تفسير القرآن
النور / الآية 26

 الآية 26

الآيــة

{الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ للخبيثات والطيبات لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ للطيبات أُوْلَـئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} (26).

* * *

وقفة مع الآية

{الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ للخبيثات} جاء في مجمع البيان: «قيل في معناه أقوال: أحدها: إن الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم، والطيبات من الكلم للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيّبات من الكلم. ألا ترى أنك تسمع الخبيث من الرجل الصالح فتقول: غفر الله لفلان ما هذا من خلقه ولا مما يقول؟! عن ابن عباس، والضحاك، ومجاهد، والحسن.

والثاني: إن معناه الخبيثات من السيِّئات للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من السيّئات، والطيّبات من الحسنات للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من الحسنات، عن ابن زيد.

والثالث: الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، والطيبات من النساء للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، عن أبي مسلم، والجبائي، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله(ع): قالا: هي مثل قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} الآية، أن أناساً همّوا أن يتزوّجوا منهن فنهاهم الله عن ذلك، وكره ذلك لهم»[1].

ولعل هذا اللون من تنويع الاحتمالات في الآية ناشئ من النظرة التجريدية للآية دون أيّ دليلٍ من داخلها، أو من سياقها.. وقد يكون الأقرب في ذلك، هو ما روي عن الإمامين الصادقين (ع)، لأن سياق السورة هو سياق الحديث عن الزواني والمحصنات، وعن المؤمنين والمؤمنات، وعن الأجواء التي تتحرك في دائرة العلاقات الزوجية التي يتحكم فيها الانسجام الأخلاقي بين الزوجين، ما يجعل من مسألة التوافق الروحي والإيماني عنصراً حيوياً في المسألة.. كما أشير إلى ذلك في قوله تعالى: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ }. وهكذا نستطيع نفي أن يكون المراد من الطيبات أو الخبيثات، ما خبث أو طاب من الكلام، أو ما طاب أو خبث من الأفعال، بل المراد بالكلمتين هو المعنى المراد من الطيبين والخبيثين، مع فارق الذكورة والأنوثة، لأن طبيعة الجوّ العام للسورة ـ كما ذكرنا ـ وطبيعة المقابلة بين الكلمتين، تقرّبان ذلك مع قرينةٍ أخرى سنشير إليها فيما بعد.

* * *

الخبيثون للخبيثات والطيبون للطيبات

{الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ } أي: النساء الخبيثات للرجال الخبيثين، {وَالْخَبِيثُونَ } من الرجال {للخبيثات } من النساء، {والطيبات } من النساء {لِلطَّيِّبِينَ } من الرجال، {وَالطَّيِّبُونَ } من الرجال {للطيبات } من النساء.. ولكن ما هو المراد من ذلك؟ هل هو تقرير الواقع بحيث يكون المعنى أن واقع العلاقات الزوجية أو ما يشبهها، هو الانسجام بين الزوجين في الخبث والطيبة؟ ولكن هذا غير واقعي، لأن كثيراً من الطيبين والطيبات ابتلوا بزيجات خبيثة، كما أن كثيراً من الخبيثات ارتبطن بعلاقة زوجية مع رجال طيبين؟ أو هو تشريع للعلاقة الزوجية، ليكون المعنى أنه لا بد للخبيثات من أن يتزوجن من الخبيثين، فلو تزوجن غيرهم، لكانت العلاقة غير شرعية، كما لن تكون هناك شرعية لزواج الطيب من الخبيثة أو الطيبة من الخبيث.. ولكن هذا غير ثابت، لأنه ليس من شروط الزواج الشرعية؟!

والظاهر، أن المسألة جارية مجرى التناسب القائم على الاتفاق في العقيدة الطيّبة، والأخلاق والسلوك الطيبين، ما يجعل الطيبين مناسبين للآتي يملكن المواصفات نفسها، وهو ما يجعل الانجذاب الروحي الذي يؤدي إلى العلاقة الشرعية الزوجية أمراً طبيعياً، كما أن المواصفات المضادة تخلق التناسب بين الذين يتمتعون بهذه الصفات السلبيّة وتجعل العلاقة طبيعية بينهم باعتبار أن كل شكلٍ لشكله ألِفُ.

{أُوْلَئِكَ} إشارة إلى الطيبين {مُبَرأونَ مِمَّا يَقُولُونَ} عنهم من الافتراءات لأن التزامهم بالخط الطيب في العقيدة والسلوك يفرض براءتهم مما لا ينسجم مع إيمانهم والتزامهم الروحي والخُلُقي.. وهذا هو المنهج المنطقي في تقييم الاتهامات المنسوبة إلى الأشخاص، وهو دراسة الجوّ الداخلي الذي يُعبر عنه التزامهم الروحي والأخلاقي، ويؤكده خطهم العملي على صعيد الواقع، ولكن المستقيم قد ينحرف، إلاّ أن انحرافه يبقى حالة طارئة لا حالة طبيعية.. وهذا ما قد يوحي بأن المراد بالطيبين والطيبات الرجال والنساء، باعتبار أن الآية مسوقة لتبرئتهم جميعاً، كما أنها ليست مسوقة لإِدانة الخبيثين فقط لما ينسب إليهم من خبيثات الأقوال، لأن مسألة الإدانة والتبرئة كانت ملحوظة في نهاية الآية.. وهذه الفقرة واردة على سبيل التأكيد، لا على سبيل التأسيس، وهو خلاف الظاهر. {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهؤلاء الطيبين والطيبات العفو والمغفرة من الله، والعطايا الكريمة في الآخرة، ثواباً وجزاءً على ما جسّدوه في الحياة من المعاني الطيبة في الإيمان والشعور والسلوك والخط المستقيم.

ـــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، ج:7، ص:212ـ213.