تفسير القرآن
النور / من الآية 27 إلى الآية 29

 من الآية 27 الى الآية 29

الآيــات

{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فيها أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ * لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}   (27ـ29).

* * *

الاستئذان من آداب الدخول إلى البيوت

وهذا لونٌ من ألوان الأدب الإسلامي في احترام الناس، في ما يحيطون به أنفسهم من خصوصيات يريدون لها أن تحفظ أسرارهم العينية، وما يودّون إخفاءه عن الناس أو حفظه لأنفسهم من أشياء خاصة يملكونها، أو أسرار عملية أو حميمة تطال ما ينوون القيام به من أعمال، أو ما يمارسونه من شهوات على مستوى علاقتهم بأزواجهم، وما إلى ذلك من أمور وقضايا وأسرار..

فليس لأحد أن يدخل بيوت الناس إلا بعد أن يأذنوا له بذلك، فإذا أذنوا له فليدخل، وإذا لم يأذنوا له، فعليه أن يحترم إرادتهم، ولا يتعقد من ذلك، وبذلك يحترم الإنسان الحياة الخاصة للآخرين، كما يريد لهم أن يحترموا حياته الخاصة..

{يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا} الذين يتخذون الإيمان بالله وبشرائعه عنواناً لكل مفردات حياتهم، ولكل تصرفاتهم مع الآخرين {لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُواْ } بالوسائل التي توحي بطلب الاستئذان، لينتبه أصحاب البيوت إلى أن هناك زائراً يريد الدخول عليهم، ليستروا ما لا يريدون لهذا الزائر أن يطلع عليه، وليخفوا ما يحبّون أن يخفوه، وليرتبوا ما يحبون أن يظهروه، أو يظهروا به على أعين الناس، حتى لا يسيء إليهم الزائر فيطّلع على عوراتهم التي يريدون سترها، وعلى خصوصياتهم التي لا يريدون إطلاع أحد عليها..

والاستئناس قد يراد به ما يقابل الاستيحاش، فيكون بديلاً عن الإذن، لأن الذي يطرق باب غيره لا يدري أيؤذن له أم لا، فهو كالمستوحش من خفاء الحال عليه، فإذا أذن له استأنس، وقد يراد به الاستعلام والاستكشاف، من أنس الشيء إذا أبصره ظاهراً مكشوفاً، والمعنى: حتى تستعلموا وتستكشفوا الحال: هل يراد دخولكم أو لا.

وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص) ـ في رواية أبي أيوب الأنصاري ـ قال: قلنا يا رسول الله ما الاستيناس؟ قال: يتكلم الرجل بالتسبيحة والتحميدة والتكبيرة ويتنحنح على أهل البيت.

وعن سهل بن سعد قال: اطّلع رجل من جحر في حجرة النبي (ص) ومعه مدرى يحك بها رأسه فقال: لو أني أعلم أن تنتظر لطعنت به في عينك، إنما جعل الاستئذان من أجل النظر[1].

وروي أن علياً (ع) قال للنبي(ص): يا رسول الله، أمي أستأذن عليها؟ فقال: نعم، قال: ولم يا رسول الله؟ قال: أيسرك أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن[2].

وروي أن رجلاً استأذن على رسول الله (ص) فتنحنح، فقال (ع) لامرأة يقال لها روضة: قومي إلى هذا فعلّميه وقولي له: السلام عليكم أأدخل؟ فسمعها الرجل فقالها، فقال: ادخل.

وهكذا نجد أن المطلوب هو إعلام أهل البيت بأن هناك قادماً يريد الدخول عليهم بأية وسيلة من الوسائل المتنوعة التي يستحدثها الناس أو يطورونها من الكلمة، أو طرق الباب أو قرع الجرس، أو ما إلى ذلك، تبعاً للعرف المتّبع بينهم..

وقد ورد عن ابن مسعود وابن عباس: أي حتى تستأذنوا، وقال ابن عباس: أخطأ الكاتب فيه. وكان يقرأ: حتى تستأذنوا[3]. ولكن الظاهر من الرواية المتقدمة عن رسول الله (ص) أن كلمة الاستئناس هي الواردة في الآية، مضافاً إلى تسالم المسلمين على قراءتها وكتابتها، لا سيما من أئمة أهل البيت (ع). وهكذا، فإن القرآن يريد أن يقول للمؤمنين أن لا تدخلوا بيوت غيركم حتى تستأنسوا..

* * *

التسليم على أهل البيوت

{وَتُسَلِّمُواْ عَلَى أَهْلِهَا} كبدايةٍ للّقاء على أساس انفتاح الزائر على أهل البيت، وانفتاحهم عليه، فذلك هو الشرط الحضاري لدخول بيوت الآخرين؛ أن يعلم الزائر رضى من يودّ زيارتهم بدخوله عليهم، وأن يبدأ دخوله بالسلام عليهم في ما يدل عليه سلامه على أهل البيت من إرادة المحبة والسلام لهم في وجوده في بيتهم، ما يعني احترامه لحقّهم في الاحتفاظ بخصوصياتهم من جهة، وتقديره لإنسانيتهم في عدم فرض نفسه عليهم دون إذنهم في استقباله {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}، لأن ذلك هو السبيل لبناء المجتمع على قاعدةٍ إنسانيةٍ يرعى فيها أفراده الحرية الشخصية التي يتمتع بها كل واحد، في حماية خصوصياته في بيته، باعتبار أن البيت هو الساحة الطبيعية للحياة الخاصة العائلية والشخصية، لا يحق للناس اختراقها دون رضى صاحبها.

* * *

بين الإذن والرجوع عند إرادة دخول البيوت

{فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فيها أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمُ }، لأن المبدأ يقضي بعدم اقتحام الإنسان لبيت غيره، حيث يحتفظ بخصوصياته الشخصية والعائلية إلا برضاه، فإذا كان صاحب البيت موجوداً يجب انتظار رضاه، وإذا لم يكن موجوداً يجب الانتظار حتى مجيئه لمعرفة إن كان يأذن بدخول المنزل أو لا..

{وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُواْ فَارْجِعُواْ هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ففي حال رفض أصحاب البيت استقبال القادمين، لارتباطهم بموعدٍ سابقٍ، أو لوجود عملٍ شاغل لهم، أو لوجود مانعٍ صحيٍّ أو ذاتيّ خاص أو ما إلى ذلك من موانع.. فإن على هؤلاء القادمين أن يحترموا إرادة أصحاب البيت، ولا يتعقدوا من هذا الرفض، ولا يفرضوا أنفسهم عليهم، لأن من حقهم الطبيعي الإنساني الشرعي، أن لا يستقبلوا الناس إلا بموعد سابقٍ، نظراً لما يعيشه الناس عادة من ظروف ضاغطةٍ في حياتهم الخاصة، أو في علاقاتهم العامة.. وقد لا يكون هناك فرق في النتيجة بين أن يصرّحوا له بالرفض، وبين أن يلمّحوا له، وبين أن يرى التحفظ بادياً على وجوههم، ما يوحي بأنهم يواجهون الإحراج الكبير في استقباله، حياءً أو خوفاً أو نحو ذلك.

ولعل هذه القواعد الثلاثة، تمثل البرنامج القرآني العملي في الدخول على بيوت الناس الخاصة، فليس للإنسان أن يدخل بيت غيره إذا لم يكن صاحبه موجوداً ولم يكن هناك إذنٌ سابق له بذلك، وعليه أن يرجع من حيث أتى إذا لم يؤذن له بدخول البيت ـ مع وجود أهله فيه ـ وقيل له ارجع من حيث أتيت، أمّا إذا حصل الإذن، فإن له أن يدخل من غير إشكال، وبهذه القواعد يضمن الإسلام للإنسان حريته في بيته، فلا يقتحم أحد عليه حياته دون سابق إنذار، ما يجعله آمناً على كل أسراره وخصوصياته، التي لا يريد أن يطّلع أحد عليها.

* * *

الرخصة في الدخول إلى البيوت غير المسكونة بغير إذن

{لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ }. جاء في تفسير القمي أن الصادق (ع) قال: هي الحمامات والخانات والأرحية تدخلها بغير إذن[4].. وهذه البيوت هي الشكل الثاني من المساكن، وهي أماكن عامة لا يختص بها أحد، فهي مفتوحة للجميع من المسافرين وغيرهم، وبذلك يكون بناؤها لهذه الغاية وإيقافها على هذا النحو العام بمثابة إذن للناس في دخولها ووضع أمتعتهم فيها، تبعاً للحدود التي وضعت لها من قبل الواقفين لها، وبذلك يكون المراد بأنها غير مسكونة، أي غير معدّة للسكن الخاص بحسب طبيعتها..

وربما احتمل البعض أن يكون المراد بها بيوت التجارة والحوانيت التي تشتمل على المتاع الذي يريد الناس شراءه، فإن للناس أن يدخلوها ليشتروا منها ما يريدون، لأن وضعها التجاري يمثّل إذناً عاماً للجميع في دخولها من قِبَل أصحابها، وهو غير ظاهر..

{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ } فهو الذي يطلع على حياة الإنسان الداخلية في ما يسرّه أمام الناس أو يعلنه لهم، مما يفرض عليه أن يشعر بالرقابة الإلهية الدائمة على حياته الخفية والمعلنة، لأن ذلك كله ـ عنده ـ على حدٍّ سواء.

ــــــــــــــــــــ

(1) البحار، م:27، ج:76، ص:685، باب:105، رواية:5.

(2) (م.ن)، م:37، ج:101، باب:91، ص:285، رواية:37.

(3) مجمع البيان، ج:7، ص:213.

(4) نقلاً عن: تفسير الميزان، ج:15، ص:115.