من الآية 36 الى الآية 38
الآيــات
{في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأبصار* لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يشاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} (36ـ38).
* * *
معاني المفردات
{بِالْغُدُوِّ}: جمع غداة، وهو الصباح.
{وَالآصَالِ}: جمع أصيل، وهو العصر.
{وَإِقَامِ }: الإقامة، وحذفت التاء تخفيفاً.
* * *
مهمة المساجد في المفهوم الإسلامي
ما المعنى الذي يختزنه المسجد والجوّ الذي يحتويه؟ وما هي صفة الرجال الذين يمثلون مجتمع المسجد في ما يقولون ويفعلون؟ وما هي النتائج التي تترتب على ذلك؟
{فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} وهي المساجد التي جعلها الله مكاناً لعبادته، وأراد لخلقه أن يرفعوها في العمران الذي تقوم به أعمدتها ويرتفع به سقفها، وفي العبادة التي أراد الله أن ترتفع أرواح عباده بها إليه، فتعرج إليه في مواقع العبودية، وفي آفاق الصفاء والشروق والنقاء.. وهكذا يريد الله أن ترتفع البيوت بالمعاني الروحية الصافية التي تبني للإنسان إنسانيته، وتحرّك دوافعه الإيمانية في الحياة، وتوحي له بالمعاني الخيّرة التي تجعل منه إنسان الخير لا إنسان الشرّ.
تلك هي مهمة المساجد في المفهوم الإسلامي، أن تكون حضناً لروح الإنسان ومصنعاً لبناء شخصيته، ومنطلقاً لتأصيل أهدافه، وخطاً لتحريك خطواته، وموقعاً للبدايات التي يحدد على أساسها خط السير إلى غاياته.. وذلك من خلال أجواء الذكر والدعاء والخشوع والتلاوة والصلاة..
وليس مهمتها تجسيد الفن والإبداع الإسلامي وتمثيل معاني الجمال، وتحريك الذوق من خلال إبداع الزخرفة وجمال الهندسة وفخامة البناء، وهي مظاهر عظمة مادية بحتة يحاول الكثيرون تأكيدها في أماكن العبادة الإسلامية، لأن الإسلام يريد أن يشمل المسجد البساطة والعفوية التي لا تشغل الإنسان عن انطلاقه الروحي بين يدي الله، في ما توحي به الزخرفة من شواغل البصر التي تشغل الفكر والشعور.
{فِى بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ} والإذن يوحي بمعنى الانقياد لله والارتباط به، لحاجة الإنسان إلى صدور الإذن من الله له، في ما يريد أن يقوم به من عمل، وما يريد أن يرفع من بيوت، فليس له أن يبتدع ما لا يعلم أن الله يأذن به، أو ما يعلم أن الله لا يأذن به، من ناحيةٍ عامةٍ أو خاصةٍ.
{وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} في ما يعنيه الذكر لاسم الله من استحضار ذاته في نفوس عباده، ليكون ذلك منطلقاً للشعور بحضوره الدائم في حياتهم، ليدفعهم ذلك إلى المزيد من التوحيد في العبادة، أو في الطاعة، أو في حركة الحياة.
* * *
ملامح شخصية المؤمنين
{يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} عندما تشرق الشمس في بداية يوم جديد وعندما تغرب في نهايته، حيث يتحرك التسبيح ليوحي للنفس الإنسانية بمعاني العظمة الإلهية التي يراد لها أن تنفعل بتلك العظمة في عملية انفتاح على خط عبوديتها لله، وطاعتها له، ليكون اليوم منفتحاً على الله في بدايته ونهايته كوسيلةٍ من وسائل الامتلاء بروحيته وعظمته، في مواقع رحمته..
{رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}، لأن حضور الله في ذواتهم أقوى من حضور أي شيءٍ غيره فيهم، من الأشخاص أو الأعمال التي تشغل الناس وتهيمن على حياتهم. فهم إذا ذكروا الناس ذكروا الله معهم باعتبار أنهم عباده المخلوقون له، المتحركون في تدبيره، المتقلّبون في نعمه... وإذا ذكروا التجارة ذكروا حدود الله وموقع رزقه فيها، في ما يريد لعباده أن يتحركوا فيه من مواطن رزقه، ولذلك فإن عملهم في البيع والتجارة لا يشغلهم عن ذكر الله بل يزيدهم ارتباطاً به. وتلك هي الشخصية التي يريد الله للناس أن يعيشوا ملامحها الأصيلة في ذواتهم، بحيث تكون علاقتهم بالله أقوى من كل علاقاتهم الأخرى، وتكون هي العلاقة الوحيدة الأصيلة التي تخضع لها كل العلاقات الأخرى على مستوى القرب والبعد، والقوّة والضعف، فلا يستغرقون في أيّ شيء آخر بعيداً عن الله، بل يكون استغراقهم به هو الذي يحدد لهم مدى الاستغراق في شؤون الآخرين والأشياء الأخرى.
{وَإِقَامِ الصّلاةِ}، وهي العبادة التي يعيش معها الإنسان حضور الله في كل كيانه وحياته، {وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ} وهي العطاء المادي المنطلق من روحية العطاء الروحي، الذي تتحول فيه العبادة لله والرغبة في القرب إليه إلى حركة إنفاق على الفئات المحرومة، وبذلك تخرج العبادة من حالة الاستغراق الذاتي المجرد في آفاق الله، لتصبح حالةً في الواقع العملي الذي يتصل بحياة الإنسان نفسه، وبحياة الآخرين.
{يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأَبْصَارُ}، وذلك في ما تواجهه من فزع وهول يوم القيامة، فتضطرب وتشخص وتهتز وتزيغ، على النهج الذي جاءت به الآية في قوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10]. وربما قيل بأن المراد بتقلب القلوب والأبصار هو تقلّب أحوالها وتغيّرها، فتفقه القلوب بعد أن كانت مطبوعاً عليها لا تفقه، وتبصر الأبصار بعد أن كانت عمياً لا تبصر، «فتنصرف القلوب والأبصار يومئذ عن المشاهدة والرؤية الدنيوية الشاغلة عن الله الساترة للحق والحقيقة، إلى سنخٍ آخر من المشاهدة والرؤية، وهو الرؤية بنور الإيمان والمعرفة، فيتبصر المؤمن بنور ربّه، وهو نور الإيمان والمعرفة، فينظر إلى كرامة الله، ويعمى الكافر ولا يجد إلا ما يسوؤه»، أمّا «توصيف اليوم بقوله: {تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالاَْبْصَارُ} ـ على هذا الرأي ـ لبيان سبب الخوف، فهم إنما يخافون اليوم لما فيه من تقلّب القلوب والأبصار، وإنما يخافون هذا التقلب لما في أحد شقّيه من الحرمان من نور الله والنظر إلى كرامته، وهو الشقاء الدائم والعذاب الخالد، وفي الحقيقة يخافون أنفسهم»[1].
ولكن الظاهر هو الوجه الأول، لأن المسألة المطروحة هي الخوف الذي يدفع إلى الانضباط على خط الطاعة والتقوى، ما يجعل القضية قضية الهول الذي يواجههم في يوم القيامة، الذي تكرر الحديث عنه في القرآن، كما في قوله تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً} [الإنسان:10]، لأن الصفة التي يؤكدها القرآن في حديثه عن يوم القيامة، هي الجوّ المرعب الذي يحكم ذلك اليوم؛ والله العالم.
{لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} وتلك هي غاية العمل الذي يقومون به في خط التقوى والإخلاص لله والانفتاح عليه، وسينالون الجزاء عليه بالدرجة الأحسن والأفضل، بحيث يجزيهم في كل بابٍ جزاء أحسن عمل في ذلك الباب... ومرجع ذلك ـ في ما يقوله بعض المفسرين ـ إلى أنه ـ تعالى ـ يزكي أعمالهم، فلا يناقش فيها بالمؤاخذة في جهات توجب نقصها وانحطاط قدرها، فيعد الحسن منها أحسن[2]. وربما كان المقصود به هو الجزاء المضاعف، كقوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ } [يونس: 26] {وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } في ما يتفضل به عليهم، مما قد لا تقتضيه طبيعة العمل من جزاء، وذلك ما نستوحيه من الآيات التي تتحدث عن العطاء الإلهي بدون حساب، كما في قوله تعالى: {أُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ *لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ الْمُحْسِنِينَ } [الزمر: 33 ـ 34].
{وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} وذلك في ما تكفّل لهم من رزقه في مواقع رحمته، التي لا تضيق بشيء، ولا يضيق عنها شيء، بل تتسع لكل ما في الحياة من مجالات العطاء، فهو الكريم الذي لا حدّ لكرمه، وهو الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء.
ـــــــــــــــــــــ
(1) تفسير الميزان، ج:15، ص:128ـ129.
(2) (م.ن)، ج:15، ص:129.
تفسير القرآن