تفسير القرآن
الفرقان / من الآية 32 إلى الآية 40

 من الآية 32 الى الآية 40

الآيــات

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً* وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً* الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً* وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هارون وَزِيراً* فَقُلْنَا اذهبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بآياتنا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً* وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ للنَّاسِ آيَةً وأعتدنا للظالمين عَذَاباً أَلِيماً* وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً* وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً* وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً} (32ـ40).

* * *

معاني المفردات

{لِنُثَبِّتَ }: الثبات ضد الزوال، والإثبات والتثبيت بمعنى واحد، والفرق بينهما بالدفعة والتدريج.

{فُؤَادَكَ }: الفؤاد: القلب.

{تَرْتِيلاً }: الترتيل:التبيين في تثبيت. وهنا الإتيان بالآية عقيب الآية، وبالسورة بعد السورة.

{بِمَثَلٍ }: المثل: الوصف، أي لا يأتونك بوصف فيك أو في غيرك جاؤوا به عن الحق أو أساؤوا تفسيره، إلاّ جئناك بما هو الحق فيه أو ما هو أحسن الوجوه في تفسيره.

{تَفْسِيراً }: التفسير: كما جاء في الراغب: المبالغة في إظهار المعنى المعقول، كما أن الفسر بالفتح فالسكون إظهار المعنى المعقول[1].

{يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ }: يسحبون عليها.

{الرَّسِّ }: قال الطبرسي: الرس البئر التي لم تطوَ بحجارة ولا غيرها[2].

{وَقُرُوناً}: القرن أهل عصر واحد، وربما يطلق على العصر نفسه، والإشارة بذلك إلى من مرّ ذكرهم من الأقوام، أولهم قوم نوح وآخرهم أصحاب الرّس أو قوم فرعون.

{تَتْبِيراً}: التتبير: الإهلاك.

{نُشُوراً}: النشور: البعث.

* * *

المشركون يثيرون شبهة نزول القرآن تدريجياً

كان المشركون يثيرون الشبهات حول القرآن ليشككوا في نزوله من عند الله وليبطلوا مفعول تأثيره في النفوس من خلال الإِيحاء الداخلي بقداسته الروحية، وليحاولوا ـ بالتالي ـ إبطال الإيمان برسالة الرسول، ليتحول ـ في نظر الناس ـ إلى رجلٍ عاديٍّ يختلق الكلام وينسبه إلى الله.

وقد كان من بين هذه الشبهات، الحديث عن نزول القرآن عليه على دفعات، في الوقت الذي كانوا يسمعون عن التوراة والإنجيل، بأنهما قد نزلا على موسى وعيسى(ع) دفعةً واحدة، وكما يوحي به لفظ الكتاب الذي يدل على مجموعة من الفصول المترابطة ببعضها البعض تمثل وحدة الفكرة العامة الموزّعة على مواقع متعدّدة، كما هو الدين في معناه الشامل الذي يتضمن العقيدة والشريعة معاً.

وفي ضوء ذلك، فإن هذا النزول التدريجي الذي لا ترتبط فيه أجزاء الآيات ببعضها البعض، باعتبار أنه موزّع على الحوادث والقضايا التي يعيشها الرسول مع الناس، وعلى المشاكل التي يثيرونها حوله، قد يدلّ على أن المسألة تعبِّر عن معاناةٍ شخصيةٍ تتأثر بالأحداث، فتصنع في كل حدث فكرة تنسجم معه، وتجيب عن كل مسألةٍ بجواب يخرجها من المأزق، وتعالج كل قضيّة بما يتناسب معها من الحلول.. وهكذا يفتقد النبي معنى الرسالة الكاملة الشاملة التي يقدمها الله إلى البشر كحلٍّ متكامل لكلّ مشاكلهم في الحياة، لينطلقوا فيه من موقع القاعدة الثابتة التي يلجأون إليها في كل منطلقٍ للحياة، بل يكون مثل بقية الناس الذين تتكامل لديهم الأفكار تبعاً للمراحل التي تتكامل بها حياتهم.

وهذا ما عبرت عنه الفقرة التالية من هذه الآية:

{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي دفعة واحدة، فلماذا يُنزَّل عليه على عدة دفعات تتنوّع فيها الأفكار على أساس تنوّع الأوضاع، واختلاف الحوادث والأشخاص؟

* * *

القرآن يجيب عن الشبهة

ولكن الله يثير أمامهم المسألة من موقع الصفة الحركية للرسالة، والخط التربويّ للمسيرة الإنسانية في حركية الإسلام في تنمية الفكر والروح، ومراقبة الحركة في الوسيلة والهدف وفي مواجهة التحديات.

فلم يكن الإسلام مجرّد فكرٍ يراد للناس أن يختزنوه في وعيهم في مواقع نظريةٍ للمعرفة المجرّدة، بل كان فكراً يراد له أن يتجذّر في النفس والواقع والحياة، لأن المقصود هو تنمية الروح الإسلامية في الإنسان، في عملية صنع الأمة على هدى الإسلام وتعاليمه. ولهذا كانت الخطة أن تطرح الفكرة في ساحة التطبيق، ليعيش المسلمون المشكلة، فتتفاعل في عقولهم ومشاعرهم، وتحتوي أوضاعهم وعلاقاتهم، لتأتي الآية بالحل المناسب الذي يستوعب الحالة كلها، فيرى الناس الحل في حجم المشكلة، وفي صعيدها، وينظرون إلى الفكرة وهي تتحرك في الأرض بطريقةٍ واقعية، فيعيشون واقعيتها، فتثبت في شخصيتهم في عمق التأثير، وبذلك تمنحهم المعرفة والتطبيق، والثبات الفكري والروحي والعملي على الخط المستقيم. وهناك فرقٌ بين أن يأخذ الفكرة من مواقع التجريد، وبين أن يأخذها من مواقع الواقع. فإن الانطلاق من الواقع يثبّت الشخصية من خلال الفكرة، تماماً كما هو الماء الذي ينفذ إلى الأرض ليمنحها الحيوية والنموّ في البذور الساكنة في التراب.

هذا هو الأساس في تنزّل القرآن على دفعات من أجل أن يواكب القرآن المسيرة كلها ليرعاها ويشرف عليها ويجنّبها المشاكل الصعبة، وينظّم لها خطوطها التفصيلية على مستوى حركة القيادة والتزام القاعدة ونهج المسيرة، لأن ذلك يمنع الاهتزاز الروحي والفكري والعملي، ويحفظ القاعدة من السقوط والانهيار، لأنها تتحرك بعين الله ورعايته وإشرافه، في كل حركةٍ، وفي وكل مشكلةٍ. وهذا الذي أشارت إليه الفقرة التالية.

{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} والفؤاد يعني الشخصية العقلية والروحية التي قد تتعرض للاهتزاز بفعل المشاكل والتحديات التي تثير الإحساس السلبي وتهزّ القلب بالآلام، فكأن القرآن يحتوي ذلك كله، في ما يمنحه من وضوح الرؤية للأشياء بالمستوى الذي يفهم فيه طبيعة الموقع الذي يقف فيه، ونوعية الخط الذي يسير عليه، والهدف الذي يسعى إليه، فلا يبقى هناك مجالٌ للاهتزاز الروحي والنفسي والعملي.

وإذا كان الله يتحدث عن تثبيت النبي، فإنه يتحدث عنه بصفته القيادية من موقع انفتاحه على الأمة، وقضاياها التي تتطلب معرفة الحلول الطبيعية لها من خلال وحي الله.

* * *

سير النبي في خط التكامل

وقد نستوحي من ذلك، أن الله يثبِّت رسله بوحيه ليتكاملوا بطريقةٍ تدريجيةٍ في الانطلاق باتجاه مدارج الكمال، إذ يريد لهم وعي الفكر، وحركية الخط، وحلّ المشكلة، وثبات الموقف، ما يوحي بأن مسألة الكمال النبوي ليس مسألةً دفعيّةً حاسمةً، وليس في هذا أي منافاةٍ مع عصمتهم ـ عليهم السلام ـ لأن هناك فرقاً بين ما هو الخطأ، في ما يمارسه الإنسان، وبين ما هو التكامل في ما يريد أن يسمو فيه وينطلق أو يبلغه من مواقع السموّ والكمال.

وهكذا أراد الله للقرآن أن ينزل على دفعات ليثقّف الأمة بأفكاره وتعاليمه بطريقة تدريجية لتثبيت القيادة، ولتركيز القاعدة على أساس الخط المستقيم، وتوجيه المسيرة على أساس حركة النظرية في موقع التطبيق.

{وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } فأنزلنا الآية عقيب الآية، والسورة بعد السورة، كما يوحي به معنى الترتيل.

* * *

الاستفادة من الآية في حركة الدعوة المعاصرة

وإذا أردنا أن نطلق الآية في حركية الدعوة والعمل في سبيل الله، فنستطيع استبدال تدريجيّة النزول للايات بتدريجية تحريك الآيات في مواقع العمل والجهاد وفي منطلقات الدعوة بطريقةٍ دقيقةٍ، نوزع فيها الآيات على المسيرة، فتكون هذه الآية في نقطةٍ هنا، ونقطةٍ هناك، وتكون السورة في مرحلة أولى، لتكون السورة الأخرى في المرحلة الأخرى، ليكون القرآن ثقافة الأمة في كل مواقع السير، حتى يعرفوا الفكرة في مواقع الحركة، فلا تبتعد المسيرة عن آفاق الإسلام في فكره وشريعته.

* * *

تعهّد القرآن بمواجهة التحديات

{وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} وهكذا كان التدرج في النزول ينطلق في مواجهة التحدي الذي كان يثيره الكافرون في بعض المراحل، من خلال الشبهات التي تثير الريب والاشتباه في ذهنية الأمة، أو من خلال الاتهامات التي يطلقونها في شخصية الرسالة والرسول، ليسقطوا تأثيرها أو تأثيره في حياة الناس، أو من خلال الأفكار الباطلة المضادة التي يراد لها أن تصارع الأفكار الحقّة، لتحتوي الفكر كله لمصلحة الكفر والشرك.. فكان القرآن ينزل ليجيب عن الشبهات بإيضاح حقائق الأشياء، وليردّ على الاتهامات، بتسليط الأضواء على واقع الرسالة والرسول، وليؤكد على الفكر الحق، بالعمق الفكري والروحي الذي يثبت الحق في أعماق الفكر والروح، بالصورة الأفضل، والأسلوب الأحسن، والتفسير الأوضح، حتى تكون الحجة لله على الناس في ذلك كله، ولا يكون للناس على الله وعلى رسله أيّة حجةٍ من قريب أو من بعيد.

* * *

منهج القرآن في التحدي المضادّ

وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الله، والدعاة إليه، أن ينهجوه في حركة التحدي المضادّ عندما يُثار الريب والشك والقلق والحيرة في فكر الأمة وحركتها، فلا يكفي أن نقدم الكتب الدراسية التحليلية الشاملة التي تعالج المواضيع بطريقة عامة، بل لا بد لنا من أن نحرك مفردات الأجوبة أمام مفردات علامات الاستفهام، ونثير جزئيات الحلول أمام جزئيات المشاكل، ونواجه مواقع الاتهام من خلال مواقع الدفاع، لتعيش الأمة موقف القوّة في مجابهة القوّة المضادة، لتكون هناك كلمة في مقابل كلمةٍ، وحركة في مواجهة حركة، وحلٌ في مجابهة مشكلة، من أجل ثقافةٍ تفصيليةٍ عملية تحيط بالموقف من جميع الجهات.

* * *

مصير الكافرين.. الحشر على وجوههم

{الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ} هؤلاء الذين يثيرون الغبار في أجواء الرسالات، ويحاربون رسل الله وأولياءه، من دون أن يملكوا أيّة حجةٍ على ذلك كله في إثارتهم وحربهم، {أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً} وأيّ مكان أكثر شرّاً من جهنم في ما تمثله من خزي وعارٍ وسوء مصير وعذاب أمام الخلائق كلهم، وأيّ سبيل أضلّ من السبيل الذي يؤدّي إلى النار حيث يعيش الإنسان الشقاء الدائم الذي لا سعادة بعده، وأيّ ضلال أكثر بعداً من الضلال الذي يبتعد فيه الإنسان عن الله وعن لطفه ورحمته وعفوه، فلا يأوي إلى رضوانه؟!

وقد جاء الخلاف بين المفسرين حول المراد من الحشر على وجوههم، هل هو بمعناه الظاهر، وهو الانتقال بهم وهم مكبوبون على وجوههم، أو بمعنى السحب، أو بمعنى الانتقال منكوسين، أو كناية عن فرط الذل والهوان، أو غير ذلك من حمل اللفظ على بعض الأمور المعنوية، وذلك بمعنى أنهم يحشرون وقلوبهم متعلقة بالسفليات من الدنيا وزخارفها، متوجهة وجوههم إليها؟ وليس هناك ما يمنع عن حمله على معناه الظاهر الذي يجسد ـ بحسب طبيعته ـ الذل والهوان، والله العالم.

وهكذا كان الموقف من الرسالة والرسول بعيداً عن خط التوازن في التصور والحكم من خلال الخصوصيات الذاتية التي أثاروها حوله، ولذلك كانت نتيجته العذاب في جهنم. وإذا كان هؤلاء المشاغبون في موقفهم من القرآن، ممن يؤمنون بالرسل والرسالات السابقة، كما قد يوحي به كلامهم، فإن عليهم أن يستحضروا موسى وكتابه، وغيره من الأنبياء، ليعرفوا أن النبي محمد(ص) لم يكن بدعاً من الرسل، وأن كتابه لم يكن بدعاً من الكتب المنزلة من الله.

* * *

تذكير المكذبين بمصير من قبلهم

{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيراً} حيث يمثل ذلك التكامل في حمل الرسالة، ومواجهة التحدي الكبير بالموقف الواحد الصلب. {فَقُلْنَا اذْهَبَآ إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بَِايَاتِنَا} التي تدل على توحيد الله وصدق الرسول في رسالته. ولم يستجيبوا إليهما في ما قدّماه من الدعوة الإلهية، {فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيراً} جزاء لهم على ذلك، ولذلك فإن على هؤلاء المكذبين أن يحسبوا حساب المصير المدمّر الذي سينتهون إليه في تكذيبهم للنبيّ وللقرآن.

{وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً} ليعرفوا أن التكذيب للرسول بعد إقامته الحجة عليهم سيؤدي إلى النتائج المدمّرة في مصيرهم {وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ} الذين ظلموا أنفسهم ورسولهم والناس الذين أضلوهم، {عَذَاباً أَلِيماً} في الآخرة بعد عذاب الدنيا.

{وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} وأصحاب الرسّ قوم كانوا ينزلون على بئر، أرسل الله إليهم رسولاً فكذبوا به، وقد جاء في الحديث عن أئمة أهل البيت(ع) ما يوحي بأن النساء من هؤلاء كنَّ يمارسن السحاق وهو الشذوذ الجنسي في وطء المرأة للمرأة، فقد جاء في الدر المنثور عن الإمام جعفر الصادق(ع): أن امرأتين سألتاه: هل تجد غشيان المرأة المرأة محرّماً في كتاب الله؟ قال: نعم، هنّ اللواتي كنّ على عهد تُبَّع، وهن صواحب الرسّ، ـ وكل نهر وبئر رسّ ـ قال: يقطع لهن جلباب من نار ودرعٌ من نار ونطاق من نار وتاج من نار وخفان من نار، ومن فوق ذلك ثوب غليظ جلف جاس منتن من نار. قال جعفر علِّموا هذا نساءكم»[3].

وفي نهج البلاغة قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: «أين أصحاب مدائن الرسّ الذين قتلوا النبيين وأطفأوا سنن المرسلين وأحيوا سنن الجبارين؟»[4].

{وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} ممن جاء من بعدهم من الأجيال، {وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمْثَالَ} في ما أردنا تذكيرهم ووعظهم وإرشادهم ليتحركوا في خط التوحيد على هدى الرسالات الإِلهية، ولكنهم لم يصدّقوا الأنبياء، ولم يلتزموا بالموقف الرسالي الذي يهدي إلى الله سبحانه، {وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً} والتتبير التفتيت الذي هو كناية عن تمزيقهم وإهلاكهم حتى لم يعد لهم أيّ أثر في الحياة، وقد ورد عن الإمام الصادق(ع) في تفسير الكلمة: يعني «كسّرنا تكسيراً»[5] على لغة النبط، {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِى أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ } وهي قرية قوم لوط الذين كانوا يمارسون الشذوذ الجنسي ـ المذكر ـ اللواط ـ فأمطر الله عليهم حجارة من سجّيل.

{أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } ويشاهدون نتائج التكذيب للرسل وللرسالات، لأنها تقع في طريق أهل الحجاز إلى الشام ـ كما يقولون ـ. {بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } ومعاداً في يوم القيامة الذي يواجهون فيه حساب المسؤولية أمام الله. وهذا أوقعهم في الغفلة، وقادهم إلى العناد والتكذيب، انطلاقاً من شهواتهم الذاتية، ورفضهم لخط الالتزام الذي يمنعهم من تحقيق مطامعهم التي يحبون ويشتهون. وبذلك كان الإيمان بالمعاد أساساً للشعور العميق بضرورة التوازن في القضايا الفكرية المثارة، في ما تختزنه من حسّ المسؤولية أمام الله.

ــــــــــــــــــــــــ

(1) مفردات الراغب، ص:394.

(2) مجمع البيان، م:4، ص:221.

(3) الدر المنثور، م:6، ص:257.

(4) الإمام علي(ع)، نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، دار التعارف للمطبوعات، ط:1، 1410هـ ـ 1990م، خ:182، ص:191.

(5) تفسير الميزان، ج:15، ص:220.