من الآية 30 الى الآية 31
الآيتـان
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ* وَقُل للمؤمنات يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أبناء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نسائهن أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النساء وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أيها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (30ـ31).
* * *
معاني المفردات
{يَغُضُّوا}: الغض: إطباق الجفن على الجفن. ويقول في المجمع: أصل الغض: النقصان، يقال: غضّ من صوته ومن بصره، أي: نقص[1].
{بِخُمُرِهِنَّ }: الخُمُر: جمع خمار، وهو ما تغطي به المرأة رأسها.
{جُيُوبِهِنَّ }: جمع جيب، وهو فتحة في أعلى القميص، والمراد بها هنا: الصدور.
{بُعُولَتِهِنَّ}؛ البعولة: الأزواج.
{الإِرْبَةِ }: الحاجة.
* * *
من أحكام النظر.. والستر
من أهداف الإسلام، النفاذ إلى داخل الإنسان لتزكية روحه، وتربية شخصيته عبر تثبيت خط الاستقامة في حياته، بحيث يصبح التزامه بذاك الخط جزءاً من تركيبته الداخلية، فتتأتى عنه الأفعال بطريقةٍ عفوية، لا نتيجة حالات التزام طارئة تضغط على حركته تارةً، وتخفف عنه أخرى.. ولذلك كان التشريع خاضعاً لخطّةٍ متنوعة الأحكام، متعددة المواقع، هدفها الإحاطة بالإنسان من جميع أبعاده، ليستقيم له الخط، وتتعمق التجربة، فتتحرك الفكرة العامة من موقع القوّة..
لذا جعل علاقة الرجل بالمرأة، وعلاقتها به، محكومةً لقواعد دقيقة، تضبط الأوضاع المثيرة للشهوة، وحركة الغريزة في الجسد، كي تكون العلاقة بينهما طبيعية نظيفةً، تدخل ضمن النطاق الأخلاقي الواسع لنظافة الروح والجسد، على أساس مبدأ العفّة في شخصيتهما الذي يتشكّل تحت تأثير الممارسة التي تحرك الفكرة في الذات، وتحقق المناعة في الحركة..
وقد جاءت هذه الآيات لتتحدث عن موضوعين مهمّين في هذا المجال، وهما موضوع النظر، وإظهار الزينة، لما لهما من تأثير على إثارة المشاعر الغريزية، فإن النظرة قد تعكس الانجذاب الغريزي، فهي تغذي الخيال، وتثير الريبة، وتحرّك الأحاسيس في اتجاه الانحراف، لأن ما يراه الإنسان من صور قريبة من الحسّ، مثيرة لحرارة الغريزة، يتفاعل مع العوامل الخفية في الإنسان ذاته ويؤثر عليه سلباً..
أما إبداء الزينة، فإنه يهيىء الجو النفسي للإغراء الذاتي من قِبَل المرأة في ما يثيره في داخلها من شعور بالجانب الجماليّ في جسدها، وبالقيمة الكبيرة لما تملكه من مفاتن مثيرةٍ، تجتذب إعجاب الرجل، وتثير غرائزه، ما يجعل الجانب الأنثويّ في حياة المرأة، في موقع الأهمية الكبيرة من شخصيتها، إذ يؤمن لها الحصول على الموقع المميز في قلب الرجل، أو في حياته.. ويؤدي ذلك بها إلى مراقبة حالات الانفعال بجمالها، ليتحول ذلك لديها إلى حركةٍ متنوّعةٍ في وسائل الإغواء التي تلتقي بالإلحاح على الاهتمام بزينتها وتحريك غريزتها.. وبذلك تفقد الاهتمام بالجوانب الأخرى من شخصيتها، ما ينعكس سلباً على حياة المجتمع المسلم وعلى السلوك الأخلاقي العام.
* * *
اعتراضات وردود
وقد يرى البعض في أن ذلك كله معناه أن الإسلام يحاول اضطهاد المرأة بإلغائه شخصيتها الأنثوية ذات الأصالة والعمق فيها، وحدّ حريتها في التعبير عن تلك الشخصية بإظهار زينتها التي وهبها الله لها كنعمةٍ من نعمه الكبيرة على الإنسان، كما أنه يريد للرجل والمرأة أن يعيشا الكبت أمام مواقع الجمال في الحياة، ما يخلق لديهما عقدةً مستعصية، كما هي حال الإنسان أمام كثير من حالات الحرمان والكبت.
ويعتبر هذا البعض أن في منع إظهار الزينة وتحريم النظر إليها خوفاً غير مبرر من الجمال، الذي هو مظهر من مظاهر قدرة الله في خلقه، ونعمةٌ من نعمه على الإنسان والحياة. وقد يضيف هذا البعض، أن قيمة العفّة هي في عدم سقوط الإنسان أو انحرافه أمام مواقع الإثارة الغريزية التي يحملها الجمال الجسدي، بما يملكه من قوة أخلاقية تجعله يواجه ذلك كله بشكلٍ طبيعيّ.. وليست العفة في الهروب من تلك المواقع، لأن الهروب يعكس ضعفاً ذاتياً أمام عناصر الانحراف، ما يعني أن القوّة لا تتحرك إلا في الابتعاد عن المشكلة، لا في مواجهتها.. إن وجود القاعدة الأخلاقية في الإنسان، يعني أن يقترب من المحرقة ولا يحترق، لا أن يهرب بعيداً عنها..
والجواب عن ذلك كله: إن الإسلام لا يريد تحطيم شخصية المرأة الأنثوية، بل يحاول تأكيدها كحالةٍ إنسانيةٍ طبيعيةٍ، متصلة بامتداد الإنسان في الحياة، وتلبية حاجاته الغريزية في الجنس، كما هو الحال في الأكل والشرب ونحوهما، ما يفرض أكثر من حاجةٍ للإثارة لدى الرجل والمرأة معاً، على مستوى المشاعر الروحية التي يعيشها كل منهما في حركة العلاقة، واللذات الحسية التي يحصلان عليها في نداء الغريزة..
ولكن الإسلام يريد للجانب الأنثوي في المرأة ـ كما يريد للجانب الذكوري في الرجل ـ أن لا يلغي بقية جوانب شخصيتها ويجعل الحياة كلها في خدمته، فتتحرك المرأة في المجتمع بروحية الأنثى التي تبحث عن كل ما يثيرها أو تثيره، ويتحرك الرجل بروحية الذكر الذي يبحث عن الإثارة الجنسية فقط، بل يريد لهذا الجانب الخاص في كل منهما، أن يتحرك في دائرة العلاقة الزوجية، التي تقوم على الاختيار الحرّ للشريك المناسب سلوكياً وجمالياً ونفسياً، ليستطيع معه إشباع جوع الغريزة وإرضاء نزعة الأمومة والأبوّة في الإنسان، وتهيئة الجو المناسب للمشاركة الروحية العاطفية بأكثر من أسلوب.
إن الإسلام يطرح الزواج كقاعدة شرعية للعلاقات الجنسية، وللتنفيس عن حاجة الذكورة والأنوثة إلى الانفتاح على هذا الجانب المهمّ من الحياة، ويرى المجتمع النسائي ساحة تستطيع المرأة فيها أخذ حريتها في إبداء الزينة، وإرضاء نزعتها إلى إظهار جمالها الجسدي، والحصول من خلال ذلك على الإشباع الذاتي على هذا المستوى.. ولكنه لم يفسح المجال لها للانطلاق في الحياة العامة من موقعها الأنثوي، ولم يفسح للرجل الحرية في الاستمتاع الحرّ، ولو من ناحية النظر، بجمال المرأة، لأن ذلك يسيء إلى هدوء الحالة النفسية المتوازنة، ويجعل المسألة تتحوّل إلى ما يشبه الفوضى الجنسية في نهاية المطاف.
أما حكاية العقد النفسية الناشئة من ذلك، ومسألة التساؤل عن سبب الخوف من الجمال الذي هو مظهر القدرة والنعمة الإلهية، وقضية اعتبار العفة موقفاً في داخل التجربة لا في خارجها، فقد يكفي في مواجهتها الإشارة إلى نقطةٍ مهمَّة، وهي أن العقدة في الذات، تنشأ ـ غالباً ـ من الاستغراق العميق في الأشياء الممنوعة، أو المرغوبة غير المقدورة، ما يؤدّي إلى نوع من الصراع العنيف في الداخل، بين الشريعة أو الواقع، وبين الرغبة أو الحاجة، فتتحول الحالة الشعورية المعقدة الحائرة بين مواقع الشدّ والجذب، إلى عقدة نفسيَّة تخنق طمأنينة الذات.
من هنا، يمتنع تحويل التحريم إلى عقدة، وذلك عندما يقف الإنسان أمام المحرّمات الشرعية، فيعيش الجوّ الإيمانيّ الذي يفتح قلبه وعقله على الله في آفاق رضوانه، على أساس حاجة الإنسان إلى رعايته، كحاجته إليه في وجوده، وشعوره بمعرفته بما يصلحه وما يفسده أكثر من معرفته ذلك من نفسه.. ثم إن المقارنة الفكرية الإيمانية بين المصلحة العامة التي لا تبتعد في كثير من آفاقها عن صالح الإنسان الفرد، وبين المصلحة الخاصة التي قد تلبي رغبته من جهة، ولكنها تصدم كثيراً من الرغبات الأكثر أهمية وإلحاحاً من جهة أخرى، إن هذه المقارنة ستربطه بالواقع، وتفتح عينيه على النتائج السلبية والإيجابية لمواقع الاختيار فيه إلى أن يكوّن قناعةً نفسية، بالمضمون الاجتماعي المنفتح على الحياة، في موقع التحريم، فلا يترك الامتناع عنه إلاَّ بعض الآثار الخفيفة التي تمرّ في منطقة الحس والشعور مروراً عابراً.
أما حكاية الجمال وتفاعله في الذوق الإنساني الفني أو الجمالي، فلا تنحصر في هذه الدائرة الخاصة، حيث يختلط الذوق بالغريزة، والشعور الفني بالمشاعر الجنسية، الأمر الذي ينعكس سلباً على السلامة الاجتماعية على مستوى المبادىء العامة، ويجعل الحفاظ على القضية العامة مسؤولية التشريع في تخفيف عوامل الانحراف من ساحات الواقع، وتضييق الدوائر المعقّدة التي تسيء إلى النظام الأخلاقي العام.
إن الفن والجمال لا يمثلان قيمةً مطلقةً في نظر الإسلام، بل يمثلان موقعين من مواقع الإبداع الذي يطلّ بالإنسان على الله وعلى الحياة من القاعدة الروحية الأخلاقية، ولا يقترب به من الساحات التي تهتز فيها هذه القاعدة تماماً ككل الأشياء الحلوة في الحياة التي لا بد للإنسان من أن يتذوق حلاوتها المعنوية والمادية، بالطريقة التي لا تؤدي إلى سقوطه.
إن النظرة إلى الحياة لا يمكن أن تتحرك من مواقع المطلق في تقييم مفرداتها ومعطياتها، لأن الحياة لا تختزن المطلق في وجودها، بل تنطلق من خلال الحدود الموضوعة في أكثر من ساحة. لذا لا بد من مواجهة كل القضايا على الطريقة النسبية التي توازن بين حدّ وحدّ، في تأثيره الإيجابي والسلبي على القضايا الكبرى في الحياة. وعلى ضوء هذا، فإن على الفن أو الجمال، أو المفردات الأخرى التي يحتويها الوجود، أن تكون في خدمة النظام العام للإنسان، بدلاً من أن يكون النظام في خدمتها، لأن ذلك يسيء إلى تناسق الفن، وجمالية الجمال، في ما قد يؤدي إلى تشويهٍ للصورة، وقبحٍ في الواقع.
أما حكاية العفة في داخل التجربة لا في خارجها، فهو أمرٌ صحيح، ولكن لا بد من التربية التي تمنع الإنسان من السقوط في المحرقة، ومن إسقاط التجربة..
إن القيود الشرعية في دائرة العلاقات الإنسانية، تستهدف ـ دائماً ـ حماية الأجواء العامة من كل النتائج السلبية التي يمكن لها أن تحرك هذه العلاقات في دائرة الاهتزاز، لا من موقع الثبات، الأمر الذي يزيدها مناعة وقدرةً على مواجهة كل الضغوط القاسية التي تختزن الرياح المجنونة في أكثر من أفق. ولهذا فإنها تنطلق في اتجاه تعميق التجربة في داخل الذات، لا في اتجاه الهروب منها.
وهكذا نصل في ختام هذا العرض إلى نتيجة حاسمة، وهي أن الأحكام المتعلقة بالنظر، وبإبداء زينة المرأة، ترتبط ارتباطاً تاماً بالفكرة العامة التي يريد الإسلام أن يثيرها في حياة الإنسان من أجل علاقةٍ نظيفة، وشخصية زكيّة، وسلوك متوازن، في مجتمع الرجل والمرأة، فلا يجوز النظر إلى هذه التشريعات بشكل مجرد لفصلها عمّا ترتبط به عضوياً من أشياء، تماماً كما في أية دراسة علمية لأيّ حكم إسلامي شرعي، فإنه لا بد من التعرف على الدائرة التي يرتبط بها ويتحرك فيها من أجل فهم الخط العام الذي ينطلق فيه ويسير معه.
* * *
غض البصر
{قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ}. ذكر أكثر المفسرين أن الأمر بالغضّ هنا يعني ترك النظر رأساً، وربما احتمل البعض أن يكون كناية عن خفض النظر بحيث لا يملأ الناظر عينيه بما ينظر إليه، وذلك لما ذكره البعض من أن غض البصر هو كسره في مقابل ما ذكره آخرون من أنه عبارة عن إطباق الجفن على الجفن، ما يمنع النظر رأساً. وقد يوحي الحديث الوارد في سبب النزول بالمعنى المشهور، فقد جاء في الكافي بإسناده عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر (ع) قال: استقبل شابٌّ من الأنصار امرأةً بالمدينة، وكان النساء يتقنّعن خلف آذانهن، فنظر إليها وهي مقبلة، فلما جازت نظر إليها ودخل في زقاق قد سمّاه ببني فلان، فجعل ينظر خلفها، واعترض وجهه عظمٌ في الحائط أو زجاجة، فشق وجهه، فلما مضت المرأة نظر فإذا الدماء تسيل على صدره وثوبه، فقال: والله لآتين رسول الله (ص) ولأخبرنّه. قال: فأتاه، فلما رآه رسول الله (ص) قال له: ما هذا؟ فأخبره، فهبط جبرئيل بهذه الآية: {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}[2].
ولكن قد يخطر في الذهن أن جوّ القصة يوحي بأن الشاب كان ينظر بملء عينيه بطريقة مشبعةٍ بالاشتهاء والالتذاذ، مما لا يقتضي أن يكون المطلوب هو ترك النظر، بل خفض البصر وكسره، بحيث لا يمثل التحديقة الواسعة التي تدرس تفاصيل الجسد ومواضع الفتنة فيه، ويكون معنى الآية كنايةً عن ترك النظر بشهوة، أو بامتلاء..
وقد نستطيع تأكيد هذا الوجه بالتعمّق في مدلول كلمة "مِنْ" الظاهرة في التبعيض، ما يجعل المطلوب غضّ بعض البصر لا جميعه، وذلك لأن مقابلة الجمع بالجمع في قوله: {يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ} تقتضي التوزيع على الأفراد، بحيث يكون المعنى: ليغض كل واحدٍ من بصره، لا بصره كلّه. وقد ذكر بعضهم، أن مفاد التبعيض يتصل بموضوع النظر، لا بطبيعته، أي: غضّ النظر عما يحرم والاقتصار على ما يحلّ، ولكنه خلاف الظاهر، لأن المتبادر من كلمة البصر العين، وبذلك يكون التبعيض متصلاً بها، لا بما تتوجه إليه أو تنظر إليه، وجوّز الأخفش ـ في ما نقله صاحب الكشاف ـ أن تكون مزيدة، وأباه سيبويه[3]. ولعله هو الصحيح، لأن الزيادة لا دليل عليها..
وذكر صاحب تفسير الميزان، أن كلمة (من) لابتداء الغاية لا مزيدة، ولا للجنس، ولا للتبعيض، كما قال بكل قائل، والمعنى: يأتوا بالغض آخذاً من أبصارهم[4]. وهو خلاف الظاهر، لأن الآية مسوقة للحديث عن طبيعة النظر لا عن الابتداء والغاية.
وعلى ضوء ذلك، فإن الآية ظاهرة في ترك تعمّد النظر إلى ما يواجهه الإنسان من الأشياء المحرّمة عليه، ما يجعله لا يواجه الأشياء البارزة أمامه منها ومما يلتقي بها بطريق الصدفة، بالتحديقة المملوءة، بل بكسر النظر عنها، والانصراف عن التعمق في تفاصيلها.
* * *
خلافٌ في مدلول الآية
وهناك خلاف آخر في مدلول الآية، وهو في ظهورها في إطلاق المتعلّق، حيث يحرم النظر إلى أجساد المؤمنات بشكل مطلق يشمل كل أجزاء الجسد، لأن حذف المتعلق يفيد العموم، لا سيّما إذا لاحظنا أن إرادة طبيعة المبدأ في نفسه لا تتفق مع ورود الفقرة في مقام الإفادة لحركة التكليف في أفعال المؤمنين، إذ لا فائدة من الحديث عن وجوب الغض، بعيداً عن الحديث عن المتعلق..
وقد يرى هؤلاء أنّ توجه الأمر بالغضّ للمؤمنين هنا، وللمؤمنات هناك، يجعل الدلالة واضحة بأن على المؤمنين أن يغضوا أبصارهم عن المؤمنات، وعلى المؤمنات أن يغضضن أبصارهن عن المؤمنين، فيكون المتعلق مذكوراً من خلال المقابلة، بحيث يفيد العموم في الطرفين.
ولكن هناك وجهة نظر أخرى، وهي أن من الممكن أن تكون الآية واردةً في تقرير المبدأ كمدخل للحديث عن التشريع، على أن يأتي الحديث عن التفاصيل في مواقع أخرى من الكتاب، باستيحاء ذلك من حرمة إبداء الزينة مثلاً، باعتبار أن ما حرم على المرأة إبداؤه، يحرم على الرجال النظر إليه، أو من خلال ظهور ذلك في كونه من حرمات المرأة التي لا يجوز التعدي عليها من قِبَل الرجال، أو من السنّة من خلال ما فصله النبي محمد (ص) من المواضع التي يحرم النظر إليها من جسد المرأة، أو من جسد الرجل، ولعل هذا ما أشار إليه بعض المفسرين في قولهم بظهورها في وجوب الغض عما يحرم والاقتصار بالنظر على ما يحلّ[5]، وذلك بلحاظ استفادة ذلك من الأدلة الخاصة، وبذلك لا يكون حذف المتعلق مفيداً للعموم، كما أنّ المقابلة بين المؤمنين والمؤمنات في التكليف، لا يظهر منه أن كل واحدٍ من الفريقين هو المقصود بموضع النظر مطلقاً، وربما جاءت بعض الأخبار الدالّة على أن متعلق وجوب الغضّ هو الفروج، كما ورد في الكافي في روايته عن الإمام جعفر الصادق (ع) من قوله ـ في مقام التفسير: ـ فنهاهم أن ينظروا إلى عوراتهم وأن ينظر المرء إلى فرج أخيه[6]..
وقد يتأيد ذلك بأن ذكر المتعلق في الجملة الثانية، يدلّ على أنه هو المقصود من الجملة الأولى التي حذف فيها المتعلق..
* * *
حفظ الفروج
{وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } الظاهر من حفظ الفرج هو حفظه من الزنى، ولكن وردت الأحاديث المتفرقة بأن المراد به هنا هو حفظه من النظر، كما جاء الحديث عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: كل شيء في القرآن من حفظ الفرج فهو من الزنى إلا هذه الآية، فإنها من النظر[7]. وروي ذلك عن ابن زيد ـ في ما نقله عنه صاحب الكشاف ـ قال: كل ما في القرآن من حفظ الفرج فهو عن الزنى إلا هذا فإنه أراد به الاستتار[8].
وهو أمر قريب، توحي به أجواء هذا الفصل من السورة، الذي يدور الحديث فيه عن قضايا الستر والنظر، في ما يأتي من تفاصيل الستر الذي أراده الله للمرأة، ما يجعل المسألة في هذا المجال غير بعيدة عن ذلك، فتكون هذه الآية وما بعدها بياناً لما يجب أن يغضّ البصر عنه، وما يجب أن يستره عن النظر، لا سيّما إذا عرفنا أن حفظ العورة عن النظر واجب على الرجل والمرأة، سواء كان الناظر رجلاً أو امرأةً، كما أن النظر إلى العورة محرّم على الرجل والمرأة للمماثل ولغيره؛ والله العالم.
{ذلِكَ أَزْكَى لَهُمْ }، لأن ذلك ما يحفظ لهم طهارة الروح والجسد، بالابتعاد عن العوامل المثيرة للغريزة التي قد تؤدي إلى الانحراف، لأن الاقتراب من عناصر الاحتراق قد يدفع في كثير من الحالات إلى الوقوع في المحرقة. {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } في ما يقومون به من أعمال الانحراف، وعلى هذا الأساس، فإن عليهم أن يستشعروا رقابة الله عليهم، حتى لا يشعروا بالأمن إذا كانوا في غفلةٍ عن أعين الناس، لأن عين الله لا تغيب عن شيء، ولا يغيب عنها شيء.
* * *
مواضع الستر
{وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} فلا يملأن عيونهن من النظر إلى ما يحرم النظر إليه، ولا يتعمّدنه {وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } من الزنى، أو من النظر، فيسترنها عن عيون الناظرين أو الناظرات.
وقد يثار الحديث في هذه الفقرة من الآية حول ظهورها في حرمة نظر النساء إلى الرجال بالتقريب الذي جرى الحديث فيه عن نظر الرجال إلى النساء، وقد يؤكد ذلك الحديث المعروف عن الرسول (ص) في قصة ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كنت عند النبي (ص) وعنده ميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أُمرنا بالحجاب، فدخل علينا، فقال: احتجبا، فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى لا يبصرنا؟ قال: أفعمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه؟[9]. وقد تذكر هنا بعض الأحاديث المؤيدّة مقابل الأحاديث المعارضة، وذلك في قصة فاطمة بنت قيس، التي رواها مسلم وأبو داود، وفيها أنه لما طلّقها زوجها أمرها رسول الله (ص) أن تعتدّ في بيت أم شريك الأنصارية، ثم قال: إن تلك المرأة يغشاها أصحابي، اعتدّي في بيت أم مكتوم، فإنه رجل أعمى، تضعين ثيابك..
وقد حاول البعض أن يجمع بين المسألتين، بأن قال: ليست الشدة في نظر النساء إلى الرجال الأجانب مثل الشدة في نظر الرجال إلى النساء الأجنبيات، فلا يحلّ لهن أن يقصدن النظر إليهم وجهاً لوجه في المجالس، ولكن يحلّ لهن أن ينظرن إليهم وهم يمشون في الطرق، أو يلعبون ألعاباً غير محرّمة من البعيد، بل لا حرج أن ينظرن إليهم في البيوت عند الحاجات الحقيقية.
ولكننا نلاحظ أن السياق واحد في الأمر المتوجه إلى المؤمنين، وفي الأمر المتوجّه إلى المؤمنات، ما يوحي بأن الحكم وارد في الموضوع من ناحية المبدأ بعيداً عن التفاصيل، ليترك ذلك لنصوصٍ أخرى، أو من ناحية المعنى الداخلي الذي يختزنه النظر العميق في التحديق الذي يوحي بالإثارة، فيكون الأمر وارداً في اختصار النظر ليكون حالةً طبيعيةً طارئة، لا حالةً مقصودةً مثيرة، أو من ناحية المورد الخاص وهو الفرج، في ما تقدم من الاحتمال.
وقد نستطيع استيحاء هذا المعنى من السيرة المستمرة بين المسلمين في عدم احتجاب الرجال عن النساء، وعدم نهي النساء اللاتي ينظرن إلى الرجال بشكل طبيعيّ في الحياة العامة والخاصة، ولو كان ذلك محرّماً بشكل بارز، لكانت المسألة من المسائل الملحّة في المجتمع الإسلامي التي يكثر السؤال عنها من ناحية التكليف الشرعي، مع أننا لم نجد لذلك أيّ أثر كبير في الفقه الإسلامي في صدر الإسلام وفيما بعده.
* * *
حرمة إبداء الزينة للنساء
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ } ذكر بعضهم أن المقصود بالزينة ـ هنا ـ مواضع الزينة، لأن نفس ما يتزين به كالقرط والسوار لا يحرم إبداؤه، وبذلك يكون النهي عن إظهار الزينة من باب الكناية عن إظهار مواضعها، لأن ستر الزينة لا ينفك عن ستر مواضعها.. وقد ذكر صاحب الكشاف في تقريب ذلك قال: «وذكر الزينة دون مواقعها، للمبالغة في الأمر بالتصوّن والتستر، لأن هذه الزينة واقعة على مواضع من الجسد لا يحلّ النظر إليها لغير هؤلاء، وهي الذراع والساق والعضد والعنق والرأس والصدر والأذن، فنهى عن إبداء الزينة نفسها، ليعلم أنَّ النظر إذا لم يحلّ إليها لملابستها تلك المواقع، بدليل أنّ النظر إليها غير ملابسة لها، لا مقال في حله، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكناً في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، شاهداً على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترها، ويتّقين في الكشف عنها»... ويتابع ويقول: «فإن قلت: ما المراد بموقع الزينة، ذلك العضو كله، أم المقلد الذي تلابسه الزينة منه؟ قلت: الصحيح أنه العضو كله كما فسرت مواقع الزينة الخفية، وكذلك مواقع الزينة الظاهرة: الوجه موقع الكحل في عينيه، والخضاب بالوسمة في حاجبيه وشاربيـه، والغمرة في خديه، والكف والقدم موقعا الخاتم، والفتخة والخضاب بالحناء»[10].
وقد يذكر البعض أن المراد بالزينة معناها الظاهر، وهو ما تزين به من حليّ وملابس ونحوهما مما تتزين به النساء عامة في رؤوسهن ووجوههن وغيرها من أعضاء أجسادهن، مما يعبر عنه في هذا الزمان بكلمة التجميل عامة.. وبذلك تكون الآية ظاهرةً في النهي عن التبرج الذي تبدي المرأة به كامل زينتها.
ولعل هذا الاحتمال هو الذي يظهر من طبيعة الكلمة في مدلولها اللغوي، الذي يعني ما تتزين به المرأة من الأشياء الخارجية.. ولا ينافي ذلك أن الزينة مما يجوز إظهاره في نفسه، لأن المقصود به هو الزينة في مكانها من الجسد، لا في مكان آخر.. ولكن هناك حديثاً عن الإمام جعفر الصادق (ع) رواه الكافي بإسناده عن الفضيل، قال: سألت أبا عبد الله (ع) عن الذراعين من المرأة، أهما من الزينة التي قال الله تبارك وتعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ }؟ قال: نعم، وما دون الخمار من الزينة، وما دون السوارين[11]، ما يؤكد أن المراد بها مواضع الزينة.
* * *
الزينة المسموح بها
{إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } الظاهر أن المراد منه الوجه والكفان والقدمان، وذلك في ما جاءت به الرواية عن الإمام جعفر الصادق (ع) قال: قلت له: ما يحل للرجل أن يرى من المرأة إذا لم يكن محرماً، قال: الوجه والكفان والقدمان[12].. وقد يظهر من بعض الروايات عنه، في قول الله عز وجل: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال: الزينة الظاهرة: الكحل والخاتم[13]، وفي بعضها الخاتم والفتخة، وهي القلب.. ما يوحي بالمعنى المتقدم وهو إرادة الزينة نفسها في موقعها لا موقعها فحسب.
وقد جاء في بعض التفاسير أن المراد بقوله: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي: ما كان ظاهراً لا يمكن إخفاؤه، أو ظهر بدون قصد الإظهار من هذه الزينة. وهذه الجملة تدل على أن النساء لا يجوز لهن أن يتعمّدن إظهار هذه الزينة، غير أن ما يظهر منها بدون قصد منهن، كأن يخف الرداء لهبوب الريح وتتكشف بعض الزينة مثلاً، أو كان ظاهراً بنفسه لا يمكن إخفاؤه كالرداء الذي تجلل به النساء ملابسهن، لأنه لا يمكن إخفاؤه، وهو مما يستجلب النظر لكونه على بدن المرأة على كل حال؛ فلا مؤاخذة عليه من الله تعالى، وهذا هو المعنى الذي بيّنه عبد الله بن مسعود، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي لهذه الآية. ويتابع هذا المفسر القول: وعلى العكس من ذلك قول غيرهم من المفسّرين: إن معنى {مَا ظَهَرَ } ما يظهره الإنسان على العادة الجارية، ثم هم يدخلون فيه وجه المرأة وكفّيها بكل ما عليها من زينة، أي أنه يصحّ عندهم أن تزين المرأة وجهها بالكحل والمسحق والصبغ، ويديها بالحنّاء والخاتم والحلق والأسورة ثم تمشي في الناس كاشفة وجهها وكفيها.. وهذا المعنى للاية مرويّ عن عبد الله بن عباس وتلامذته، وإليه ذهبت طائفة كبيرة من فقهاء الحنفية..
ويعلّق هذا المفسر على ذلك فيقول: أمّا نحن، فنكاد نعجز عن أن نفهم بأي قاعدةٍ من قواعد اللغة يجوز أن يكون معنى {مَا ظَهَرَ مِنْهَا}: ما يظهره الإنسان بقصده، فهذا واضح لا يكاد يخفى على أحد، والظاهر من الآية أن القرآن ينهى عن إبداء الزينة ويرخّص فيما إذا ظهرت من غير قصد، فالتوسع في هذه الرخصة إلى حدّ إظهارها عمداً مخالف للقرآن ومخالف للروايات، التي يثبت بها أن النساء في عهد النبي ما كنّ يبرزن إلى الأجانب سافرات الوجوه، وأن الأمر بالحجاب كان شاملاً للوجه، وكان النقاب قد جعل جزءاً من لباس النساء إلا في الإحرام».
والظاهر أن هذا النوع من الاجتهاد في فهم القرآن في أحكامه التشريعية، خاضع للواقع الذي يعيشه المفسّر في محيطه في طريقة الحجاب، مما يجعل هذه الصورة قريبة إلى ذوقه وفهمه، فيؤدي به ذلك إلى أن يفهم القرآن على هذا الأساس.. وربما كان ذلك هو المسؤول عن كثير من فتاوى الفقهاء في وجوب ستر الوجه والكفين. ونحن نريد أن نناقش هذا الفهم من خلال التركيز على عبارة: {إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } التي استفاد منها هذا المفسر الظهور الطارىء العفوي الذي لا يكون عن اختيار شخصي للإنسان.. فقد نلاحظ أن هذا لا يؤدي إلى النتيجة التي أرادها، لأن ظهور الشيء بنفسه قد يكون من خلال طبيعة الوضع الاجتماعي الذي درج عليه الناس في حياتهم، بحيث يمارسونه بطريقة عفويّة ناشئةٍ مما جرت العادة والجبلَّة على ظهوره، والأصل فيه الظهور، كما يقول صاحب تفسير الكشاف[14].
ولم يثبت من الروايات الأمر بالنقاب بحيث يكون ساتراً للوجه، ولعلّ الإشارة إلى ضرب الخمُر على الجيوب، في ما يأتي من الآية، يوحي بأن الوجه لا يطلب فيه الستر، لأنه لو كان كذلك لكان الأولى بالذكر، باعتبار أن إظهاره من الأمور التي لا يقتصر فيها الأمر على جماعة معينة من الناس في الصدر الأول من الإسلام، بينما كان كشف الصدور شاملاً لكل العصور.
وقد نستطيع استيحاء جواز كشف الوجه والكفين مطلقاً من خلال التأكيد على حرمة سترهما في حال الإحرام، لأنه الحالة التي قد يتأكد فيها الستر إذا كان واجباً، فالكشف لا يتناسب مع طبيعة الأجواء الطاهرة التي يُراد للحاج أن يبتعد فيها عن مواقع الإغراء، ما يجعلنا نستوحي أن هذا الأمر الجائز بطبعه في الوضع العام، أصبح واجباً في حال الإحرام كي تعاني المرأة من حرارة الشمس في وجهها، ما يعانيه الرجل من حرارتها في رأسه، في ما ورد به الأثر: «إن إحرام المرأة في وجهها وإحرام الرجل في رأسه»[15].
* * *
ضرب الخمر على الجيوب
{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ }، أي: يلقين بخمرهن ـ وهي أغطية الرأس ـ على جيوبهن، والجيب ـ في ما قيل ـ: فتحة القميص، والمراد بها الصدر من باب إطلاق اسم الحال على المحلّ. وعلى ضوء ذلك، فإنّ واجب النساء ستر صدورهن ونحورهن بالغطاء الذي يستر رؤوسهن.. وقد ذكر أن جيوب النساء في الجاهلية كانت واسعة تبدو منها نحورهن وصدورهن وما حواليها، وكنَّ يُسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى مكشوفةً، فأمرن أن يُسدلنها من قدامهن حتى يغطينها[16].
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} أي: أزواجهن، فللزوج أن يرى من امرأته ما شاء، {أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} من الآباء والأجداد للأب وللأم، لصدق الأب على الجميع {أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ} ويشمل الأولاد وأولادهم.
{أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ} ويشمل أحفادهنَّ، {أَوْ إِخْوَانِهِنَّ} من الأب والأم أو من أحدهما {أَوْ بَنِى إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} الأولاد والأحفاد.
أما جواز إبداء الزينة لهؤلاء، فلأن العلاقة التي تربط المرأة بهم علاقة ذات طابع خاص، محكومة للحواجز النفسية التي تمنعهم من التفكير الجنسي والانجذاب الغريزي تجاهها بسبب الأحكام الشرعية والتقاليد الاجتماعية والقيم الإنسانية العميقة في وعي الناس التي تجعلهم من المحارم، ما يجعل الانجذاب الجنسي إليهم عملية انحراف بعيدة عن المألوف وعن الوضع الطبيعي للعلاقات الإنسانية.
لكنّ هذا الموضوع قد يخضع لكثير من الاهتزازات النفسية التي تدفع الإنسان إلى الانحراف والشذوذ، وتحمله على الاعتداء على ابنته أو اخته أو ابنة أخته أو أخيه، بسبب التوجيهات اللاأخلاقية التي تثير الغريزة في الاتجاه المتمرد على الحرام، أو بسبب الأفلام الخلاعية، أو القصص المثيرة، ونحو ذلك مما أصبحنا نسمع الكثير منه في عالمنا المعاصر.
ولذلك، فلا بد من الرقابة الدائمة على حركة العلاقات، وضبط الأجواء المثيرة، والعمل على إيجاد الضوابط الخارجية بالإضافة إلى الضوابط الداخلية في عمق الذات.. فقد دلّت التجارب على أن الاعتماد على التقاليد في مثل هذه الأمور لا يحقق أيّة ضمانةٍ عاصمةٍ، فمن السهل تفتيت القيم الروحية والأخلاقية عند وجود اتجاه تربوي مضادّ لها بالوسائل المنحرفة المتنوعة.
{أَوْ نِسَآئِهِنَّ} اختلف في المراد بالنساء هنا، هل المراد النساء المسلمات، فلا يجوز للمرأة المسلمة أن تكشف زينتها على غير المسلمة، فيجب عليها التستر منها كما تتستر أمام الرجال الأجانب، أم أن المراد جميع النساء، وتكون الإضافة بلحاظ الانسجام مع طريقة التعبير في ما قبلها؟! وقد جاء في أحاديث أهل البيت (ع) ما يوحي بكراهة إبداء الزينة لغير المسلمات من النساء، فقد جاء في كتاب الفقيه: روى حفص بن البختري عن أبي عبد الله ـ جعفر الصادق(ع) ـ قال: لا ينبغي للمرأة أن تنكشف بين يدي اليهودية والنصرانية، فإنهن يصفن ذلك لأزواجهن[17]ّ. وتحقيق ذلك موكول إلى كتب الفقه.
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانهُنَّ}من الإماء والجواري، وقيل: إنه يشمل العبيد، وروي ذلك عن الإمام جعفر الصادق (ع)، والمسألة موضع خلاف فقهي لدى فقهاء المسلمين.. {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ} وهم الأشخاص الذين لا يشتهون النساء، من الخدم والأجراء، ممن تقدم بهم السنّ، أو كان لديهم عجز جسدي يعطل قدرتهم على الجنس، أو كان لديهم ضعف عقليّ يجعلهم في حالة اللاّوعي المتوازن، فإن إبداء الزينة لهم لا يسبب أيّة إثارةٍ، ولا يسيء إلى عفّة المرأة.
{أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} وهم الأطفال غير المميزين الذين لم يعرفوا طبيعة وظائف عورات النساء من الناحية الغريزية، ولم يفرقوا بينها وبين بقية أعضاء الجسم، وقيل: إن ذلك كناية عن عدم البلوغ، وذلك بأن يراد من قوله: {لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَآءِ} أي: لم يقووا ولم يظهروا، من الظهور بمعنى الغلبة على أمور يسوء التصريح بها للنساء، كالجماع ونحوه.
{وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} كالخلخال والعقد والقرط والسوار، وقد نستوحي من ذلك وجوب الابتعاد عمّا يُثير الرجال ويدفعهم إلى التفكير بالعلاقات المحرمة.
{وَتُوبُواْ إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّها الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} لتصلحوا ما فسد من أعمالكم، ولتبتعدوا عن عوامل الانحراف، ولتنطلقوا في خط الإيمان المتحرك على أساس الأخلاق القرآنية، لأن ذلك يهيىء لكم أسباب الفلاح في الدنيا والآخرة، فإن التوبة تمثل الندم على ما حدث في الماضي من انحرافات، والعزم على تصحيح العمل في المستقبل.
ـــــــــــــــــــــ
(1) مجمع البيان، ج:7، ص:216.
(2) الكافي، ج:5، ص:521، رواية:5.
(3) تفسير الكشاف، ج:3، ص:60.
(4) تفسير الميزان، ج:15، ص:111.
(5) تفسير الكشاف، ج:3، ص:60.
(6) الكافي، ج:2، ص:35، رواية:1.
(7) (م.ن)، ج:2، ص:36، رواية:1.
(8) تفسير الكشاف، ج:3، ص:60.
(9) تفسير الكشاف، ج:3، ص:61.
(10)تفسير الكشاف، ج:3، ص:61.
(11)الكافي، ج:5، ص:520، رواية:1.
(12)الكافي، ج:5، ص:521، رواية:2.
(13)(م.ن)، ج:5، ص:521، رواية:3.
(14)جاء في الكشاف: فإن قلت: لم سومح مطلقاً في الزينة الظاهرة؟ قلت: لأن سترها فيه حرج، فإن المرأة لا تجد بُداً من م زاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات وظهور قدميها وخاصة الفقيرات منهن. (تفسير الكشاف، ج:3، ص:61).
(15)الكافي، ج:4، ص:345، رواية:7.
(16)تفسير الكشاف، ج:3، ص:62.
(17)الفقيه، ج:3، باب:2، ص:561، رواية:4928.
تفسير القرآن