تفسير القرآن
الفرقان / من الآية 10 إلى الآية 20

 من الآية 10 الى الآية 20

الآيــات

{تَبَارَكَ الذي إِن شاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً* بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ وأعتدنا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً* إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً* وإذا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً* لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً* قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جزاءً وَمَصِيراً* لَّهُمْ فِيهَا مَا يشاءون خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسْؤولاً* وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عبادي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ* قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ ينبغي لنا أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أولياء وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً* فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً* وما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسواق وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} (10ـ20).

* * *

معاني المفردات

{قُصُوراً}: القصور جمع قصر وهو البيت المشيّد العالي. وتنكير (قصوراً) للدلالة على التعظيم والتفخيم.

{تَغَيُّظاً}: الغيظ أشدّ الغضب، والتغيظ هو إظهار الغيظ.

{وَزَفِيراً}: الزفير تردد النفس حتى تنتفخ الضلوع منه.

{مُّقَرَّنِينَ}: مقيدين.

{ثُبُوراً}: الثبور: الفساد والهلاك.

{بُوراً}: فرط الكساد ولما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد، كما قيل كسد حتى فسد، عبّر بالبوار عن الهلاك.

{صَرْفاً}: الصرف: بفتح الصاد: الدفع.

{فِتْنَةً}: الفتنة هنا الامتحان.

* * *

مناسبة النـزول

روي في الدر المنثور حول هذه الآيات، ما من شأنه أن يوضح لنا بعضاً من الصورة التي توحي بها مفرداتها.

جاء في الدر المنثور ـ للسيوطي ـ: «أخرج ابن اسحاق وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس، أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب، والنضر بن الحارث، وأبا البختري، والأسود بن المطّلب، وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة، وأبا جهل بن هشام، وعبد الله بن أمية، وأمية بن خلف، والعاصي بن وائل، ونبيه بن الحجاج، اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه أنّ أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك.

قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقالوا له: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تريد به مالاً جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب الشرف فنحن نسوِّدك، وإن كنت تريد ملكاً ملّكناك.

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما لي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم. قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئاً ممّا عرضنا عليك... فسل لنفسك، وسل ربك أن يبعث معك ملكاً يصدّقك بما تقول ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق، وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً، كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم: ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً.

فأنزل الله في قولهم ذلك: {وَقَالُواْ مَا لِهَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ}، إلى قوله: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً}، أي جعلت بعضكم لبعض بلاءً لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسولي فلا تخالفوه لفعلت»[1].

* * *

عدم مصداقية الكفار في اتهام الرسول(ص)

كيف يثير هؤلاء اقتراحاتهم أمام دعوة النبي، وكيف يطلقون التحديات في مواجهتها، فهل هم جادّون في ذلك، أو أنهم يتحدثون بطريقةٍ غير مسؤولة من أجل إثارة الأجواء التي تبعد الساحة عن التفكير في القضايا الفكرية العقيدية التي دعا إليها النبيّ، كما يفعل الكثيرون الذين لا يريدون للناس أن يستغرقوا في الدعوة التي يقدّمها المفكرون والمصلحون إليهم ليفكروا فيها وفي مضمونها ليقتنعوا بها، أو ليدخلوا معهم في حوار حولها ليكون ذلك سبيلاً لإِدخالها إلى مناطق التفكير الجادّ لديهم، فيبادر أولئك المعارضون لطرح أمور هامشية بعيدة عن المواقع الحقيقية للدعوة، بالتأكيد على شخصية الداعية، أو بإثارة الشكوك حوله أو حول الدعوة، ليثور الجدل في ذلك بدلاً من أن يتحرك في القضايا الأصليّة؟!

كيف يطلب هؤلاء منه أن يقوم بتلك الأعمال الخارقة التي لا يستطيع أيّ بشرٍ بقدرته العادية أن يحققها، وهل كانت دعوى النبوّة تعني القيام بمثل ذلك أو تختزن في مضمونها ادّعاء القدرات الغيبيّة أو العمق الإِلهيّ الذي يمكنه من تحقيق ذلك؟ لقد كان النبيّ يعلن دائماً أنه بشر يحمل الرسالة، ما يعني اقتصار العلاقة الإِلهية المميزة بشخصيته، التي يختلف بها عن بقية الناس، على الوحي الذي ينزله الله عليه ليبلغه للناس كرسالةٍ إِلهيةٍ، بعيداً عن كل شيء آخر، لأن ذلك هو دور النبي في الحياة، فليس دوره أن يغيّر صورة العالم في صفته التكوينية، بل كل دوره أن يغيّره في صفته الفكرية والعملية في حركة الحياة والإنسان. حتى المعجزة، ليست غايةً في الرسالة، بل هي وسيلةٌ لمواجهة التحدي الكبير حولها، ولم تكن بقدرة النبيّ بل كانت بقدرة الله.

* * *

تبارك الله

{تَبَارَكَ الَّذِي إِن شاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلِكَ} الذي اقترحوه عليك من الكنز والجنة أو ما شابه ذلك، {جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَْنْهَارُ وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً} فإن الله الذي خلق الكون كله وخلق الإنسان فيه، لا يعجزه شيء من ذلك، ولكن، لماذا يجعل لك ذلك بطريقةٍ غير عادية، من دون حاجةٍ بك إلى ذلك، لا من جهة الدور، ولا من جهة الذات؟ هل يجعل ذلك لأنهم اقترحوه عليك، وهل يمكن أن يقف النبي أمام الناس ليكون كل عمله أن يواجه في كل يوم اقتراحات جديدة في تغيير الأوضاع الكونية، ليرضي هذا أو ذاك في أساليب لا توحي بالجدّية في الطرح، بل توحي باللعب؟!

وقد نستوحي من هذا الرد الإِلهي على اقتراحاتهم التعجيزية للنبي أن المسألة المطروحة في ما قد يشاء الله تحقيقه للنبي(ص) هي الجنات في الدنيا لا في الآخرة، خلافاً لما ذكره البعض، وذلك من خلال طبيعة الجو الذي توحي به الآية.

* * *

مصير المكذبين بالرسالة

{بَلْ كَذَّبُواْ بِالسَّاعَةِ} وأنكروا الحساب، فلم يتحركوا في مواقع الرفض والقبول، والإيمان والكفر، من الإحساس بالمسؤولية، بل تحركوا من موقع اللهو واللعب واللامبالاة، ما جعلهم لا يفكرون بالقضايا المصيرية، في ما يتصل بالنبوّة من مسألة المصير، بالطريقة الدقيقة التي تحسب حساب الواقع الجدّي للمسألة، ليناقشوا طروحات النبي، في ما يدعوهم إليه، وفي ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه، وفي ما يؤكد نبوّته، بالأسلوب الفكري، وبالمناقشة المتزنة. وهذا هو السرّ في مواقف الكثيرين الذين يهزلون في مواقع الجدّية، ويسخرون في مجالات الحقيقة، لأنهم لا يحسبون حساب النتائج السلبية على مستوى المصير، في ما هو العقاب والجزاء.. {وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً} لأنه لم ينطلق من فكرٍ يؤكد له ذلك، بل انطلق من فقدان التوازن في البحث عن الحقيقة بالوسائل المعقولة للمعرفة، من خلال ما تستقبله من أجوبة ومعلومات، وبذلك أهملوا الحجة البالغة التي أقامها الله عليهم من حركة العقل في داخلهم، وحركة النبوة في آيات الوحي في حياتهم، فكان انحرافهم من دون حجة، وعصيانهم من دون قاعدة، وهذا هو سرُّ العذاب ـ دائماً ـ الذي يتوعد الله به عباده الكافرين والعاصين، لأنهم واجهوا المسألة بمنطق اللامبالاة التي أوقعتهم في الانحراف، في الوقت الذي كانت الظروف الداخلية والخارجية في كيانهم وحياتهم منفتحة على الحقائق الإلهية في الإيمان والطاعة والاستقامة.

{إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} إنها الصورة المثيرة للنار التي تكاد تلمح فيها الإحساس الواعي في مواجهة هؤلاء الذين تمردوا على خالقهم بالكفر والعصيان، وذلك من خلال لهيبها، فكأنها تتحفز للانقضاض عليهم من موقع النقمة الداخلية المتوثبة في ما تظهره من غيظ، وتتنفس به من صوت يتردد في ثورتها الملتهبة بالغضب والانفعال، {وَإَذا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً} لا يكادون يملكون فيه حرية الحركة لضيقه {مُّقَرَّنِينَ} مصفدين بالأغلال {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} وهو الهلاك الذي يتحول إلى نداء استغاثةٍ ينطلق من الأعماق في كلمة تعبر عن الحسرة العميقة.. وا ثبوراه.

{لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً } لأنكم لن تواجهوا نوعاً واحداً من الهلاك، {وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً} فهناك أكثر من موقف يواجهكم فيه الهلاك، وأكثر من نوعٍ من أنواع العذاب الذي ينتظركم في النار، وربما كان المعنى، أن هذا النداء لن يفيدكم، سواءً أطلقتموه مرّةً واحدة أو أكثر من مرة، لأن العذاب سيستمر، فلا ينفع فيه الدعاء والاستغاثة أصلاً.

* * *

مصير المصدقين بالرسالة

{قُلْ} لهم ـ يا محمد ـ: {أَذَلِكَ} السعير الذي تواجهونه في النار جزاءً لكفركم وعصيانكم {خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وَعِدَ الْمُتَّقُونَ} الذين آمنوا بالله واتقوه وجاهدوا في سبيله من موقع إحساسهم بالمسؤولية من خلال ما رزقهم الله من سمع وبصر، ووهبهم من عقل، مما يحركونه في سبيل المعرفة، ويصلون من خلاله إلى مستوى الإيمان واليقين {كَانَتْ لَهُمْ جَزَآءً وَمَصِيراً } حيث أعطاهم الله من فضله، وفتح لهم جنته، واحتواهم برضوانه ومنحهم حرية الاختيار والتمني، فليس هناك شيءٌ مما يحبونه يحرمون منه، فلهم أن يطلبوا ما يريدون {لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ} فهم قد حرموا أنفسهم الكثير مما حرمه الله في الدنيا، وقد صبروا على مرارة الجهاد في سبيل الله، طمعاً بما وعدهم الله من رضوانه، وما أشار به إليهم من نعيمه في جنته. وها هم الآن يصلون إلى الله في مواقع لطفه وحنانه، فلا جهد ولا مرارة ولا حرمان، بل هو الراحة والحلاوة والعطاء الإِلهي الذي لا يقف عند حدّ، فليطلبوا، فكل شيء في متناول أيديهم، وليحلموا، فلن ينتظروا أيّة لحظة في سبيل تحقيق أحلامهم، وليشتهوا، فينالوا كل مشتهياتهم، {خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْداً مَّسؤولاً} فقد وعدهم الله ذلك الوعد على مستوى الواقع، وقد سألوه في مشاعرهم وفي ابتهالاتهم، وها هو الجواب على تطلعات ذلك السؤال الذي التقت به الدنيا والآخرة.

{وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} في صعيد واحد، في موقع المسؤولية، حيث يقف المعبودون والعابدون الذين عاشوا الانحراف عن خط التوحيد في ما قدمه هؤلاء من فروض العبادة لأولئك من دون الله، وما تقبّله أولئك منهم، أو شجعوهم عليه، أو طلبوه منهم مما كان يخيّل إليهم من ضخامة شخصيتهم بالمستوى الذي يتحولون به إلى مستوى الآلهة، أو ما لم يتقبلوه منهم، من المعبودين الذين لا يرون لأنفسهم أيّ سرٍّ يؤهلهم لذلك، كالملائكة الذين كان يعبدهم بعض الناس من دون الله {فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هؤُلاَءِ} من خلال ما دعوتموهم إليه، أو ما زينتموه لهم، من عبادتكم {أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} من خلال جهلهم بحقيقة الألوهية، بما هو التوحيد في الإِله، أو تجاهلهم لحركة المعرفة في العقل، ولإِيحاءاتها في الشعور، ولموقعها في الحياة.

وهذا هو السؤال الذي يريد أن يجسد أمام العابدين لغير الله، كيف ينظر الذين يعبدونهم من دون الله إلى أنفسهم أمامه، وكيف يتطلعون إلى هذه العبادة الإشراكية الزائفة. {قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ} إننا نعيش عمق الإحساس بعظمة الوحدانية في ألوهيتك، فليس لدينا أمامك إلا الانسحاق والذوبان الذي يتحوّل إلى تسابيح نطلقها في سمائك. فمن موقع الإيمان العميق نوحّدك، وإذا كان التوحيد هو سرّ الإيمان فينا، فكيف ينبغي لنا أن نتخذ من دونك أولياء، فنواليهم ونخلص لهم ونتقبلهم، وهؤلاء هم الذين عبدونا من دونك، وقدّموا لنا فروض العبادة بدلاً منك. ولكن كيف حدث ذلك؟

{وَلَكِن مَّتَّعْتَهُمْ وآبَآءَهُمْ حَتَّى نَسُواْ الذِّكْرَ} فقد عاشوا في إحساسهم المليء بالشهوات، الغارق في أمواج الأحلام، وامتدوا بالمتع الحسية حتى استغرقوا فيها، وشُغلوا بها حتى انفصلوا عن كل ما عداها من حقائق العقيدة والحياة، فنسوا الله ونسوا أنفسهم وغابوا عن التطلع إلى اليوم الآخر، واحتضنوا العظمة الفانية، وتركوا العظمة الخالدة، وإذا عاشت الشهوة كقيمة كبيرةٍ في حياة الإنسان، وتحركت المتعة كهدف أصيل في الذات، فإن ذلك سوف يصنع له آلهةً كثيرة من الخيال، في ما يستغرقه من غيب الأوهام، وفي ما يثيره من ضباب الأحلام.

وهكذا نسي هؤلاء الذكر، وعاشوا الغفلة في غيبوبة الفكر وضياع الشعور، فلم ينفتحوا على التوحيد في مواقع الوعي، وعلى الإيمان في مطالع الشروق. وإذا نسي الناس الذكر، التقوا بالأصنام البشرية والغيبية والحجرية، وضلوا ضلالاً بعيداً.

{وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً} أشقياء هالكين في إسرافهم على أنفسهم بالكفر والضلال، {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } بما تمنحونهم من صفات الألوهية، أو ما تقدمونه من فروض العبادة، وأعلنوا البراءة منكم، فلم يكن لهم أيّ دور في إضلالكم، بل كنتم ـ أنتم ـ الضالين، {فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً} بأن تصرفوا عن أنفسكم العذاب بشفاعتهم أو بعبادتهم {وَلاَ نَصْراً } بأن تجدوا لكم ناصراً ينصركم من عذاب الله.

{وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } نفسه بالكفر والعصيان {نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً }، لأن الأمر كله لنا وليس لأحد معنا شيء، ولا يستطيع أحد أن يمنعنا مما نريده. وهذا ما ينبغي أن يعيشه الناس كلهم في مسألة العقيدة والطاعة، في ما يظلمون به أنفسهم، أو يظلمون به ربهم في تجاوزهم لما له عليهم من حق. إن الانحراف عن الحق، في الموقع الذي يستطيع الإنسان أن يبلغ الحق أو يكتشفه، يعني الوقوع في العذاب لا محالة. {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} الذين آمن بهم هؤلاء {إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الاَْسْوَاقِ } كما تأكل ـ أنت ـ الطعام، وتمشي ـ مع الناس ـ في الأسواق، فلست أول الأنبياء الذين يتصفون بالبشرية، ويتحركون على طريقة البشر في حياتهم المادية والروحية، فلماذا يتطلبون فيك ما لم يتطلبوه في غيرك؟! ولماذا يستغربون بشريتك، أو يتطلبون الملائكة معك، أو ما شابه ذلك؟!

{وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً } حيث تمثل بشرية النبي امتحاناً للناس في إيمانهم عندما يأتيهم النبي بشراً عادياً كبقية الناس، لا يحمل في ذاته أيّة خصوصيةٍ تميزه عنهم، فيدعوهم إلى عبادة الله الواحد الأحد، ويبلغهم وحيه الممتد في كل جوانب الحياة، ما يجعل من الإيمان اختباراً لحيوية الفكر وأصالته وحركته في طريق الإيمان القائم على المعرفة، بعيداً عن كل العوامل التي تخطف بصره، وتسلب لبّه، وتثير شعوره {أَتَصْبِرُونَ } على التحديات الكبيرة التي تواجهكم بالأوهام التي تنحرف بكم عن خط الإيمان، وعلى الجهد الطويل الذي يفرض عليكم الوقوف عند مواقع العمق في الفكر، والانفتاح في الرؤية، والامتداد في الإحساس، وعلى المشاكل المتنوعة المعقدة التي تتحدى راحتكم وأمنكم وشهوتكم ومزاجكم في حياتكم العامة والخاصة، مما يثيره أمامكم أعداء الله والإيمان؟

{وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } عارفاً بكل ما تحتاجون إليه في نظام حياتكم، في ما تسيرون نحوه من سعادة أو شقاء، فيدفعكم إلى ما فيه السعادة، ويمنعكم عما يجلب لكم الشقاء.

ـــــــــــــــــــــ

(1) السيوطي، عبد الرحمن، جلال الدين، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور، دار الفكر، 1993مـ 1414هـ، ج:6، ص:236ـ237.