تفسير القرآن
النور / من الآية 47 إلى الآية 52

 من الآية 47 الى الآية 52

الآيــات

{وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ وما أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ* وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ * وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِين * أفي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَمِ ارْتَابُواْ أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُوْلَـئِكَ هُمُ الظالمون* إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الفائزون} (47ـ52).

* * *

معاني المفردات

{يَتَوَلَّى}: يعرض.

{يَحِيفَ}: الحيف: الجور.

* * *

بين الإيمان وثبات الانتماء

وهذا نموذج من الناس الذين يخضعون انتماءهم إلى الرسالة لمصالحهم، فإذا التقت الرسالة بمصالحهم تلك أيّدوها، وإذا ابتعدت عنها رفضوها وتمردوا عليها.. وهكذا تكون مسألة الانتماء لديهم خاضعة للمصلحة الذاتية، لا للقناعة الفكرية الرسالية، ما يجعلهم يتلوّنون تبعاً للألوان التي تطرأ على الموضوع، دون أصالة في القناعة والانتماء.. ويضع الله موقف هؤلاء في مواقع النفاق الذاتي التي تكون فيها المصلحة الشخصية هي المرتكز، بحيث يهتز معها التحرك ليتحوّل إلى حالةٍ من الاهتزاز في العلاقات والكلمات والأفعال، فيكون الإنسان ذا موقفين: داخلي وخارجي، وذا وجهين: مشرقٍ ومظلم، وذا كلامين: كافرٍ ومؤمن، فيخسر الطمأنينة في الدنيا، والمصير في الآخرة.

{وَيِقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ } في إعلان للانتماء وللموقف المرتبط بخط الرسالة في حركة الإيمان، {وَأَطَعْنَا } في انفعال عملي بالمضمون الشرعي لأوامر الله ونواهيه، ولتعاليم الرسول وشرائعه، ولكن حركة الواقع الاختبارية التي تواجه الناس بالمشاكل والتحديات في مواقع الالتزام، تجعل البعض يثبت أمام التجربة الصعبة ويستمر في خط الإيمان، ويسقط البعض في الامتحان، فلا يطيقون الآلام التي تفرضها أحياناً المواقف الصلبة، ولا يتحملون الخسائر المعنوية والمادية التي قد تحصل في ساحة الصراع بين الحق والباطل.

{ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلِكَ } الإِعلان الحماسي الاستعراضي الذي أطلقوه في الحالة التي لا تتضمّن التحديات في ما توحي به البدايات من الأحلام الخالية من حركة المشاكل.

{وَمَآ أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ } لأن الإيمان يمثل العقيدة القويّة الثابتة في فكر الإنسان وقلبه، المتجذرة في عمق حياته، المتحركة في خط أهدافه، فإذا اهتزت به الأرض بسبب عوامل الاهتزاز، عمل على منحها الثبات من خلال النظرة المستقبلية الواعية الواثقة بالله، والحركة المنفتحة على الواقع في عملية تخطيط مدروس يحسب حساب كل المتغيّرات الطارئة بدقة، ويوحي للإنسان بالاستعداد لذلك كله.

ومن خلال ذلك، نستطيع أن نفهم أن الإيمان ليس كلمةً، وليس موقفاً ظاهرياً، بل هو عمق فكري وروحي وعملي يتجسد في موقف وحركة والتزام. لهذا نفت الآية صفة الإيمان عن هؤلاء، لتثبتها ـ فيما بعد ـ للملتزمين بالخط، الثابتين عليه. وتمضي الآيات في إبراز بعض ملامح هذا الاهتزاز العملي الذي يوحي بفقدان القاعدة الفكرية للانتماء.

* * *

ملامح الاهتزاز في نفوس المنافقين

{وَإِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} لتكون شريعة الله المنطلقة من مضمون الإيمان هي الحكمُ في ما بينهم، فيما تميز به بين الحق والباطل { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} لا يستجيبون للدعوة، لأنهم غير مستعدّين للالتزام بنتائج الحكم الذي يستهدف إقامة الحقّ إذا ما كان في غير مصلحتهم، ولكنهم إذا عرفوا أن النتيجة ستكون لصالحهم، أقبلوا على الدعوة، واستجابوا لها، لأنهم يستجيبون أوّلاً وآخراً لمصلحتهم، لا لانتمائهم الذي يدَعونه، {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الْحَقُّ يَأْتُواْ إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } وهذا ما يفعله كثير من الناس إذا ما واجهوا مشكلةً مع الآخرين، فهم يبادرون إلى سؤال أهل الاختصاص بالشريعة، ليعلموا كيف يكون مجرى الدعوى، وهل تكون لصالحهم إذا أثيرت أمام الحاكم الشرعي، أو تكون لغير صالحهم، فإذا رأوها منسجمة مع ما يريدون أقبلوا إلى حكم الشريعة، وإلاّ أعرضوا عنها. ولكن، لِمَ يفعلون ذلك؟ وكيف يواجهون المسألة بهذه الطريقة؟

يطرح القرآن التساؤلات في نطاق الاحتمالات المطروحة: {أَفِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } في ما يمثله النفاق من مرض روحي وفكري، {أَمِ ارْتَابُواْ} بعد أن كانوا يعيشون القناعة بالحق الذي يمثله حكم الله، فحدث لهم الشك بعد ذلك، {أَمْ يَخَافُونَ أَن يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } ويجور عليهم ويظلمهم في حكمه؟ ولكن هل يعقل أن يفعل الله ذلك؟ فما هي حاجة الله إلى الظلم وهو العادل الذي لا يظلم أحداً من عباده، والقويّ الذي تهيمن قوته على كل شيء؟

ويأتي الجواب المنطلق من عمق شخصية هؤلاء في كل أفكارهم وأعمالهم: {بَلْ أُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} الذين ظلموا أنفسهم بالانحراف والمعصية والابتعاد عن حكم الله.

* * *

الملتزمون بحكم الله ورسوله هم المفلحون

{إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُواْ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا }، لأن تلك الطاعة تجسيد للموقف الإيماني في صورته الواقعية، في ما يمثله من التزامٍ بالرسالة لتأكيد مسألة الانتماء، ولتعميق الإخلاص لله ولرسوله في مظهرهم العملي بالطاعة.. {وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } لأن سبيل الفلاح الوحيد في حياة الناس، هو الارتباط بالله في علاقتهم بكل شيء حولهم، باعتبار أن كل ما في الحياة هو من الله وله، وأن الإنسان نفسه هو ملك الله..

{وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } في أقواله وأفعاله وعلاقاته والتزاماته، بحيث تكون الطاعة خطه المستقيم في كل حياته {وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ } فيراقبه في كل شيء، ويحسب حسابه في جميع الأمور، بحيث تشكّل التقوى عمق فكره وروحه وحياته وحركته في مجرى الأحداث، فهو يعيش مع الله، ويدرك سرّ عظمته وقوّته، ويعرف موقع نعمته في وجوده وفي كل تفاصيل حياته، ويخاف من عقابه، ويرغب في ثوابه، فيلتقي بأوامره ونواهيه من أقرب طريق، وذلك هو سبيل الفوز في الدنيا والآخرة، فمن أخذ بهذا الخط من الناس { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَآئِزُون } الذين يحصلون على رضى الله وجنته ونعيمه في الدار الآخرة..