تفسير القرآن
النور / من الآية 33 إلى الآية 34

 من الآية 33 الى الآية 34

الآيتـان

{وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الذي آتَلكُمْ وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* وَلَقَدْ أنزلنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مبينات وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} (33ـ34).

* * *

التزام العفة عند تعذّر النكاح

في الآية الأولى حديث عن نقاط ثلاث:

النقطة الأولى: في قوله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.

وهي التي تعالج الحالات التي يعيش فيها الناس ظروفاً صعبة تمنعهم من الزواج، لأنه يتوقف على بعض الإمكانات المادية التي لا يملكونها أو على بعض الشروط التي لا تتوفر لديهم.. فكيف يتصرفون؛ هل ينحرفون عن خط العفة، فيلجأون إلى العلاقات غير الشرعية، أو يلتزمون بالعفة في معاناةٍ نفسيةٍ شاقةٍ ويصبرون على نداء الغريزة في أجسادهم، حتى تتحسن الظروف وتتوفر الإمكانات؟.

إن الآية تضع الالتزام بالعفّة خياراً وحيداً لهم، لأن الزنى قد يوفر لهم إرواء شهواتهم، وإشباع غرائزهم، ولكنه يخلق لهم مشاكل كثيرة على أكثر من مستوى، ما يسيء إلى إنسانيتهم الصافية المنفتحة على الله، بينما تمثل العفة الغنى الروحي الذي يحس فيه الإنسان بقوّة شخصيته، كلما استطاع أن يواجه النوازع الذاتية المنحرفة، بالإيمان القويّ، والتقوى الصلبة.. فليصبروا {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}، في ما يهيّئه من أسباب الرزق التي تساعدهم على الزواج.

وعلى ضوء ذلك، توحي الآية القرآنية بأن الفقر ليس مبرّراً شرعياً للانحراف، فلا بد للفقير من الصبر حتى تزول الظروف الخانقة التي تحاصره وتمنعه من الزواج.

* * *

مكاتبة العبيد والإماء

النقطة الثانية: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِى آتاكُمْ}.

وهذه وسيلة من الوسائل التي شرعها الإسلام لتحرير الأرقاء من العبيد والإماء وهي المكاتبة، وهي عبارة عن عقد بين المملوك ومالكه يقضي بأن يدفع المملوك للمالك مقداراً من المال في وقت معين، قسطاً واحداً أو أقساطاً، فإذا أدّاها كاملة تحرّر بشكل كامل، وإن أدى منه بعضاً تحرر بقدره إن كان العقد غير مشروط بتأدية الجميع، وإلا انتظر إكمال الجميع في الحكم بحريته.

وقد أراد الإسلام للمالكين أن يستجيبوا للعبيد إذا أرادوا ذلك، تأكيداً لإرادة الحرية في شخصية العبد، وتسهيلاً لحركة الحرية في حياته، وهذا هو قوله تعالى في الآية: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، وربما أوجب بعض الفقهاء الاستجابة لهم في هذا الطلب، على أساس ظهور الأمر بالوجوب، وقد أوكل الله ذلك إلى قناعة السيد بأن العبد يملك الخير في اتفاقه هذا، ولم يذكر كذلك مقياساً معيناً، ما يوحي بأن الأمر وارد على سبيل الإرشاد، لا على سبيل الإلزام.

«والمراد بالخير ـ في ما ذكره البعض ـ ثلاثة أمور، الأول: أن تكون بالعبد الأهلية لأداء مال المكاتبة بالكسب والحرفة، كما روى أبو داود في المراسيل عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول الله (ص): {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً}، قال: «إن علمتم فيهم حرفة، ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس». الثاني: أن يكون من حيث الأمانة جديراً بأن يعاهد سيّده ثقة بصدق قوله، فإنه إذا لم يكن كذلك وكاتبه سيده، فلا يكون منه إلا أن يستريح من خدمة سيده وينفق كل ما يكسب في الوقت نفسه. والثالث: أن لا يكون السيد يعرف فيه من النوازع الخلقية السيئة، أو عواطف العداوة للإسلام والمسلمين، ما يخاف، على أساسه، أن تكون حريته خطراً على المجتمع الإسلامي. وبكلمةٍ أخرى، يجب أن يكون العبد حيث يرجى منه أن يكون بعد حريته فرداً صالحاً من أفراد المجتمع الإسلامي، لا عدوّاً متربصاً له الدوائر. والذي ينبغي أن يلاحظ ـ بصفةٍ خاصة ـ في صدد هذا البحث، أن أغلبية الأرقّاء في ذلك الزمان كانت تتألف من أسارى الحرب، فكانت الحاجة شديدة جداً إلى الاحتياط والدقّة في أمرهم»[1].

وقد جاء في بعض كلمات الإمام الصادق(ع) في قول الله عز وجل: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمُتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قال: الخير أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويكون بيده عمل يكتسب به أو يكون له حرفة[2]. وربما كانت كلمة الخير تختزن أكثر من معنى يتصل بسلوكه في الحياة العامة.

{وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ} ولعله إشارة إلى إيتائهم من الزكاة المفروضة، فقد جعل الله أحد مصارفها في الرقّ، وربما كان ذلك إشارة إلى إسقاط شيء من مال المكاتبة، أو مساعدتهم بالتبرع لهم والتصدق عليهم، فإن ذلك يعجّل في حريتهم. والحديث في التفاصيل موكول إلى كتب الفقه.

* * *

الحضّ على عدم إكراه الإماء على البغاء

النقطة الثالثة: {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَآءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} فقد جاء في تفسير القمي، قال: «كانت العرب وقريش يشترون الإماء ويضعون عليهن الضريبة الثقيلة ويقولون: اذهبن وازنين واكتسبن، فنهاهم الله عن ذلك»[3].

ولم يكن التعليق على إرادة التحصن وارداً مورد الشرط الذي يوحي بالرخصة في الإكراه على تقدير عدم إرادة التحصن، بل هو وارد مورد بيان الموضوع للإكراه، كما تقول: «إن رزقت ولداً فربّه تربية صالحة، فإنه لا معنى لأن يستفاد منه: إن لم ترزق ولداً فلا تربّه، لأنه يكون من قبيل انتفاء الشيء بانتفاء موضوعه.. ومقامنا من هذا القبيل، فإنه لا مجال للإكراه على تقدير عدم إرادة التحصن، لأن الإكراه يمثل إجبار الفتيات على الزنى مع رغبتهن في العفة، فمع عدم رغبتهن في ذلك، فإن الطلب لا يكون منسجماً مع الرغبة.. وربما كان الوجه في هذا التعليق الإيحاء للموالي، بأن الفتيات إذا أردن التحصن، فإنهم أولى بإرادته.

{لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} في ما تريدون الحصول عليه من أموال أو مواقع عامة أو خاصة في المراكز الاجتماعية والسياسية، مما لا يدوم لكم مهما امتدّ بكم العمر، لأنكم ستفارقون ذلك عندما تموتون، أو قبل أن تموتوا، ثم تواجهون مسؤوليته عندما تبعثون، فهو مجرد عرض زائل لا امتداد له ولا ثبات.

{وَمَن يُكْرِههُنَّ فِإِنَّ اللَّهِ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} سواء في ذلك النساء المكرهات على الزنى، أو الذين أكرهوهنّ عليه، لأن الله لم يحمِّل الإنسان المكره مسؤولية الفعل الذي أكره عليه، فالفعل الذي يقع في دائرة الحساب، هو الفعل الذي يتحرك من موقع الوعي والإرادة، فإذا انتفت الإرادة الحرّة، انتفى العقاب. جاء عن رسول الله (ص) في الحديث أنه قال: «رفع عن أمتي... ما استكرهوا عليه..»[4]، وكذلك إذا تاب الذين أكرهوهنّ وأصلحوا، فإن الله يغفر للجميع، ويشملهم برحمته، بمعنى أنه لا يعاقبهم ولا يحمّلهم نتائج ذلك الفعل الشنيع.

وإذا كانت الآية قد تناولت الإماء من النساء، فإن أجواءها تطال المبدأ الذي يشمل الحرائر اللاتي يردن العفّة، في الوقت الذي تضغط فيه الظروف عليهن كي يخضعن لإرادة بعض الرجال الذين يدفعونهن لبيع أجسادهنّ والاتجار بها للانتفاع بما يكسبنه من مالٍ من وراء ذلك.

ومن خلال ذلك، نستوحي أن الله يندد بهذا الأسلوب القذر من الاستغلال، حيث يستغل البعض ظروف بعض النساء الصعبة التي تحملهن على اللجوء إلى هؤلاء، فيعمدون للاستفادة من ذلك وإيقاعهن في حبائلهم، ثم دفعهن إلى الخضوع لأطماعهم الخاصة.. وهناك من يعملون على إجراء عقد زواج مع بعض الفتيات الباحثات عن حياة مستقرة، ثم وبعد وقوع الفريسة في حبائلهم يتاجرون بأجساد أولئك الفتيات في سوق الزنى، لدى الباحثين عن اللذة، فلا تملك الفتاة أمام ضغوط الرجل في هذه الحال أن تريد أو لا تريد، أو أن تتخلص من ذلك..

* * *

الآيات موعظة للمتقين

{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} في ما أراده الله للناس أن يهتدوا به من مفاهيم عامة تفتح قلب الإنسان وعقله على الله وعلى ما يوحيه في رسالاته، مما يرتفع به إلى المستوى الأعلى في الفكر والروح والحياة.. {وَمَثَلاً مِّنَ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} في ما عاشوه من تجارب فاشلة أو ناجحة، مما يمكن أن تستفيدوا منه في ما تواجهونه من مشاكل الحياة في مسائل الإيمان والكفر، والنجاح والفشل، والربح والخسارة، فتأخذون منها ما يوفّر عليكم الوقوع في تجارب مماثلةٍ، قد تجهدكم، وقد تتعبكم، وقد تسقطكم، ولكن الله يعطيكم الفكرة المنطلقة من تجارب الآخرين ناضجةً قويّةً دون جهدٍ ودون مشكلة.. {وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ} في ما تفتح قلوبهم على الحق النازل من الله، المنطلق من ينابيع الروح، المحلّق في آفاق الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين بها، إذا أحبّوه وأطاعوه وعبدوه وخضعوا له.. وتلك هي مهمّة الموعظة في كيان الإنسان التقي الذي تلتقي الموعظة بقلبه، كما يلتقي المطر بالأرض الطيبة التي تنفتح من خلاله على البذور الطيِّبة، أما الإنسان الذي أغلق قلبه عن الحق، فإنه كالأرض المجدبة التي لا تنفتح بذورها للمطر، فلا يؤثر فيها شيئاً إلا بقدر ما يصيبها بالبلل.

ــــــــــــــــــــ

(1) المودودي، أبو الأعلى، تفسير سورة النور، ص:196ـ197.

(2) الفقيه، ج:3، باب:52، ص:132، رواية:3491.

(3) تفسير الميزان، ج:15، ص:118ـ119.

(4) مستدرك الوسائل، ج:6، باب:26، ص:423، رواية:7136.