الآية 35
الآيــة
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ والأرض مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضيء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يشاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمثال لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شيء عَلَيِمٌ} (35).
* * *
معاني المفردات
{كَمِشْكَاةٍ}: كوّة في الحائط غير النافذة، يوضع فيها المصباح ونحوه، فتحصر النور وتجمعه.
{دُرّيٌّ}: يشبه الدرّ في صفائه.
* * *
الله نور السماوات والأرض
{اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ} ما هي مهمّة النور؟ إنها إعطاء الأشياء ملامحها الحقيقية التي لا تظهر بطبيعتها، بل تحتاج إليه من أجل أن تتجسد في صورتها للناظرين، وهذا ما عبرت عنه الكلمة التي تحدث بها القدماء: ما كان ظاهراً بنفسه مظهراً لغيره، من المحسوسات للبصر. ولكن كيف أطلقت على الله؟
يفسر البعض ذلك، بأنه كناية عن الوجود الذي تستمد الأشياء الأخرى منه وجودها، وهذا ما جاء في تفسير الميزان قال: «وإذ كان وجود الشيء هو الذي يظهر به نفسه لغيره من الأشياء كان مصداقاً تامّاً للنور، ثم لما كانت الأشياء الممكنة الوجود إنما هي موجودة بإيجاد الله تعالى، كان هو المصداق الأتمّ للنور، فهناك وجود ونور يتصف به الأشياء وهو وجودها ونورها المستعار المأخوذ منه تعالى، ووجود ونور قائم بذاته يوجد ويستنير به الأشياء. فهو سبحانه نور يظهر به السماوات والأرض، وهذا هو المراد بقوله: {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْض}، حيث أضيف النور إلى السماوات والأرض، ثم حمل على اسم الجلالة»[1].
ويرى البعض الآخر[2] أن المراد من النور مفهومه الحقيقي وهو ما تظهر به الأشياء، وليس كما يقوله البعض: بأنّ الله تعالى ـ والعياذ بالله ـ شعاع يسير 186000 ميل في كل ثانية وينعكس على الشبكية في العين، ويؤثر في مركز البصارة في الدماغ. فهذه الكيفية المخصوصة للنور، ليست بشاملةٍ لحقيقة المعنى الذي قد اخترع له الذهن الإنساني هذه الكلمة، بل أطلق عليه هذه الكلمة باعتبار الأنوار التي تأتي تحت تجربتنا في هذه الدنيا المادية، فكل كلمةٍ من كلمات اللسان الإنساني تستعمل لله تبارك وتعالى، إنما تستعمل باعتبار مفهومها الأساسي، لا باعتبار مدلولها المادي، فنحن نستعمل لله تعالى كلمة البصر مثلاً، فليس معناها أن له عضواً يسمى العين ويرى به كالإنسان والحيوان، وكذلك نستعمل له كلمة السمع، فليس معناها أنه يسمع بأذنيه كما يسمع الإنسان، وكذلك نستعمل له كلمة البطش والأخذ، فليس معناها أن له آلةً تُعرَف باليد فيأخذ الإنسان بيده. فكل هذه الكلمات إنما تستعمل لله تبارك وتعالى على وجه الإطلاق لا بمعنى من المعاني المحدودة، ولا نكاد نظن أن من يملك العقل يمكن أن يقول باستحالة أن يوجد للسمع والبصر والبطش شكل غير الشكل المحدود المخصوص الذي نعرفه لها في هذه الدنيا. وعلى هذا، إذا قيل عن النور إنه لا يوجد المصداق لمعناه إلا في صورة ذلك الشعاع الذي يخرج من جرم لامع وينعكس على غطاء العين، فإن هذا القول لا يكون إلا من خطأ الفهم وضيقه. إن كلمة النور لم تطلق على الله سبحانه وتعالى بهذا المعنى الضيّق المحدود، وإنما أطلقت عليه بمعناها المطلق الواسع غير المحدود، أي أن الله سبحانه هو وحده «سبب الظهور» في هذا الكون. أمَّا الأجرام اللامعة التي يبعث منها النور، فما نالت نورها ولا هي تنوّر الكون إلا بالنور الذي قد أنعم به عليها الله سبحانه وتعالى، وإلا فما عندها شيء يمكن أن تنوّر به غيرها.
وكلمة "نُورُ" تستعمل للعلم أيضاً، كما يعبر عن الجهل بالظلمة، فالله سبحانه وتعالى نور الكون، بمعنى أنه لا يمكن أن تعرف الحقائق معرفةً مباشرةً في هذا الكون إلا به، سبحانه وتعالى، وإلا فإنه لا يمكن أن يكون فيه شيء غير ظلمة الجهل والضلالة بدون الارتشاف من فيض كرمه وهدايته.
وقد ذكر صاحب تفسير الكشاف أن المراد من نور السموات والأرض الحق، شبهه بالنور في ظهوره وبيانه، كقوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [البقرة: 257] أي: من الباطل إلى الحق. وأضاف النور إلى السماوات والأرض لأحد معنيين: إما للدلالة على سعة إشراقه وفشوّ إضاءته حتى تضيء له السموات والأرض، وإما أن يراد أهل السموات والأرض، وأنهم يستضيئون به[3].
وذكر بعضهم أن المراد بنور الله عظمته في قدرته وعلمه وحكمته، وتتجلى هذه العظمة في خلق الكون، فكل شيءٍ في أرضه وسمائه يدل دلالةً صريحةً واضحةً على وجود الله وعظمته، وبهذا يتبين معنا أنه لا فرق بين أن نقول: السموات والأرض نور الله، وبين أن نقول: الله نور السموات والأرض، لأن معنى الجملة الأولى أن عظمة الكون تدل على عظمة الله، ومعنى الثانية أن عظمة الله تتجلى في عظمة الكون.
* * *
معنى النور في الآية
ولكن، قد نحتاج إلى استشعار الجانب الفني في التعبير من الناحية البلاغية، لأن ذلك يوحي إلينا بالفكرة التي تتحرك في الكلمة، وفي ضوء ذلك نطرح سؤالاً: ما المعنى الذي تختزنه كلمة «النور» في حركتها بعلاقة الله بالسماوات والأرض، وما هي القضية التي يريد الله أن يوجّهنا إليها؟
هل يريد الله أن يوجّهنا إلى ارتباط وجود الكون في السماوات والأرض بوجوده، باعتبار أنه الظاهر بنفسه في وجوده، المظهر لغيره، في ما يوجد غيره به؟ ولكنَّ ذلك لا يمثل الحقيقة التي يحتاج جوّ الآية إلى تأكيدها، كما يلوح لنا من خلال تأمّل السياق العام للمعنى.
أو أنه يريد أن يحدثنا أنه سبب ظهور الكون، الذي قد يكون قريباً إلى المعنى الأول، أو أنه هو نفسه، أو عن الحق الذي يشبه النور في الظهور، أو عن عظمة الله وقدرته؟ إن ذلك كله لا يتفق مع الجوّ العام للآية..
والذي يلوح لنا، أن الآية تتحرك في أجواء الهداية التكوينية التي تخضع لها السماوات والأرض، لأن الحديث ينتهي في ختامها بالهداية، وذلك في قوله تعالى: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ} من خلال مواقع الهداية في الحياة، وقد جاء في آية أخرى قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} [الصفّ: 8] بما قد توحي به من معنى الهداية في ما تختزنه من مبادىء وشرائع تقود الناس إلى الله.
وفي ضوء ذلك، يمكنُ أن يكون المعنى ـ على سبيل الكناية ـ أن الله هو الحقيقة الوحيدة التي تمد الكون بالهداية، وتسهّل له حركته في الاتجاه السليم، وتنظّم له أموره، وتحفظ توازنه.. وبهذا يكون الله هو محرك الكون إلى مواقع هدايته، تماماً كما هو النور الذي يضيء للأشياء مواقع السلامة في الحياة، فهو نور السماوات والأرض الذي تهتدي به في وجودها المتحرك نحو غاياتها..
* * *
تشبيه نور الله بمشكاة
{مَثَلُ نُورِهِ } في الصورة التي يريد العقل أن يتمثلها في وعيه المادي للأشياء غير المادية، على أساس أن المادي في وجوده لا يستطيع أن يعيش وضوح الرؤية والإدراك الحقيقي للموجودات الغيبيّة المطلقة فيما وراء المادة، {كَمِشْكَاةٍ } تحصر النور وتجمعه، فلا ينفذ إليه الهواء.
{فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ } الذي يمثل النموذج الأعلى للإنارة، بحيث لا يفوقه مصباح آخر في ذلك {في زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّىٌّ } أي: موضوع في داخل قنديل من الزجاج الذي يبلغ المستوى الأعلى من الإنارة {يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } ليست في مواقع الشروق لتصيبها الشمس عند شروقها فقط، وليست في مواقع الغروب ليقتصر وصول الشمس إليها عند غروبها، بل هي في موقع لا يظلّها فيه شجر ولا جبل ولا حائط، فتصيبها الشمس عند الشروق والغروب في الصباح والمساء، ما يجعل زيتها صافياً نقيّاً {يَكَادُ زَيْتُهَا يضيء } ويشرق من خلال صفائه {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } لأنه يضيء دون إحراق، ما يجعل إشراقه مضاعفاً عند الإحراق..
{نُّورٌ عَلَى نُورٍ } في ما يتضاعف فيه النور من خلال المصباح ومن خلال الزجاج ومن خلال الزيت النقي الصافي.. وهكذا تكتمل صورة الإشراق الذي ينفذ إلى كل الأشياء المحيطة به والموجودة حوله، فلا يغيب عنه شيء، ولا يحجبه شيء، وهذا هو المعنى الذي تريد الآية الإيحاء به، وهو الموقع الذي ينطلق منه النور ليقتحم الظلام المحيط بالمكان، فلا يبقى معه شيء من الظلمة.
وهذا هو نور الله الذي يريد للناس أن يكتشفوه، ليكشف لهم كل غوامض الكون وظلمات الحياة وغياهب المشاكل، في ما يتمثل به من وحيه المتحرك مع مفاهيم دينه، ودقائق شريعته، وتفاصيل منهجه، فهو الذي يستطيع أن يمنحهم الهدى الذي لا ضلال معه، والحق الذي لا باطل فيه، والوضوح الذي لا غموض يعتوره.. وهو الذي يريد لهم أن يفتحوا عقولهم عليه، وقلوبهم له. {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يشاء} من عباده الذين انفتحوا على الحقيقة، فانفتحت عليهم الحقيقة من خلال نور الله الذي يطلّ على العقول والقلوب والمشاعر.
وهكذا يريد الله للإنسان أن يهتدي بنوره في خطوات حياته، كما أراد للسماوات والأرض أن تهتدي به في حركة وجودها الكوني الذي تقوم عليه الحياة. {وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأمثال لِلنَّاسِ} في ما يمثله أسلوب ضرب المثل للناس من توضيح الحقائق التي قد لا يدركونها بشكل مباشر، ما يفرض الإيحاء بها بأسلوب آخر، يعتمد على اللفتة والإيماءة والصورة المعبّرة الموحية. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شيء عَلَيِمٌ } في ما يريد أن يهدي به عباده إلى سواء السبيل.
ــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:15، ص:122.
(2) انظر: أبو الأعلى المودودي، تفسير سورة النور، ص:196ـ197.
(3) تفسير الكشاف، ج:3، ص:67.
(4) تفسير الكاشف، ج:5، ص:424،425.
تفسير القرآن