تفسير القرآن
الفرقان / من الآية 1 إلى الآية 3

 من الآية 1 الى الآية 3
 

سورة الفرقان
مكية وهي سبع وسبعون آية

{تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً* وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأنفسهم ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} (1ـ3).

* * *

معاني المفردات

{تَبَارَكَ}: البركة بفتحتين: ثبوت الخير في الشيء كثبوت الماء في البركة، وبالكسر فالسكون مأخوذ من برك البعير إذا ألقى صدره على الأرض واستقر عليها، ومنه التبارك بمعنى ثبوت الخير الكثير، وفي صيغته دلالة على المبالغة على ما قيل، وهو كالمختص به تعالى لم يطلق على غيره إلاّ على سبيل الندرة.

{الْفُرْقَانَ}: هو الفرق سمّي به القرآن لنزول آياته متفرقة أو لتمييزه الحق من الباطل، ويؤيد هذا المعنى إطلاق الفرقان في كلامه على التوراة أيضاً مع نزولها دفعة واحدة، قال الراغب في المفردات: والفرقان أبلغ من الفرق لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، وتقديره كتقدير رجل قنعان يقنع به في الحكم، وهو اسم لا مصدر في ما قيل، والفرق يستعمل فيه وفي غيره[1].

{لِلْعَالَمِينَ}: جمع عالم، ومعناه: الخلق. قال في الصحاح: العالم الخلق والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق.

* * *

مصدر الخير الإلهي

{تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ}. إننا إذا تطلعنا إلى الله سبحانه في عظمته ورحمته، فإننا نتطلع إلى الخير الكثير الصادر منه الّذي يملأ الكون والناس والحياة، لنستغرق في ذلك كله، فنرى في ذاته ينبوع الخير الذي لا نهاية له ولا انقطاع، ونتوجه إليه أن يمنحنا منه كل ما نحتاج إليه لارتباط وجودنا بإرادته وبنعمته ورحمته، ونستوحي من إنزاله القرآن على عبده محمد رسول الله(ص) كيف ينطلق الخير ليتحرك في توجيه الإنسان إلى ما فيه صلاحه في انفتاحه على الله في آفاق المعرفة ليلتقي بالمسؤولية في حركته في الدنيا السائرة نحو الاخرة من أجل مواجهة نتائج المسؤولية بين يديه، ما يجعل من التصور للقرآن تصوراً للخير الإِلهي الروحي الذي ينزله على رسوله تماماً كما ينزل المطر على الأرض ليمنحها الخير والبركة التي تنتج الخصب والرخاء.

أمَّا كلمة الفرقان، فقد تكون تعبيراً عن العمق الفكري والعملي الذي يوحي به القرآن، ليحدد الفروق الفاصلة بين الحق والباطل، لئلا تبقى هناك شبهة أمام أيّة قضية من قضايا الحياة التي يختلف فيها الرأي في ما يأخذ به الإنسان أو يتركه من شؤونها العامة والخاصة.. ولم ينزل الله القرآن على عبده ليكون شأناً خاصاً، بل {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً..}، ليستمع إليه الإِنس والجن، فيخلق في داخلهم الشعور بالخوف من الانحراف عن خط المسؤولية بما تمثله من رضى الله وغضبه في مواقع الرضى والسخط، وبذلك لا يكون الخوف الذي يثيره القرآن في داخل الإنسان حالة عقدةٍ ذاتية، بل حالة انطلاقٍ في الفكر والجدّية الواعية من أجل مواجهة الأمور على أساس الموقف الصلب المتحفز الذي يحتاط لكل شيء، دون أن يهمل أيّ شيءٍ فيه رضى الله، لا على أساس الاسترخاء الذاتي الذي يدفع بالإنسان إلى التسويف في العمل وفي تقويم الخط وتصحيحه.

وتلك هي قصة النفس الإِنسانية التي لا بد من أن تهزها بعمقٍ في عملية إثارةٍ، تماماً كما هي الأرض التي إذا أثرتها أعطت كل خير وخصب وحياة.

وإذا كانت كلمة العالمين شاملة لكل أصناف الخلق من الجماد والنبات والحيوان والإنسان والجن والملك، فإن المقصود بها في الآية المخلوقات الواعية العاقلة التي تحتاج إلى الإِنذار من أجل أن تتوازن وتستقيم في حركة الحياة.

* * *

لله ملك السموات والأرض

{الذي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ والأرض} فلا يملكها غيره، فله الهيمنة عليها، لأن ملكيته لها لم تكن مستمدة من مالك آخر، كما هو الملك القانوني الذي يخضع لحدود معينة، وضوابط محدّدة، تحدّد له الخطوط التي يتحرك فيها؛ بل كانت مستمدةً من طبيعة خلقه وإيجاده، فهو الذي أعطاها سرّ الوجود وملامحه التفصيلية، ما جعل كل شيء فيها بيده، وبذلك فإنه الذي يعلم كل ما يتعلق بها ويشرف على تحريكه من أكثر من موقع، وتلك هي العقيدة المنفتحة على كل فروعها من نفي الولد، ونفي الشريك، {وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } لأن الولد مظهر حاجة للاستعانة به على مواقع الضعف، وللامتداد من خلاله في الحياة من بعده.

والله هو الذي يملك القوّة كلها في الكون، فأيّ حاجة به إلى معين، وهو الحيّ الدائم الذي لا زوال له، فأيّ حاجة به إلى امتدادٍ للحياة بغيره؟! وليس لفكرة الولد بالمعنى المادي، أو الروحي، إلاَّ الوهم الذي لا يستوعب فيه الإنسان عظمة خلق الله، من خلال ما أراد الله أن يلبسهم من نعمه وفضله، فلا يفكر أنها هبة من الله لعبده كما يهبه الوجود، بل يحاول أن يتخيّل أن ذلك دليل ارتباط عضويّ بالله وانتساب إليه، تماماً كما هي الأوهام التي يصنعها الناس لبعض مخلوقات الله، في ما يتخيلونه لها من أسرار غامضة، وقداسةٍ خفية، فيمنحونها صفة إِله، من دون أيّ أساس لذلك كله في الملامح الذاتية لها، في ما يمثله مظهر وجودها بكل تفاصيله.

{وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ في المُلْكِ} يساويه ويعاونه، أو يضادّه، فلا شيء لأحدٍ معه، فهو الذي يملك السماوات والأرض وما فيهن وما فوقهن وما بينهن وما تحتهن، فكل موجود مخلوق له ومحتاج إليه في استمرار وجوده بكل دقائقه وخصائصه، فكيف يمكن أن يكون شريكاً له وكيف يمكن للمخلوق أن يرتفع إلى مستوى الخالق، أو يأخذ بعض خصائصه، وهل يمكن أن تجتمع في شخص واحد، الحاجة المطلقة إلى كل شيء، في ما يمثله معنى المخلوق، والغنى المطلق عن كل شيء في ما يمثله معنى الخالق والإِله؟!

* * *

السنن الكونية خاضعة لتدبير الله

{وَخَلَقَ كُلَّ شيء فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً ..} وأعطى كل شيء قانون حياته، مما خلقه من سننٍ كونيةٍ للوجود، وجعلها خاضعةً لتدبيره، وجاريةً على نهج حكمته. ولذلك كانت الفطرة تتجه إلى البحث عن سرّ الأشياء، في ما تختزنه من عمق السببية التكوينية في حركة الوجود، من خلال وعيها للنظام الكوني الكامن في عمق الظواهر، مما كان مرتبطاً بالخلق منذ بدايته، فلم تكن هناك حالة فراغٍ بين ما هو الخلق وما هو القانون الذي يحكمه ويديره، بل كان التقدير لازماً له في طبيعته. ولذا فإن الله يتولى تدبير الكون من خلال سننه الكونية، كما يشرف على حركته من خلال هيمنته على تلك السنن، لأنها لا تملك الاستغناء عنه، بل هي مشدودةٌ إلى قدرته وإرادته بطبيعة انشداد الوجود بنفسه إليه، فلا خالق غيره، ولا مدبّر سواه.

{وَاتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ آلِهَةً لاَّ يَخْلُقُونَ شَيْئاً} لأنهم لا يملكون السرّ المطلق للوجود في ذواتهم ليستطيعوا من خلال ذلك أن يمنحوا الوجود لشيءٍ آخر، {وَهُمْ يُخْلَقُونَ} حيث كانوا عدماً، ثم تحولوا إلى الوجود بخلق الله لهم، {وَلاَ يَمْلِكُونَ لاَِنفُسِهِمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً}، لأن ذلك كله خاضع للتدبير الإِلهي الذي يملك وحده الضر والنفع من ناحية المبدأ والتفاصيل، لأن سبب ذلك كله بيده {وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً} لأن للموت أسبابه الطبيعية التي هي بيد الله، وبإرادته، وبتقدير سببّيته من خلاله، وللحياة والنشور أسبابهما الخاضعة لله في كل مجالاتهما، وليس بيد هؤلاء شيء منها، فكيف يمكن أن يكون هؤلاء آلهة، وهم لا يملكون أيّ شيء من خصائص الآلهة، في ما يتصرفون به في شؤون خلقهم، وما يدبّرونه من أمورهم، ويحركونه من شؤون الحياة والموت والنشور؟!

إن المسألة لا تحتاج إلى عمقٍ في الفكر ودقةٍ في التحليل، بل كل ما هناك، أن الوجدان الصافي الحرّ سوف يكتشف حقيقة الوحدانية لله، ونفي الشريك عنه، من موقع البداهة الفطرية السليمة.

ــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الأصفهاني، الراغب، معجم مفردات ألفاظ القرآن، دار الفكر، ص:392.