من الآية 21 الى الآية 26
الآيــات
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لقاءنا لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً* يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً* وقدمنا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هباء مَّنثُوراً* أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً* وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً* الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} (21ـ26).
* * *
معاني المفردات
{ يَرْجُونَ }: الرجاء: ترقب الخير الذي يقوى في النفس وقوعه، ومثله الطمع والأمل.
{ لِقَآءَنَا }: اللقاء: المصير إلى الشيء من غير حائل.
{عَتَوْا }: العتو: الخروج إلى أفحش الظلم.
{حِجْراً }: الحجر: الممنوع منه بتحريمه، وقد جاء في المفردات: كان الرجل إذا لقي من يخاف يقول ذلك[1]. وعن الخليل: كان الرجل يرى الرجل الذي يخاف منه القتل في الجاهلية في الأشهر الحرم، فيقول: «حجراً محجوراً»، أي حرام عليك حرمتي في هذا الشهر، فلا يبدأه بشرّ[2].
{مَّحْجُوراً }: محرّماً.
{وَقَدِمْنَآ }: قصدنا.
{هَبَآءً }: الهباء: الغبار الدقيق.
{مَّنثُوراً }: المنثور: المتفرّق.
{مُّسْتَقَرّاً }: المستقر: مكان القرار كالبيت.
{مَقِيلاً }: المقيل: مكان القيلولة.
* * *
نموذج لمنطق المشركين الهروبي من الحقيقة
وهذا نموذج من المنطق الهروبيّ الذي يحاول المشركون أن يهربوا ـ من خلاله ـ من مواجهة الحقيقة الرسالية التي كانت تريد لهم مواجهة منطق الرسول بالحوار القائم على الفكر في ما يثيره أمامهم من حقائق الإسلام في رسالته، فيثيرون الأمور البعيدة عن اتجاه الموضوع.
{وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقاءَنَا} ولا يترقبون وقوعه، لأنهم لا يؤمنون بالقيامة التي يقفون فيها أمام الله ليواجهوا حساب أعمالهم في الدنيا. وبذلك كانوا لا يمارسون الموقف من منطق المسؤولية، بل من منطق الهروب واللامبالاة.
{ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة } لنراهم رأي العين لنتعرف صدق النبي في نزول الوحي عليه عندما نشاهدهم كيف يلقون عليه الوحي وكيف يلتقيهم ويحدثهم ويحدثونه {أَوْ نَرَى رَبَّنَا} في ما كانوا يعتقدونه من تجسد الإِله بحيث يمكن للناظر أن يراه، لنسأله عنك وعما تدعيه من إرساله لك بالرسالة التي تدعونا إليها، فذلك هو الذي يمكننا من تصديقك. وربما كان في قوله { أَوْ نَرَى رَبَّنَا} نوعٌ من التهكم منهم، لأن «المشركين ما كانوا يرونه تعالى ربّاً لهم، بل كان عندهم أن أربابهم ما كانوا يعبدونهم، والله سبحانه رب الأرباب، فكأنهم قالوا للنبي(ص): إنك ترى أن الله ربك، وقد حنّ إليك فخصك بالمشافهة والتكليم، وأنه ربنا، فليحن إلينا وليشافهنا بالرؤية كما فعل بك»[3].
ولكننا لا نستفيد من الآية ذلك، بل كانت المسألة نوعاً من التحدي له، إذ كانوا يعتقدون عدم صدقه في ادّعائه الاتصال بالملأ الأعلى. أمَّا حكاية أنهم لا يرونه ربّاً لهم، فهذا ما لم نلاحظه في ما قصه القرآن من عقيدتهم بالله، بحيث كانت الأصنام وسيلة تقريب لهم إلى الله.
{ لَقَدِ اسْتَكْبَرُواْ في أَنفُسِهِمْ } من خلال ما يجدونه من العظمة لأنفسهم بالمستوى الذي يمنعهم من الخضوع للحقيقة الإِلهية التي يحملها شخص منهم كمحمد(ص)، لأنهم لا يرون له المقام الرفيع الذي يؤهله للارتباط بعالم الغيب، مما كانوا يزعمونه من العلاقة الطبيعية بين ما هي الطبقة الاجتماعية في صفة الشخص، وبين المهمة الرسالية له. وبذلك كانت الكبرياء حاجزاً بينهم وبين الإيمان، ممّا قادهم إلى الطغيان { وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } أي طغوا طغياناً عظيماً، في تصرفاتهم وممارساتهم العامة والخاصة.
وقد أجاب القرآن على رغبتهم في رؤية الملائكة عندما ينزلون إلى الأرض أمامهم بأنهم سيرون الملائكة، ولكن في عالم آخر، وهو عالم القيامة، غير أن ذلك لن يكون مريحاً لهم، بل سيجلب الشعور بالخوف في مواقع الخطر من خلال أعمالهم السيئة في الدنيا {يَوْمَ يَرَوْنَ الْملائِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} لأنهم لم يقدّموا أيّ عملٍ في طاعة الله مما يمكن أن يجلب لهم البشرى من الملائكة، كما يفعلون مع المؤمنين المتقين {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً}. هكذا يتحدث القرآن عن قول المشركين في ذلك اليوم، إذا رأوا الملائكة، بهذه الكلمة، {حِجْراً مَّحْجُوراً } أي لنكن في معاذٍ منكم مما تقصدوننا به من العذاب، أو عن قول الملائكة للمشركين هذه الكلمة، حرام عليكم سماع البشارة بالجنة وبالنجاة أو ما شابه ذلك.
{وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} مما أرادوا به الحصول على السعادة، واستسلموا لنتائجه الحلوة في غفلتهم عن الموت وعما بعد الموت {فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } تماماً كما هو التراب الدقيق الذي يتناثر في الهواء عند أوّل ريح تمرّ فلا يبقى منه شيء. وهكذا يواجهون الآخرة من دون رصيد في ما يمكن أن يثبِّت لهم أقدامهم هناك، أو يحقق لهم شيئاً من السعادة، حتى أن أعمالهم الصالحة التي قاموا بها في الدنيا من خلال مزاجٍ إنسانيّ، أو عادةٍ خيّرةٍ، أو رغبةٍ حميمةٍ، لا يبقى منها أيّ أثر، لأنها لم ترتكز على قاعدة الإيمان بالله، ولم تنطلق من خلال الرغبة في رضاه، وقد حصلوا على ما يقابلها مما حصلوا عليه من نعيم الدنيا، فلم يسلم منه شيء.. وهكذا يقفون هناك وقفة المعدم الحائر الذي يشعر بأن كل شيء عنده قد تحوّل إلى لا شيء في مسألة المصير الدائم، فلم يعد له مكان إلا في النار.
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ} الذين آمنوا بالله وعملوا صالحاً، وأخلصوا دينهم الحق لله، وانطلقوا في حياتهم على أساس محبة الله، والرغبة في رضاه {يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} بما منحهم الله من الأرض الصلبة الثابتة في مواقع الحق {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} مما يرتاح إليه الناس ويقيلون فيه، فيشعرون بالراحة بعد التعب. وهكذا يلتمس هؤلاء المتقون الراحة والاستقرار والظل الظليل بعد كل العناء الذي تحملوه في الدنيا.
{وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السماء بِالْغَمَام} الذي يحجب ضوء الشمس، وذلك في يوم القيامة، وتنفتح للناظرين فلا يسترها شيء {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} بما يوكله الله إليهم من مهمّات القيامة في شؤون الحياة الجديدة في حسابها وثوابها وعقابها.. وتلك هي الفرصة التي يمكن أن يرى فيها هؤلاء وغيرهم الملائكة، وهي تتنزل من السماء بطريقةٍ عجيبةٍ؛ {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ} فلا ملك لغيره، وهو الملك الحق الثابت المهيمن على الأمر كله من خلال حكمه وسيطرته على كل شيء {وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً} لأنهم يقفون أمام الله الجبار القهار الذي أنكروه وعبدوا غيره، أو أشركوا به غيره، من دون حجة ولا سلطانٍ. وها هم يواجهون الموقف الصعب الذي يقدّمون فيه كل حسابات عملهم التي لا يملكون فيها أيّ حقٍّ في الرحمة، أو أي موقعٍ للمغفرة والرضوان، ما يجعل الموقف عسيراً عليهم في مواجهة المصير الأسود من عذاب النار.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:107.
(2) الطبرسي، أبو علي الفضل بن الحسن، مجمع البيان في تفسير القرآن، دار إحياء التراث العربي، ط:1ـ1412هـ، 1992م.
(3) الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي، ط:1، 1411هـ ـ1991م، بيروت ـ لبنان.
تفسير القرآن