تفسير القرآن
النور / من الآية 39 إلى الآية 40

 من الآية 39 الى الآية 40

الآيتـان

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أعمالهم كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذَا جاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ* أَوْ كَظُلُمَاتٍ في بَحْرٍ لُّجِّيّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} (39ـ40).

* * *

معاني المفردات

{بِقِيعَةٍ}: القيعة: جمع قاع، وهو المستوي من الأرض.

{الظَّمْآنُ}: العطشان.

{لُّجِّيّ}: عظيم الماء الذي تتراكم أمواجه.

{يَغْشَاهُ}: يغطيه

* * *

أعمال الكافرين كسراب

ماذا يبقى للكافرين من أعمالهم التي يعيشون في أنفسهم الشعور بأنها تمنحهم الخلاص وتفتح لهم آفاق الأحلام في ما تقرّبوا به إلى آلهتهم، وما تحركوا به في حياتهم مما يعتبرونه من مواقع الخير؟

إن الكفر لا يرتكز على حقيقة ثابتة في واقع الكون، بل هو وهم يطوف حول سطح الذهن، فلا يمثل إلا الفراغ الموحش القاتل الذي لا يمتلئ بشيء، ولهذا فإن كل الأعمال والأوضاع التي تنطلق منه وتعتمد عليه لا تحقق أيّة نتيجةٍ إيجابية على مستوى المصير، لأن ما ينطلق من الوهم لا بد من أن ينتج الوهم الذي لا يمنع الحقيقة المضادة أن تفرض نفسها على النهاية.

{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذَا جاءه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} ما هو السراب؟ إنه الصورة الوهمية للماء الذي يلمع في المفازة كالماء نتيجة انعكاس الشمس على الأرض المستوية في الأفق البعيد، فيخيّل للظمآن الباحث عن الماء لريّ عطشه أنه ماء في الصحراء المترامية الأطراف، فيركض إليه ولكنه يبتعد عنه، وتبقى الصورة تركض أمامه لتغريه بالاستمرار في الركض، حتى إذا انتهى به السير إلى أقصى ما يستطيع بلوغه، لم يجد هناك أيّ شيءٍ يوحي بالماء... وهذا هو حال الكافرين في ما يقومون به من الأعمال والقرابين التي يقدمونها لآلهتهم الموهومة، إذ يتصورون لها قدراتٍ مزعومةً، وأسراراً لا حقيقة لها، وهم يأملون الحصول على نتائج إيجابية على مستوى أحلامهم ومصيرهم، ولكنهم لا يحصلون على أيّ شيء من ذلك في نهاية المطاف، تماماً كما هو حال الراكض وراء السراب بحثاً عن الماء، حتى إذا أدركه لم يجده شيئاً.

{وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ} وتلك هي المفاجأة الكبرى التي لم يحسب لها حساباً، لأنه لم يكن يؤمن بأن هناك حياةً تنتظره بعد الموت، وأن هناك حساباً يواجهه بتاريخ أعماله في الدنيا، وأنه سيقف بين يدي الله وقفة العبد الحائر الخائف ليوفيه حسابه على ما أسلف من الكفر ومن العمل المرتكز عليه، {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ } فلا تعجزه كثرة العباد وكثرة الأعمال الصادرة عنهم عن اختصار الزمن الذي ينتهي به حسابهم. وفي هذا الجوّ، ورد أن الإمام أمير المؤمنين (ع) سئل: «كيف يحاسب الله الخلق على كثرتهم»؟ فأجاب: «كما يرزقهم على كثرتهم»[1]، لإحاطة علمه بكل شيء.

{أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيّ} أي تتراكم أمواجه، فيتصاعد الموج فيه {يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ} في ما يثيره ذلك من فقدان الرؤية {مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ} يحجب ضوء الشمس، وبذلك يكون الجوّ مكفهرّاً مدلهماً لا يوحي بأية إشراقةٍ تدل على الطريق، أو تفتح النظر إلى الأفق، {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا}، لأن الظلمات قد حجبت كل مواقع الرؤية..

وهذا هو حال الكافرين الذين لم ينفتحوا على مواقع نور الإيمان، لتشرق أرواحهم وعقولهم بمعرفة الله، وتهتدي خطواتهم إلى طريقه، بل غرقوا في ظلمات الكفر التي تمنعهم من إدراك أسرار الحياة الواسعة، في ما يحيط بهم من آفاق الكون، وفي ما تختزنه في أعماقها من دلائل وبيّنات... واستغرقوا في ظلمات ذواتهم وشهواتهم وأطماعهم، وأخلدوا إلى الأرض، فلم يرتفعوا إلى مجالات المعرفة الفسيحة، وكانت نفوسهم في ظلمات الفكر والروح والعمل، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا تحرك في أيّ طريق نحو أيّ هدف، فإنه لا يبصر طريقه ولا يعرف مواطىء قدمه، لأنه لا يملك النور الإلهي المنطلق من المنابع المنفتحة على أفق المعرفة..

{وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً} يفتح به سبل الحق أمامه ويهديه إليها، مما إذا سار فيها اهتدى إلى مواقع النور، وإذا انحرف عنها واتّبع طريقاً آخر في خط الظلمات، فإن الله لا يعطيه نوراً جديداً من مواقع غيبه، وذلك في ما جرت به حكمته من أنه يفتح لعباده آفاق المعرفة ومواقع الهدى ويدلهم عليها، ويقودهم إليها، فإذا أغلقوا ذلك على أنفسهم بالتمرّد والعصيان، لم يفتحها لهم من جديد.. وهكذا ينسب الله الحرمان إليه، باعتبار أنه تركهم للظلمات، فضاعوا في غياهبها، لأن من لم يجعل الله له نوراً {فَمَا لَهُ مِن نُورٍ} لأن الله وحده هو من يهب النور لعباده في مواقعه الحسية والمعنوية، وليس هناك نور لدى غيره..

ــــــــــــــــــــــ

(1) نهج البلاغة، قصار الحكم، ص:300.