تفسير القرآن
الفرقان / من الآية 4 إلى الآية 9

 من الآية 4 الى الآية 9

الآيــات

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاءوا ظُلْماً وَزُوراً* وَقَالُواْ أساطير الأولين اكْتَتَبَهَا فهي تُمْلَي عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً* قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَوَاتِ والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً* وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي في الأسواق لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً* أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً* انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الاَْمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} (4ـ9).

* * *

معاني المفردات

{إِفْكٌ}: الإفك: الكذب.

{أساطير}: الأساطير: جمع أسطورة بمعنى الخبر المكتوب، ويغلب استعماله في الأخبار الخرافية.

{اكْتَتَبَهَا}: الاكتتاب هو الكتابة، ونسبته إليه(ص) مع كونه أمياً لا يكتب إنما هي بنوع من التجوز لكونه مكتوباً باستدعاء منه، وقيل الاكتتاب بمعنى الاستكتاب.

{تُمْلَى}: الإملاء: إلقاء الكلام إلى المخاطب بلفظه ليحفظه ويعيه، أو إلى الكاتب ليكتبه، والمراد به في الآية هو المعنى الأول على وفق السياق.

{بُكْرَةً وَأَصِيلاً}: البكرة والأصيل: الغداة والعشي، وهو كناية عن الوقت بعد الوقت. وقيل المراد أول النهار قبل خروج الناس من منازلهم وآخر النهار بعد دخولهم في منازلهم، وهو كناية عن أنها تملى عليه خفية.

{الأمثال}: الأمثال: المثل هنا بمعنى الوصف.

* * *

كيفية مواجهة المجتمع المكيّ لمنطق الرسالة والرسول

كيف واجه المجتمع المكيّ الخاضع لسيطرة المشركين من قريش منطق النبوّة؟ وكيف كان يتحدث أفراده عن الرسول وعن القرآن؟ وما هي الخلفية الذهنية وراء ذلك؟

هذا ما تصوره لنا هذه الآيات.

* * *

افتراءات الكافرين

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَـذَا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَرَاهُ } فليس وحياً من الله ـ كما يزعم محمد ـ بل هو من فكره الذاتي الذي صنعه ونسبه إلى الله، ليحصل على الموقع المميز بيننا، فهو كذب لا يخضع لحقيقة، {وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ ءَاخَرُونَ } من أهل الكتاب، أو ممن يملكون ثقافة الكتاب في ما يتحدث به عن قصص الأولين ومفاهيم الكون والحياة والعقيدة والدار الآخرة، مما لا يملك معرفته لأنه لا يملك مصادرها، {فَقَدْ جاءوا ظُلْماً وَزُوراً} في كلامهم هذا، لأنهم لم ينطلقوا من مواقع شاملة لحقائق الأمور، ليستطيعوا الجزم بالافتراء في هذا القرآن، لأن ذلك يعني اطّلاعهم على الأساس الذي يكون به الإنسان رسولاً أو غير رسول، أو على ما يتميز به كلام الوحي عن غيره، في ما هو المضمون الفكري للكلام، كما أنهم لم يقدّموا أيّ دليل على مساعدة الآخرين له في ذلك، في ما شاهدوه من طبيعة العلاقة في ما بينه وبينهم، أو في ما يعرفونه من ثقافته الذاتية وثقافتهم، فليس هناك إلا الانطلاق من فرضيّة معقّدةٍ لا تخضع لفكر، ولا تتحرك من معلومات، وإنما تخضع للعقدة الذاتية في داخلهم، في ما يواجهون به التحدي الرسالي الذي واجههم به الرسول محمد(ص). ولهذا أطلقت الآيات الحكم على هذا الكلام الذي قالوه، فاعتبرته ظلماً، من جهة أن الاتهام لم يكن دقيقاً في معطياته، كما جعلته حكماً غير عادل، وأنه زورٌ، لأن أيّ حكم لا ينطلق من مواقع العلم فهو باطل.

* * *

قالوا: القرآن.. أساطير الأولين

{وَقَالُواْ أساطير الأولين اكْتَتَبَهَا} ولو بواسطة تكليفه الذين يحسنون الكتابة، أو بمعنى استكتبها ـ كما قيل ـ وذلك من خلال منافاة الكتابة للأمية في شخصيته. والأسطورة هي الخبر المكتوب، ويغلب استعماله في الأخبار الخرافية. ولكن، هل كانوا يتحدثون عن الطبيعة الخرافية للقصص والأخبار التي جاء بها القرآن، أو كانوا يتحدثون عن الأخبار في مضمونها الذاتي البعيد عن التقييم النقدي؟

ربما كانت المسألة تندرج في الجانب الأوّل من السؤال، لأن القرآن حدثنا عن الذهنية الجاهلية التي كانت تستبعد فكرة البعث والنشور والجنة والنار، ما قد يجعل الحديث عن ذلك ـ لديهم ـ حديثاً عن فكرةٍ خرافية، وربما كان الهاجس لديهم هو التنديد بفكرة الوحي الذي تختزنه النبوّة في دعوى النبي، ما يجعل البحث عندهم متصلاً بالجهة التي أملت عليه حديثه، ليؤكدوا بشريتها، لا ألوهيتها. وهذا ما يخطر في البال عند القراءة التأمليّة للآية التي ركزت التأكيد على أن هذه الأحاديث ليست وحي الله، بل هي أحاديث الأولين، التي هي عبارة عن قصص الأولين في تاريخ الأنبياء وأممهم، مما كان أهل الكتاب يعلمونه ولم يكن ـ في وعيهم ـ مرفوضاً في ذاته من الناحية الخرافية، لا سيّما إذا عرفنا أن التفكير الخرافي لم يكن بعيداً عن ذهنهم باعتباره تفكيراً عقلانياً قريباً من الحقيقة، أو متطابقاً معها.

{فهي تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} من هؤلاء الذين يملكون المعرفة ويلقونها إلى الناس ليحفظوها ويعوها، وإلى الكتَّاب ليكتبوها. وبذلك يكون المصدر الأصيل للمعرفة عنده بشرياً، تماماً كما هو الحال لدى الآخرين ممن يملكون الثقافة من التعلم عند أهلها من أهل الكتاب وغيرهم، في الغداة والعشي، في ما يعنيه ذلك من الكناية عن التكرار في الوقت، أي وقتاً بعد وقت.

* * *

القرآن من الله

{قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السِّرَّ في السَّمَوَاتِ والأرض} ويحيط بكل الأشياء التي لا يستطيع أن يحيط بها سواه، لأنه الذي خلق الكون كله، فهو يعلم السرّ الخفيّ الكامن فيها كما يعلم الأمور الظاهرة، ولذلك فلا بد لكم من دراسة هذا الوحي الذي أنزل عليكم من موقع العمق والدقّة في الفهم والتحليل، حتى تدركوا أنه لا يمكن أن يكون قول بشر، لأن الأسرار الكامنة في حقائق القضايا والمفاهيم والتشريعات التي يتضمنها، ليس باستطاعة الناس إدراكها. فقد يملك الناس معرفة الأمور التي تعيش في داخل تجربتهم الفردية والجماعية، ولكنهم لا يملكون المعرفة التي تبتعد عن مواطن الحس ومواقع الفكر، مما في آفاق السماء، وأعماق الأرض، لأن ذلك يحتاج إلى بعض الوسائل التي لا تتوفر لديهم إلا بعد جهدٍ كبير في زمن طويل، فلا بد لهم من التفكير في المسألة من هذا الجانب، من دون عقدةٍ، ليعرفوا كيف يمكن لهم مواجهة الموقف في حركة الرفض والقبول.

{إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} فهو لا يعامل عباده بمثل أعمالهم، فيتركهم لأنفسهم ليضيعوا في متاهات الجهل، وليضلوا عن طريق الصواب، بل يغفر لهم جهلهم، فيوحي إليهم بما يفتح لهم أبواب العلم، لينفتحوا عليه من موقع الإيمان، وعلى الحياة من موقع المعرفة الواعية الشاملة، ويرحمهم بما يرسله إليهم من الرسل الذين يبلّغونهم رسالاتهم، ويلطفون بهم في أسلوب التبليغ، ويعلّمونهم كل ما يجهلونه، مما يتصل بمصيرهم العملي في الدنيا والآخرة.

* * *

استنكار الكفار لبشرية الرسول (ص)

{وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الاَْسْوَاقِ} أي ما لهذا الذي يدعي الرسالة في شخصيته يصف نفسه بالرسول، وهو لا يملك من مظاهر ذلك شيئاً؟ كيف يمكن للرسول أن يكون بشراً في ممارساته الغذائية التي تتمثل في أكله للطعام ليسد جوعه كما نأكل، وفي حركته الجسدية، التي تتمثل في مشيه في الأسواق ليكتسب عيشه، كما نفعل، في الوقت الذي نرى فيه الرسالة تتصل بالغيب الإِلهي في ما يفرضه ذلك من ضرورة اتصاف الرسول بالمعنى الغيبي في شخصيته، وبالكيان التجريدي في ذاته، فلا يكون له حاجات المادّة، ولا ضغط الحاجة، لأن الذي يتلقى وحي الإِله لا بد من أن يكون فيه شيء من سرّه، تبعاً للانسجام بين الغيب في المعنى والغيب في الذات؟!

إننا نجد من خلال تفكيرهم هذا، أن المضمون الفكري لهؤلاء في شخصية الرسول يحمل الاحتقار للإنسان في بلوغ هذه الدرجة من السموّ، والإيمان بعجزه عن التلقي للوحي الإلهي من موقع القصور الذاتي لديه، لأن ذلك هو موقع الملائكة المقربين القريبين إلى أجواء الإِله، البعيدين عن قذارات الجسد الإنساني وعن حدوده المادية.

{لَوْلا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } ليكون ذلك سبيلاً من سُبُل التصديق برسالته، وليكون الملك هو الذي يحمل الرسالة من الله من خلال قابليته لذلك، وهو الذي يعلِّم هذا الشخص قواعدها ومفاهيمها، ويتدخل في تعميق شخصيته بالإيحاء الروحي الغيبي الذي يثير في ذاته المعنى الغيبي والعمق الروحي، ثم يتحرك معه في الساحة لينذر الناس معه، فيصدقوه بذلك عندما يرون الملك الرسول يتحرك في الإنذار مع الإنسان الرسول.

{أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا} ثم تصغر الصورة عندهم، وتنكمش المطالب، فلا بد من وضع غير عادي يتميز به هذا الرسول ليقنع الناس برسالته، وليفهموا بأن هناك شيئاً غيبياً في ذاته، فلو ألقي عليه من السماء كنز يجعله غنياً عن الآخرين، أو كانت له جنة منتجة مثقلة بالفواكه والخضروات التي يتغذى منها، فلا يحتاج إلى المشي في الأسواق للاكتساب كما يفعل الناس، لو حدث ذلك له، لأمكننا أن نصدقه في هذه الصفة الغيبيّة التي يدّعيها لنفسه.

{وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} وهذا ما حاولوا أن يتحدثوا به ليصرفوا الناس عنه، ليتهموه بالجنون، أو أنه شخص مسحور خاضع لتأثيرات السحرة الذين استطاعوا أن يسحروه فيجعلوه يتخيل الأشياء التي لا وجود لها، أو يدَّعي أموراً لا حقيقة لها.

{انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً} لقد عاشوا المأزق الكبير عندما واجهتهم حقائق الرسالة التي لم يستطيعوا الوقوف أمامها، ولذلك كانوا يبحثون عن كلمةٍ، أيّة كلمةٍ، وعن صفةٍ، أية صفة، حتى يثيروها أمام الناس لإِثارة الشك في عقولهم، ولإبعاد مواقفهم عن التأثر بمواقفك، في ما يمكن أن يلصقوه بك من اتهامات في صدقك وعقلك، وطبيعة شخصيتك، ولذلك تخبطوا وضلّوا، فلم يقفوا عند قاعدةٍ معقولة ثابتة، ولم يحصلوا على نتيجة حاسمة، لأنك استطعت أن تكسب الناس إلى رسالتك، وأن تفتح أكثر من طريق إلى عقولهم، وبذلك لم يستطيعوا أن يفتحوا أيّ طريق إلى كلمات السوء التي كانوا يريدون أن يضلِّلوا بها عقول الناس.