من الآية 43 الى الآية 46
الآيــات
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السماء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يشاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يشاء يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار* يُقَلِّبُ اللَّهُ الليل وَالنَّهَارَ إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار* وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابة مِّن ماء فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يشاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شئ قَدِيرٌ* لَّقَدْ أنزلنا آياتٍ مُّبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يَشَآءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} (43ـ46).
* * *
معاني المفردات
{يُزْجِي}: يسوق سوقاً رقيقاً.
{يُؤَلِّفُ}: يجمع.
{رُكَاماً}: متراكماً بعضه فوق بعض.
{الْوَدْقَ}: المطر.
{بَرَدٍ}: القطع الثلجية المتجمّدة الصغيرة.
* * *
مظاهر عظمة الخلق
وهذا مشهد كونيٌّ آخر، يريد الله للإنسان أن يفكر فيه ويتأمله، لينطلق ـ من خلال ذلك ـ إلى الاستغراق في عظمة الله، ليكون الكون كله مدرسة متحركة لمعرفة الله والإيمان به.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِى سَحَاباً} فيسوقه ويدفعه من مكان إلى مكان {ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ} ويجمعه {ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} بعد أن يثقل ويشتد {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَآءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا} أي في هيئة الجبال الضخمة لضخامة حجمها {مِن برد}.. ولعل الإنسان لا يتصور السحب على هيئة الجبال الكثيفة الضخمة، كما يتصورها الراكب في الطائرة، وهي تعلو فوقها أو تسير بينها، وهكذا يتمثل في السحب مشهد الجبال في كل خصائصها عندما يتنزل منها الماء السائل، أو الثلج المتجمد، أو في ارتفاعها وانخفاضها.
{فَيُصِيبُ بِهِ مَن يشاء وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يشاء} تبعاً لحكمته في توزيع المطر في ما يريد الله أن يحققه من شؤون الحياة والإنسان، من خلال تأثيراته الإيجابية أو السلبية.. {يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار} جراء قوة الضوء ونفاذه الصاعق بحيث يكاد أن يذهب بالبصر عندما يواجهه ويلامسه. وهكذا يعي الإنسان الحقيقة الإلهية من خلال الظواهر الكونية الخاضعة لإرادة الله ومشيئته في كل مفرداتها الصغيرة والكبيرة، ليؤمن بأن الله هو وراء ذلك كله.
{يُقَلِّبُ اللَّهُ الليل وَالنَّهَارَ} في حركة الزمن التي يتبدل معها الليل إلى نهار، والنهار إلى ليل، في نظام متقنٍ دائم متواصل، لا يقف عند حدٍّ، ولا يتعثر أمام أيّة عقبة، {إِنَّ في ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِى الأبصار} الذين يرون في الظواهر منطلقاً للتفكير والدرس والاعتبار، لا أداةً للّهو وللمتعة، وبذلك يلتقي عندهم البصر الداخلي الَّذي تجسّده البصيرة بالبصر الخارجي الذي يمثل النظر.
* * *
مشيئة الله مصدر الوحدة والتنوّع
{وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دابة مِّن ماء }، فالماء أصل الحياة ترجع إليه كل الموجودات الحيّة بشكل مباشرٍ أو غير مباشرٍ، دون أن يعني ذلك وحدة الشكل والجوهر، بل التنوّع في طبيعتها، وفي أشكالها، وفي وظيفتها في حركة الحياة، ما يوحي بعظمة القدرة التي تحقق التنوّع من موقع الوحدة.
{فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى بَطْنِهِ} وهي الزواحف {وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِى عَلَى رِجْلَيْنِ} كالإنسان والطير {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} كالبهائم والسباع، {يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يشاء} لأن مشيئته سرّ الخلق، فهي مصدر الوحدة والتنوّع، والحركة والسكون.. {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شئ قَدِيرٌ } فهو الكلّي القدرة الذي لا يعجزه شيء مهما كان حجمه وحقيقته، لأن إيجاد أيّ شيء، لا يتوقف على شيء آخر خارج قدرة الله، فيكفي أن يشاء وجود الشيء كي يوجد وتدبّ فيه الحياة.
{لَّقَدْ أنزلنا آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ} في ما أنزلناه من القرآن، في هذه السورة وفي غيرها، مما يوضح للناس حقائق العقيدة والحياة، لتوجههم إلى التصور الصافي النقيّ الذي لا غموض فيه ولا ارتياب، ليهتدوا من خلال ذلك إلى الصراط المستقيم في دينه وفي شريعته وفي منهجه العملي في الحياة.. {وَاللَّهُ يَهْدِي مَن يشاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} في ما يرسمه من خطوط وينزله من آيات، وفي ما يضعه من شرائع، ويوضحه من حقائق وقضايا ومناهج، فمن أخذ بها اهتدى، ومن ضل عنها ابتعد عن النهج الصحيح.
تفسير القرآن