تفسير القرآن
النور / من الآية 62 إلى الآية 64

 من الآية 62 الى الآية 64

الآيــات

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ Nمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَـْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَـْذِنُونَكَ أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ* لاَّ تَجْعَلُواْ دعاء الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كدعاء بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لواذا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَلا إِنَّ للَّهِ مَا في السَّمَـوَاتِ والأرض قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شئ عَلِيمُ} (62ـ64)

* * *

معاني المفردات

{أَمْرٍ جَامِعٍ}: الأمر الجامع: الأمر الهامّ الذي يقتضي الإجماع عليه والتعاون فيه.

{يَتَسَلَّلُونَ}: السلة: السرقة في خفية، والتسلّل: الخروج في خفية.

{لِوَاذاً }: يلوذ بعضهم ببعض ويستتر به.

* * *

المؤمنون في خط الطاعة يستأذنون الرسول

في الآيات لون من ألوان الأدب الذي يحكم علاقة المؤمنين بالرسول (ص)، وربما يشمل ذلك علاقة المؤمنين بكل القيادات الشرعية التي تحكم أمورهم لجهة ما يجب أن يكون عليه سلوك القاعدة مع القيادة في المهمّات الكبيرة التي تتعلق بالقضايا العامة، سواء السلمية أو الحربية أو الأمنية أو الاجتماعية، فلا بد لكل فرد في هذه الحال أن يضع نفسه تحت تصرف القيادة، فلا يذهب إلى أيّ مكان، ولا يغيب عن نظرها إلا بعد أن يأخذ الإذن منها في ذلك.

{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} وعاشوا هذا الإيمان في عمق الفكر والشعور وحركة الحياة، في ما يفرضه من التزام بطاعة الله ومن انسجام مع شريعة رسوله، من خلال ما تمثّله طاعة الرسول في الخط العام وفي مفردات الواقع، إذ إن الإيمان ليس مجرد فكر يتحرك على مستوى المعادلات الفكرية، بل هو فكر ينفتح على كل مفردات الحياة في حركة الإنسان، { وَإِذَا كَانُواْ مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ } يرتبط بالحياة العامة للناس جميعاً ويتصل بالسلم والحرب {لَّمْ يَذْهَبُواْ حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ} ليحدّد لهم مواقعهم داخل الساحة أو خارجها، على ضوء حاجة الخطة لهم أو عدم حاجتها لهم.

تلك علامة إيمان تمثّل انضباطاً في الالتزام بالقيادة في تفاصيل الحركة الخاصة والعامة، وذلك ما يؤكده قول الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} في الموقف العملي في خط الالتزام {فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} في ما يريدون أن ينصرفوا إليه من شؤونهم الخاصة، فادرس المسألة على أساس حاجة الخطة لذلك {فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } إذا رأيت أن الحاجة الاجتماعية ليست بالخطورة التي تفرض وجودهم معك، وامنعها عمن تجد ضرورة وجوده معك {وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ} لما قد ينتابهم من شعور بالإثم لذهابهم عنك، أو لما قد يدور في خاطر بعضهم من رغبة في الاحتيال عند طلب الإذن منك للخروج، ثم يعود لنفسه لتستغفر له {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، لأنه يعرف نقاط ضعفهم في ما قد ينحرفون فيه من الفكر والسلوك، ثم يتراجعون طلباً للمغفرة والرحمة.

* * *

آداب التعامل مع الرسول (ص)

{لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} وهذا تأكيد من الله على التزام الأدب الإيماني في التعامل مع الرسول، في ما يدعوهم إليه من قضايا ترتبط برسالته، أو ترتبط بقيادته وولايته على المسلمين في إدارة شؤونهم العامة، عندما يدعوهم إلى العمل الصالح، أو ليشاورهم في أمور الحرب والسلم، أو إلى الصلاة جامعةً، أو إلى غير ذلك، فعليهم أن يعتبروا الدعوة ملزمة على مستوى الواجبات الشرعية، تماماً كما هي العبادات في ذاتها، ولا ينظروا إلى دعوته نظرتهم إلى دعوة بعضهم بعضاً باعتبار أنها غير ملزمةٍ لهم، لأن طبيعة علاقة القيادة بالقاعدة تختلف عن علاقة القاعدة ببعضها البعض، لأن الأولى ـ أي علاقة القاعدة بالقيادة ـ تتصل بالجانب المصيري في تنظيم المجتمع من أجل سلامة خطه وتوازن موقعه، بينما تتصل الثانية بالعلاقات الاجتماعية الخاصة التي يملك فيها كل واحدٍ حريته أمام الآخر، بعيداً عن كل حالات الإلزام الذاتي والاجتماعي، وعن القضايا العامة في مضمونها المصيري الذي يرقى إلى مستوى الأهمية الكبرى.

وقد جاء في بعض احتمالات التفسير للآية أن المراد به أن لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضاً، أي لا تسمّوه إذا دعوتموه: يا محمد، ولا تقولوا: يابن عبد الله، ولكن شرّفوه وعظّموه في الدعاء وقولوا: يا رسول الله.

وذكر بعضهم أن المراد به دعاؤه عليهم لو أغضبوه، أي: لا تتعرضوا لمواقع دعائه عليكم، فتستهينوا به كما يستهين أحدكم بدعاء صاحبه عليه، فإن الله لا يردّ له دعاءً.

ولكنّ الأقرب هو ما ذكرناه من الوجه الأول، لأن سياق الآية مع الآيات التي قبلها يوحي بأنّ الجوّ هو جوّ الطاعة والانسجام مع خط قيادته في إدارة شؤون الأمة، كما أن الفقرة التي بعدها توحي بذلك أيضاً.

* * *

فليحذر المنافقون الفتنة

{قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً} أي ينسحبون برفق واحتيال ويلجأون إلى مكان خفيّ أو إلى أشخاص آخرين يستترون بهم ولا يستجيبون لدعوة النبي، في عملية احتيالية إيحائية بأنهم لم يكونوا موجودين وقت الدعوة، أو كانوا مشغولين ببعض المسائل المهمّة التي تبرر غيابهم عن الحضور إلى المجتمع الذي دعا إليه، فإن هؤلاء ليسوا بعيدين عن نظر الله ورقابته وعلمه، إذا كانوا يحسبون أنفسهم بعيدين عن رقابة الرسول، لأن دعوته هي دعوة الله في ما أمره به من أداء رسالته أو القيام بشؤون قيادته. وهذه صورة من صور النفاق، حيث يعطون للنبي وجهاً من شكليات الطاعة، ولكنهم ينسحبون من الساحة في أوقات الشدّة، لأنهم لا يطيقون الالتزام بالمسؤوليات العامة التي يفرضها عليهم الرسول، ولا يريدون الانسجام الجدّي عملياً مع أجوائها.

{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} ويتركون الاستجابة لدعوته في ما يريده منهم، أو في ما يكلفهم به، {أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ } وهي البلية التي قد تصيبهم في أنفسهم وفي أهلهم وأموالهم. وقد روي عن الإمام جعفر الصادق (ع) في ذلك، أن الله قد يسلط عليهم سلطاناً جائراً[1].. لأن مخالفة الرسول في السير على هدى الله في خط الشريعة يفسح المجال لاختلال المجتمع وسيطرة حكام الجور عليه، الذين لا يرحمون عباد الله.. وقد يكون هذا مجرد نموذج تلتقي عنده المشاكل التي تصيب الناس المنحرفين عن أمر الله ونهيه، لأن هناك أكثر من مشكلة تحدث الفتن والقلاقل والحروب، وتربك مسيرة المجتمع الأخلاقية والاقتصادية كنتيجة لمخالفة أمر الله.

{أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في ما ينتظرهم من عذاب الله سبحانه في يوم القيامة، وهذا شاهد آخر على أنّ الأقرب في تفسير قوله: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} هو الاحتمال الأول الذي أوردناه، لا الاحتمالان الآخران.. والله العالم.

* * *

لله ما في السماوات والأرض

{أَلا إِنَّ للَّهِ مَا فِى السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ} وتلك هي الحقيقة الكونية الواضحة التي لا بد للإنسان من أن يعيها وعياً تاماً، ليعرف من خلال ذلك مسؤوليته أمام الله، وخضوعه له، كما يعرف عمق ارتباط الشريعة بالمصلحة الحقيقية للإنسان، لأن مالك السماوات والأرض وما فيهن يعلم ما يصلحها وما يفسدها أكثر من أي شخص آخر، وبذلك تكون الشريعة مطابقةً للحاجات الواقعية التي تتمثل في عمق وجودهم.

{قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ} من شؤونكم العامة والخاصة، في حاضركم ومستقبلكم، لأنه العالم بغيب ذلك كله، فيشرع لكم ما ينسجم معه.

{وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ} في يوم القيامة، فهو العالم بالبداية والنهاية، وهو الذي يضع لكم خطّ السير في ما ينزل من سور، وفي ما يفرض من أحكام، ويريدكم أن تسيروا عليه بأن تحللوا حلاله وتحرّموا حرامه، ليكون ذلك هو الأساس الذي يرتكز عليه مصيركم في الآخرة.. وهو يعلم ذلك كله..

{فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ وَاللَّهُ بِكُلِّ شيء عَلِيمُ}، فعليهم أن يراقبوا أنفسهم وأعمالهم، وينظروا حصيلة عمرهم كله من أعمال الخير، لأن الله لا يغيب عنه شيء من ذلك. وهذا ما ينبغي للإنسان أن يعيشه، فيكون المسؤول أمام الله في كل ما يفكر به، أو يعمل به، أو يثيره في حياته من أوضاع وعلاقات، وأن يجعل كل مفردات حياته الفردية والاجتماعية خاضعة لعلاقته بالله، وحركة المسؤولية في وجوده.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: البحار، م:8، ج:22، باب:14، ص:557، رواية:11.