تفسير القرآن
الفرقان / من الآية 41 إلى الآية 44

 من الآية 41 الى الآية 44

الآيــات

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الذي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً* أَرأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً* أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} (41ـ44).

* * *

معاني المفردات

{هَوَاهُ}: الهوى: ميل النفس إلى الشهوة من غير تعديله بالعقل.

* * *

الذين يعبدون الهوى هم كالأنعام

كيف كانت طريقة الكافرين في الحديث عن الرسول فيما بينهم وبين الناس؟ وكيف كانت نظرتهم إليه؟

إنهم لم يكونوا معقولين في ذلك ولا معتدلين أو واقعيين، بل كانوا يتحركون من موقع الخطّة في الإِيحاء بتهوين شأنه وتحقير موقعه، من أجل أن يبتعد الناس عنه، من خلال نظرة الاستهانة به، عندما يفقدون الاحترام له، ما ينعكس سلباً على النظرة إلى رسالته. ولهذا كانوا يتخذون أسلوب السخرية والاستهزاء به، بطريقةٍ توحي بالضحك بدلاً من الاحترام.

{وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } من خلال ما يطلقه المستكبرون من إشارات السخرية تجاه من هم دونهم في الموقع الطبقي، ويعملون على استخراج مواقع الهزء، مما يمكن أن يكون مثاراً لذلك، ومما لا يكون كذلك، لأن المسألة عندهم ليست مسألة واقعية الهزء في شخصيته، بل هي مسألة إثارة الجوّ الساخر في أجواء الساحة العامة، ليساهم ذلك في تنفيذ مخططهم في إسقاطه.

{أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً} في إشارة ساخرة توحي باستبعاد ذلك، لتقول للناس بأنه هل من المعقول أن يكون هذا الفقير، اليتيم، الذي لا يملك موقعاً اجتماعياً في الدرجة الطبقية العليا من المجتمع، رسولاً لله؟ ولماذا لا يكون غيره من أصحاب النفوذ المادي والمعنوي في حياة الناس ممن تتناسب الرسالة مع درجته ليكون ذلك أساساً لنفوذها في قناعات الناس الذين يأبون الخضوع في أفكارهم إلا للذين يقدّمون لهم الخضوع في أوضاعهم العامة من خلال امتيازاتهم الطبقية؟

إنهم يشيرون إليه بطريقة تدعو الآخرين إلى الاستغراب والهزء والضحك من هذا الداعية، في هذه الدعوة التي يثيرها أمام الناس، وكأنهم يريدون لهم أن يفهموا أن مجرد النظرة إليه كافية للاستهزاء به من دون ضرورة للدخول في التفصيل، لأن طبيعة النظرة توحي بالفكرة، {إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلاَ أَن صَبْرَنَا عَلَيْهَا }. إنه يملك أسلوباً ساحراً في نظرته إلى القضايا، وفي معالجته لها، وفي طريقة إثارته للكلمة وللأسلوب في مواقع الإِقناع، ولذلك، فقد استطاع أن يزلزل البعض من الناس لمصلحة دعوته، وتطور الأمر به حتى بلغ درجةً شديدةً من الخطورة، وذلك، في محاولته الجادّة لإرباك قناعتنا بقداسة الالهة التي نعبدها، وربما استطاع أن ينفذ إلى بعض أفكارنا ومشاعرنا، وأن يترك تأثيره على إيماننا بها، وقد كان من الممكن أن يحوّلنا إلى الإيمان بالله الواحد والكفر بالأصنام، لأن خطته كانت أن يشغلنا عنها بحلاوة حديثه، وأن يبعدنا عن الالتزام بها بروعة أساليبه، لولا أننا انتبهنا إلى المسألة قبل فوات الأوان، فجاهدنا مشاعرنا حتى لا تهتز معه، وواجهنا أفكارنا حتى لا تقتنع به، واستطعنا أن نتحمل كل آلام المعاناة المضادّة لتوجهاته، وصبرنا على آلهتنا، والتزمنا الموقف الصلب معها على خط الثبات في الإخلاص لها وعبادتها.

ولكن الله يواجه هذا المنطق بقوّة الخالق الذي يتوعد عباده المشركين المنحرفين عن خط الاستقامة، ليوضح الفكرة الحاسمة التي تنتظر الجميع في نهاية المطاف، وذلك بقوله: {وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} هؤلاء الذين يقفون في مواجهة الرسول بأساليب السخرية {حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ} الذي ينتظرهم يوم القيامة، {مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً} عندما ينكشف لهم خط السير الذي يؤدي إلى الجنة للملتزمين بما جاء به رسول الله(ص)، وخط الانحراف الذي يؤدي إلى النار للذين التزموا عقيدة الكفر والإلحاد.

* * *

صفة عبّاد الأهواء

{أَرأيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَـهَهُ هَوَاهُ} من هؤلاء الذين لا يتحركون في انتماءاتهم وعلاقاتهم وكلماتهم وأعمالهم وكل مشاريعهم في الحياة، من قاعدةٍ فكريةٍ، تحكم كل تطلّعاتهم في الحياة، وتدير أوضاعهم، فيرجعون إليها إذا ضل بهم الطريق، ويقفون عليها إذا اهتزت المواقع، بل يتحركون من خلال أهوائهم التي تنطلق من مواقع غرائزهم، وفي حركة الرياح العاصفة أو الهادئة التي تطوف بالنفس من هنا وهناك، بعيداً عن كل عوامل الثبات والاستقرار.

وبذلك كانت أهواؤهم بمنزلة الآلهة، في ما يتعامل به الناس مع الآلهة من تقديس واحترام وطاعةٍ والتزامٍ بخط الرضا الذي يتطلع إليه المؤمنون بهم، فهم يقتربون ويبتعدون، ويتواصلون ويتقاطعون، ويفعلون ويتركون، ويقفون ويتحركون، على أساس ما تتطلبه منهم هذه الأهواء، حتى إذا كان ذلك بعيداً عن رضا الله وقريباً إلى سخطه.

أفرأيت هذا النموذج من الناس، إنه يعيش القلق والحيرة والارتباك والضياع، لأنه لا يملك أية قاعدةٍ للاستقرار، ولا يعيش الوحدة في ما يتطلع إليه، وفي ما يعبده ويلتزمه، وفيمن يطيعه، لأن الهوى الذي قد يكون واحداً في المفهوم العام، قد لا يكون واحداً في مفردات الحركة، بل هو متنوّع متقلّب، مختلفٌ حسب اختلاف المزاج والغريزة والجوّ والمحيط، وغير ذلك بما يتأثر به الإنسان بشكلٍ متناقض حسب اختلاف الزمن في ما يحتويه ويتحرك في داخله من مؤثرات.

وهذا التعبير القرآني عن الهوى بالإِله في التزام الناس اتباع الهوى، إنما هو من دون اعترافٍ منهم بصفة الألوهية له، بل قد تكون مستغربة منهم لو أطلقها أحد عليه من خلال ذلك، لأن للإله معنىً متميزاً مقدّساً في وعيهم لا يقترب من هذا الواقع الذي يعيشونه. إن هذا التعبير القرآني يوحي بأن حركة المعنى في واقع الناس هي التي تحدّد الالتزام بالألوهية، وليس الانتماء بالكلمة وبالصورة، لأن الألوهية هي أن يلتزم الإنسان بالطاعة للمعبود؛ وبذلك كان الاستسلام للهوى في كل ما يدفع إليه من مواقف، يمثل الالتزام بألوهيته من قبل هذا الإنسان، تماماً كما هي عبادة الأشخاص، حيث تتمثل في إطاعتهم والخضوع لإِرادتهم، وإن لم يتخذوا لهم هذه الصفة بشكل مباشر. وهذا ما جاء في القرآن في قوله تعالى في عبادة الناس للشيطان: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ* وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يس: 60 ـ 61]، حيث اعتبر طاعة الشيطان عبادةً له، وإن لم يعترف المطيعون بمعنى العبادة فيه، كما أن عبادة الله تتمثل في السير على خط طاعته والبعد عن معصيته.

{أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً} أي لست مسؤولاً عنه ومسلطاً عليه، على سبيل الاستفهام الإنكاري، لأنك لا تملك من أمره شيئاً، ما دام مستقلاً في إرادته، ورافضاً للالتزام بدعوتك.

{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ} إنهم لا يحركون أسماعهم في طريق المعرفة، ولا يثيرون عقولهم في آفاق الحق، من خلال الترابط بين السمع الذي ينقل الكلمة وبين العقل الذي يبلور الفكرة من خلالها بالتأمل والتفكير.

وربما كان هناك وجه آخر للحديث عن السمع أو العقل، وهو ما ذكره صاحب الميزان في قوله: «والترديد بين السمع والعقل من جهة أنَّ وسيلة الإنسان إلى سعادة الحياة أحد أمرين، إما أن يستقل بالتعقل فيعقل الحق فيتبعه، أو يرجع إلى قول من يعقله وينصحه فيتبعه إن لم يستقل بالتعقل، فالطريق إلى الرشد سمعٌ أو عقل، فالآية في معنى قوله: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِى أَصْحَابِ السَّعِيرِ}[1] [الملك: 10]:

{إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَْنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} التي لا تعي أيّ معنى في الكلمة التي تسمعها، فلا تثير فيها أيّ شيء. {بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} وذلك من ناحيتين: إحداهما: أن الأنعام لا تملك العقل الذي يمكن أن تهتدي به إلى معرفة الحق، بينما يملك هؤلاء كل أدوات المعرفة ووسائلها، فلا يعملون على الاهتداء بها. وثانيتهما، أن الأنعام لا تمارس الأعمال التي تدرك ضررها، بينما يقتحم هؤلاء ما يعلمون أنه يضرهم ولا ينفعهم.

ــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج :15، ص:223.