه معروفاً لديه منذ جاء إليه؟

ثانياً: كيف يأمر رسول الله بقتل جريح لمجرد سماعه كلام عائشة، مع أن المسألة تحتاج إلى الدليل الشرعي الذي شرّعه للناس، مع أنَّ حد الزاني غير المحصن هو الجلد، لا القتل.

ثالثاً: لماذا لم يقم رسول الله الحدّ على زوجته، لقذفها زوجته مارية، لا سيما بعد أن ثبت كذبها، كما تقول الرواية، وهو القائل: والله لو سرقت فاطمة لقطعت يدها.

رابعاً: إن هذه الرواية تتنافى مع ظاهر الآية التي تتحدث عن أن مسألة الإفك لم تكن مجرد حديثٍ شخصي هامسٍ بين الناس وعائشة، بل هو حديث جاءت به عصبة من الناس، وانتشر في المجتمع وتحوّل إلى ما يشبه المشكلة الكبيرة التي استدعت نزول الوحي على الرسول ليعالجها، وليجعل منها أساساً لقاعدةٍ شرعية واسعة في حياة المسلمين جميعاً، ما يجعل الرواية الأولى أقرب إلى السياق القرآني من هذه الرواية.

وقد تكون مثل هذه الروايات جزءاً من تراث الوضع في الحديث الذي كان يكثر فيه الكذب على النبي محمد (ص) وعلى أهل البيت (ع)، مما أتقن فيه الوضّاعون طريقة ترتيب الأحاديث بحيث تصبح موضعاً للثقة، باعتبار وثاقة رواتها، فقد كان الحديث يدسّ في كتبهم دون أن ينتبهوا إليه.. ولذلك فإن وثاقة الأحاديث المنقولة عن أئمة أهل البيت(ع) يتأتى من عرضها على الكتاب والسنة القطعية والموثوقة، فما وافقهما كان مقبولاً، وما خالفهما كان مردوداً، الأمر الذي نستوحي منه ضرورة دراسة المضمون الداخلي للنص، وعدم الاكتفاء بدراسة السند، لأن القضية تتصل بعمق المفاهيم الإسلامية في وعي المسلمين لها.

وقد لا نحتاج إلى أمثال هذه الروايات لوعي النصّ القرآني، لأن القرآن لم يتحدث عن الجانب الشخصي في مسألة الإفك، حتى في علاقته بالبيت النبويّ.. ما يدلّ على أن ذلك دخيل على التحليل القرآني للمسألة.. فقد يكفينا أن نشير إلى أن هناك قصة مثيرة للاهتمام تتصل بمواقع مهمّة في مجتمع المسلمين آنذاك، أثارت مشكلةً كبيرة في داخله، وأوحت بوجود انحراف أخلاقي في الشخصية الإسلامية.. فجاءت الآيات لمعالجة هذه المشكلة وتصحيح الانحراف، بعيداً عن صفة الشخص الذي أثيرت المسألة حوله، تماماً كما في كثير من الآيات القرآنية التي كانت بعض الحوادث سبباً لنزولها، ما جعل الفكرة تنطلق في نطاق الواقع، بدلاً من أن تنطلق في الوعي العام من موقع الفراغ. وبهذه الروح سوف نحاول دراسة هذا الفصل من السورة.

* * *

إيجابيات قصة الإفك

{إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ} فريق لا يعيش المسؤولية في ما يلقيه من كلمات تسيء إلى الآخرين في حياتهم أو أعراضهم أو علاقاتهم، لأنهم لا يخافون الله، ولا يحترمون إنسانية الإنسان، ولا إيمانه، في ما يفرضه ذلك من التثبّت من العناصر التي انطلق منها القول إن كان مسموعاً للقائل، أو التوقف عند حدود الله في ما ينسبه إلى الناس، إن كان القول منطلقاً منه. فهم يرتكزون في ذلك على نوازع الذات وعوامل الحقد ونزعات الهوى..

وقد جاء الخطاب للمؤمنين الذين اعتبرت هذه الجماعة منهم، بلحاظ ما يُراد من المؤمنين ممن انتسب إلى الإيمان رسمياً بكلمة الإسلام، ودخل في مجتمعهم.. وقد جاء في الروايات المأثورة في تفسير الآية أن الذين جاءوا بالإفك عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت، وحمنة أخت زينب زوج النبي(ص).

{لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن تقييم ما يحدث في المجتمع في طبيعته ومضمونه هو خير وشرّ، لا يتم بلحاظ ما يترتب عليه من إساءة أخلاقية أو اجتماعية إلى شخص أو أكثر، لجهة ما، أو عكس ذلك، بل التقييم يتم على ضوء ما ينتج عن تلك الحوادث من نتائج إيجابية أو سلبية على مستوى سلامة المجتمع، في ما تثيره من أوضاع ترتبط بخط السير، وبقضية المصير، ما يجعل الخير في البداية شرّاً في النهاية، عندما تكون التأثيرات النهائية سلبية، وقد يصبح الشرّ في البداية خيراً في النهاية، عندما تكون التأثيرات النهائية إيجابية.

وإذا كان المسلمون قد اعتبروا حديث الإفك شرّاً لأنه يتضمن الإساءة إلى شخصية النبي محمد(ص) وموقعه النبوي، عندما ينسب الزنى إلى إحدى زوجاته، ما قد يؤدي إلى فقدان الثقة بحركة الرسالة في شخصية الرسول، في ما يوحيه ذلك من عدم قدرته على حماية أقرب الناس إلى حياته الخاصة من الانحراف، ليترك الانطباع بضعف إرادته أو قدرته على التأثير، أو ما إلى ذلك من سلبية، فإن الأمر لم يكن مقتصراً على ذلك، لأنه ـ في الجانب الآخر من الصورة ـ استطاع أن يتفاعل في الواقع الاجتماعي بطريقةٍ مثيرة، خلقت جوّاً عاصفاً من النقاش والجدل، ما جعل ظهور الحقيقة ـ في النهاية ـ مدخلاً لفرز المنافقين عن المؤمنين، وكشف خلفيات الكفر في شخصيات البعض منهم، أو خلفيات الضعف والاهتزاز الإيماني في شخصيات البعض الآخر، ما يُسقط موقعهم في النفوس، ويفقدهم ـ بالتالي ـ قدرة التأثير السلبي في المستقبل على حركة المجتمع المسلم، في ما قد يفكرون فيه من مشاريع ثقافية، الأمر الذي يحقق للإسلام وللمسلمين نتائج كبيرة على مستوى تحقيق المناعة الداخلية ضد التأثيرات الثقافيّة السلبية في نفوذها إلى قناعات المؤمنين.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هذه الحادثة قد كشفت عناصر الخلل في المجتمع المؤمن الذي كان يختزن ضعفاً داخلياً في عمق شخصياته التي انفعلت بمشاعرها الذاتية، أو بالكلمات الطارئة المتحركة في أجواء الإشاعات الكاذبة، فلم يقف أفراد هذا المجتمع من ذلك كله موقف التثبت أو التحفظ، ولم يلتزموا خط التقوى في ما يأخذونه من ذلك وفي ما لا يأخذون، ما أدى بهم إلى الانحراف عن العدل، والوقوع في دائرة ظلم الآخرين.

وقد يكون الكثيرون منهم قد اكتشفوا في أنفسهم ما لم يكونوا قد اكتشفوه من قبل، لأنهم لم يلتقوا بتجربةٍ حاسمةٍ قويّة في حجم هذه التجربة.. فكانت هذه الحادثة بمثابة الصدمة الكبيرة التي أعادتهم، أو أعادت الكثير منهم إلى التفكير العميق في طريقة الخروج من هذا الواقع اللاّ أخلاقي..

وهكذا جاءت الآيات القرآنية، لتعمق هذا الشعور في وعي المجتمع المؤمن، ولتضع القضية في نصابها الشرعي الصحيح في نتائجها السلبية على مستوى مصير الذين أثاروها، ولتوجه المؤمنين إلى طبيعة الخطأ الذي وقعوا فيه، وإلى ما يجب عليهم أن يفعلوه أمام القضايا المستقبلية المماثلة، مما يعتبر دستوراً إسلامياً أخلاقياً لحركة الإنسان المؤمن في أمثال هذه القضايا، ليتحدّد المبدأ الأخلاقي الإيجابي من مواقع السلوك السلبي للإنسان في الواقع.

وهكذا كانت نتائج الحادثة إيجابيةً على صعيد مستقبل المجتمع المؤمن، إذا كانت سلبية على صعيد الواقع الحاضر.

{لِكُلِّ امْرِىءٍ مِّنْهُمْ مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ} في ما اقترفه من هذا الذنب، تبعاً لعلاقته به، وحجم تأثيره فيه، سواءٌ في ذلك إثم الدنيا لجهة الحد الذي يقام عليه، أو لجهة الفضيحة التي افتضح بها، أو إثم الآخرة، في ما عصى الله به بتجاوز حدوده التي أراد العباد أن يقفوا عندها.

{والذي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو الذي فكر وخطط وقام بمهمة التنفيذ، وألقى الكلمة الأولى التي تبعتها الكلمات الأخرى، ما يجعله مسؤولاً عن معظم الحديث، فإن من الطبيعي أن يكون عذابه عظيماً، لأنه يتحمل من المسؤولية ما لا يتحمله الآخرون الذين شاركوه في العمل، تبعاً للاختلاف في طبيعة حجم الجريمة بين عمله وعملهم.. وقد ذكر أن هذا الرجل هو عبد الله بن أبي ابن سلول، شيخ النفاق في المدينة.

وقيل: إن رسول الله دعاهم بعد أن نزلت آيات الإفك فحدّهم جميعاً، غير أنه حدّ عبد الله بن أبي حدّين، لأنه يتحمل المسؤولية المباشرة في قذفه لأزواج النبي، الذي تتضاعف فيه المسؤولية، لأن في ذلك إساءةً للزوجة وللنبي معاً، في ما يستتبعه من مؤثرات عامّة وخاصة. وربما اعترض البعض على مضاعفة الحدّ بالنسبة إليه باعتبار أن السبب الذي اقتضى الحدّ، وهو قذف زوجات النبي، مشترك بينه وبينهم، لأن الجميع اشتركوا بعملية القذف. والظاهر أن هذا الحكم لم يثبت، ولو كان ثابتاً، لكان من المناسب أن تشير إليه الآيات التي تحدثت عن هذا الحدث الكبير في مجال توجيه الأنظار إلى فظاعته، وإبعاد المسلمين عن ممارسة ما يماثله.

* * *

حسن الظن قاعدة إيمانية

{لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ والمؤمنات بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً} فإن المجتمع الإسلامي يمثل كياناً واحداً ينطلق من قواعد إيمانيةٍ أخلاقيةٍ ثابتةٍ في كل قضايا العلاقات وحركة السلوك، ولذلك فإن طبيعة الإيمان في شخصية المؤمن تفرض الالتزام العفوي بنتائج الإيمان الشرعية عملياً، ما يجعل النظرة إلى الآخرين إذا ما شك في تصرفاتهم، بسبب اشتباه أمرهم عليه، أو بسبب ما ينسبه الناس إليهم، هي نفسها النظرة إلى نفسه، وهو أمر يستدعي استبعاد صدور القبيح منهم بشكل طبيعيّ، واعتبار الجانب الخفيّ في سلوكهم مختزناً لبعض المعطيات التي قد تفسره إيجاباً..

وهذا ما يفرض على المؤمنين والمؤمنات، أن لا يصدّقوا الإشاعات المنسوبة إلى بعضهم لمجرّد سماعهم ذلك، بل لا بد لهم من أن يحملوها على الخير حتى يثبت لهم الشرّ، لأن مجرد الإشاعة التي لا ترتكز على حجة ثابتةٍ، لا تصلح أساساً للحكم، أو للاتهام القويّ، ولولا ذلك لكان المجتمع المؤمن خاضعاً للاهتزاز أمام الأجهزة الكافرة أو الضالة أو المنافقة، التي تعمل على إفقاد أفراده الثقة ببعضهم البعض، وتحطيم كرامتهم، والإخلال بتوازنه المعنوي، وإثارة المشاكل والخلافات في داخله.. ولذلك أراد الله سبحانه للمؤمنين أن يواجهوا المسألة بقوّة حاسمة، ليعطلوا هذه الخطة الخبيثة، وليسدّوا الطريق على مثيري الفتن من خلال إثارة الإشاعات في داخل مجتمعهم، فطلب منهم أن يظنوا بإخوانهم الذين هم بمنزلة أنفسهم خيراً، وأن يطلقوا الكلمة الحاسمة في وجوه المنافقين، في ما أرادهم الله أن يقولوه.

{وَقَالُواْ هذا إِفْكٌ مُّبِينٌ} فإن الخبر الذي لم ينطلق قائله من حجّة، أو لم يقدّم عليه بيّنة، محكوم عليه شرعاً بالكذب، بمعنى أن على المؤمنين أن لا يرتبوا عليه آثار الصدق، بل أن يرتبوا عليه آثار الكذب ونفي كل مضمونه مع لوازمه، بقطع النظر عن العمق الواقعي للخبر، لأن القاعدة الشرعية تفرض الحكم على الصدق والكذب، على أساس وسائل الإثبات الشرعية من الناحية السلبية أو الإيجابية. وهذا ما أشارت إليه الآية التالية:

{لَّوْلاَ جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شهداء} فالحكم بكذب هؤلاء ينطلق من عدم تقديمهم الحجة الشرعية التي تثبت ما تحدثوا عنه من زنى، فلو كانوا صادقين لأقاموا الشهادة، {فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بالشهداء فَأُوْلَئِكَ عِندَ اللَّهِ هُمُ الكاذبون}، لأن الدعوى التي لا ترتكز على قاعدة ثابتة، لا قيمة عملية لها في حسابات الصدق، لا سيّما إذا طالت كرامات المؤمنين وأعراضهم، ما يجعل المخبر إنساناً ظالماً في كلماته، التي لا تمثل إلا الشرّ المتحرك في شخصيته، لأنه يعلم أن كلماته لا تثبت مضمونها، فلا يبقى منها إلا تشويه الصورة، وإثارة البلبلة في صفوف المؤمنين.

وقد تكون هذه الآية من بين المصادر الشرعية التي تشير إلى قاعدة الحمل على الصحة في فعل المسلم عند احتمال صدور الفعل منه على الوجه القبيح، سواء دار الأمر بين صدور الفعل القبيح منه، أو عدم صدور شيء منه أصلاً، أو دار أمر الفعل الصادر منه بين العنوان القبيح والعنوان الحسن، فإن الأصل في فعله أن يحمل على الخير، لا بمعنى تأكيد صدور الخير منه وإثبات ذلك في فعله على سبيل الحكم، بل بمعنى أن لا يحمل فعله على الشرّ، فلا يحكم عليه بالظن الناشئ من النظرة السريعة، أو الإشاعة الطائرة.. كما هي القاعدة المعروفة التي تقول إن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، بمعنى التعامل معه على أساس البراءة.. وهكذا يريد الإسلام أن يغلّب جانب الخير في شخصية المؤمن، من خلال ما يوحيه إيمانه من ذلك، فإن طبيعة التزامه بالإسلام عقلاً وروحاً تقتضي اعتبار الخير هو الأصل في حياته حتى يثبت العكس.

* * *

الله يغدق رحمته وعفوه على المؤمنين

{وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ في الدُّنْيَا والآخرة} في ما يمهلكم فيه، ويمهده لكم من أسباب الوعي، ووسائل التثبيت والتأييد، وفي ما يفتحه لكم من أبواب التوبة، ويحققه من ألطاف العفو والرحمة، لما يعلم وجوده فيكم من رواسب جاهلية، تجعلكم في غفلةٍ عميقة متحركة في أكثر من مجال عاطفيّ، بحيث تبتعدون بشكلٍ سريعٍ عن الله وعن تعاليمه، فتستسلمون لشهواتكم.. وهكذا أراد لكم الانفتاح عليه في كل مرة ترغبون فيها العودة إلى صراطه المستقيم من خلال التوبة والإنابة وتصحيح المسار.. ولولا هذا اللطف الإلهي في رعايتكم بالفضل والرحمة {لَمَسَّكُمْ في مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ} وخضتم فيه من الكلام اللاّمسؤول الذي يسيء إلى براءة الإنسان، وإلى سلامة المجتمع واستقراره {عَذَابٌ عَظِيمٌ}، لأن ذلك هو الجزاء الطبيعي للعمل السيئ، في طبيعته ونتائجه كوسيلةٍ من وسائل الردع النفسي عن الاستمرار به في مواقع مماثلة.

* * *

شناعة اتّهام الناس بغير علم

{إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ} فتأخذون القول الذي سمعتموه بطريقةٍ سطحية لا ترتكز على أيّة حالةٍ من التثبّت والوعي والتدبّر، وتديرون ألسنتكم فيه فينتقل من لسان إلى لسان، {وَتَقُولُونَ بأفواهكم مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وهذا هو الخطر في حركة الكلمة في لسان قائلها، وفي الموقع الذي تنطلق فيه في الدائرة الاجتماعية الصغيرة والكبيرة، فتثير الأفكار غير الدقيقة ـ فيما إذا كانت الكلمة تحمل فكراً للآخرين ـ وتشوّه الصورة الجميلة، وتحسّن الصورة المشوّهة، وتسيء إلى سمعة الأبرياء، وتنطلق التهمة في حياة الناس الطيبين دون أساس..

{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً} في ما يوحيه الشيطان إليكم من تهوين المسألة في حجمها الواقعي، فهي مجرد كلمات تخرج من اللسان وتدخل الأسماع، وتملأ الوقت، ثم تتطاير في الهواء، وليست عملاً ذا نتائج على مستوى الواقع يخلق مشكلةً ويثير مأزقاً.. {وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ} لأنه افتراء على الناس الأبرياء، وتزوير للحقيقة، واعتداء على أجواء الرسالة، بما يتضمن من إساءة إلى الأجواء الداخلية لحياة الرسول، ما يؤدي إلى الخلل في التوازن على أكثر من صعيد.. ثمّ من قال إن الكلمة ليست عملاً؟ فهي قد تكون أخطر من العمل، فقد تحرق الكلمة المجتمع كله عندما تنطلق انفعالاته في أجواء الكلمة لتشتعل وتتحول إلى نار تحرق الحياة من حولها على أكثر من صعيد. وقد قال الإمام علي (ع) في بعض كلماته القصار: «من لم يحسب كلامه من عمله كثرت خطاياه»[13]. وقال (ع): «ومن علم أن كلامه من عمله قلّ كلامه إلا في ما يعنيه»[14].

{وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لنا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَذَا}، لأننا لا نملك أيّ أساسٍ له، فلا يكفي للإنسان أن يخوض في شؤون الناس، وأن يحرك الإشاعات التي تتحدث عنهم بالسوء، بل لا بد له من إثبات ذلك بالبيّنة الشرعية، فإذا لم نستطع منع الناس من التكلم عن الآخرين بطريقة سيئة، فلا بد لنا ـ على الأقل ـ عدم مشاركتهم في ما يخوضون فيه، ليرجع إلى الله قائلاً: {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} في إعلان إيمانيٍّ بتعظيم الله وتنزيهه. وتنزيه الله هنا لون من ألوان الأدب القرآني الذي يعمل على تنزيه الله عند إرادة تنزيه أحدٍ، ثم التأكيد على صفة البهتان العظيم في هذا الحديث القاذف، الذي يسيء للأبرياء وللنبيّ بشكل غير مباشر، لأن القائلين لم يقدموا شيئاً لإثبات ذلك.

{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً} في اعتبار ذلك حالةً طارئةً مرت، دون أن تتحول إلى قاعدةٍ للسلوك {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ}، لأن الإيمان يمنع صاحبه من الإساءة إلى الناس من دون حقّ، ويحثه على التراجع عن مثل هذا السلوك، إذا حدث منه ذلك غفلةً في بعض الحالات.

{وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيات} التي تحدد لكم الخط المستقيم في الحياة، والاتجاه السليم في حركة السلوك، على مستوى علاقة الإنسان بنفسه وبالآخرين {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} يعلم ما يصلحكم، ويتصرف معكم ومع الكون كله من موقع الحكمة المطلقة، التي لا تضع شيئاً إلا بحساب، ولا ترفع شيئاً إلا بتدبير.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:7، ص:206.

(2) مفردات الراغب، ص:15.

(3) ظفار: كقطام، بلد باليمن قرب صنعاء، وجزع ظفاريّ منسوب إليها، والجزع: الحرز، وهو الذي فيه سوادٌ وبياض.

(4) العلقة من الطعام: ما يمسك به الرمق.

(5) أدلج القوم: ساروا الليل كله أو في آخره.

(6) أي: رفعنا ثيابنا.

(7) المرط ـ بالكسر ـ كساء واسع يؤتزر به، وربما تلقيه المرأة على رأسها وتتلفح به.

(8) خطاب المرأة، يقال للرجل: يا هناه.

(9) قلص: اجتمع وانقبض.

(10)الدر المنثور: ج:6، ص:140ـ143.

(11)يرهقه: أي: يدركه.

(12)نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:15، ص:104ـ105.

(13)الكافي، ج:2، ص:115، رواية:15.

(14)نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، دار التعارف للمطبوعات، ط:1، 1410 هـ ـ 1990م، قصار الحكم/ 349، ص:404.