تفسير القرآن
الفرقان / من الآية 45 إلى الآية 55

 من الآية 45 الى الآية 55
 

الآيــات

{َلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاء لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً* ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً* وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً* وَهُوَ الذي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يدي رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السماء ماء طَهُوراً* لِّنُحْييَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خلقنا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً* وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً* وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا في كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً* فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً* وَهُوَ الذي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً* وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ الماء بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً* وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} (45ـ55).

* * *

معاني المفردات

{مَدَّ الظِّلَّ}: المراد بمد الظل ما يعرض الظل الحادث بعد الزوال من التمدد شيئاً فشيئاً من المغرب إلى المشرق حسب اقتراب الشمس من الأفق، حتى إذا غربت كانت فيه نهاية الامتداد وهو الليل. وهو في جميع الأحوال متحرك، ولو شاء الله لجعله ساكناً.

{دَلِيلاً}: الدليل هي الشمس من حيث دلالتها بنورها على ان هناك ظلاً.

{لِبَاساً}: أي ساتراً كاللباس.

{سُبَاتاً}: سكوناً ضد النشور.

{نُشُوراً}: أي جعل فيه الانتشار وطلب الرزق.

{وَأَنَاسيَّ}: جمع أنسي ككرسي وكراسي.

{كُفُوراً}: من كفران النعم.

{مَرَجَ}: خلط، ومنه أمر مريج أي مختلط.

{فُرَاتٌ}: العذب جداً.

{أُجَاجٌ}: المالح أو المرّ جداً أو شديد الملوحة.

{بَرْزَخاً}: الحاجز بين شيئين.

{نَسَباً وَصِهْراً}: النسب: هو التحرّم من جهة الرّجل، والصّهر: هو التّحرّم من جهة المرأة.

* * *

آيات الله في الكون

وهذه جولةٌ مع آيات الله في الكون وفي الحياة، يريد الله للإنسان أن يفكر بها ليهتدي بها إلى وجوده ووحدانيته، من خلال ما توحي به من دلائل عظمته وما تثيره في الفكر من الانفتاح على عالم الإيمان والكفر والهدى والضلال في شخصية الإنسان، من خلال الإِيحاءات والإشارات التي تقرّب للإنسان الصورة في ذلك.

{أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} الذي تعيشونه كظاهرةٍ يوميّة متحركة، تكتمل بها الصورة الكونية في سطح الأرض، عندما تشرق الشمس وتمتد في الأفق، فيمتد الظل الذي يمثل المساحة الواسعة التي لا تشرق عليها الشمس، بينما كانت تشمل الساحة كلها قبل إشراقة الشمس على الكون، من دون أيّة حركةٍ، ولكن الشمس تشرق، ويمتد الظل معها ويتحرّك ضمن ما تنكمش الشمس عنه من الأرض، تبعاً للحواجز التي تحجزها عن امتداد نورها، {وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً} مما يمكن أن يبدعه من الوضع الكونيّ الذي يجمِّد إشراق الشمس في مكان ليتجمد الظل في المكان المقابل، {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً} فإن طبيعة الشروق في منطقةٍ تحدد موقع الظل في المنطقة الأخرى التي تنحسر عنها الشمس أو لا تصل إليها، {ثُمَّ قَبَضْنَـاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً} كلما امتدت الشمس في الأفق واتسع نورها في الكون، فإن الظل ينكمش ويتضاءل حتى تصل الشمس إلى المدى الذي ترتفع فيه فتشرق على الأفق كله، فلا يبقى للظل موقع في الأرض، ليمتدّ بعد ذلك من جديد.

{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً} في ما يمثله من حالة الستر التي يوحي بها الظلام الذي يغشى الكون فيخفي كل الأشياء التي يمتد إليها، تماماً كما هو اللباس الذي يلبسه الإنسان ليستر عورات الجسد وخفاياه، {وَالنَّوْمَ سُبَاتاً} في ما يطبق به على كل جوانب الحركة في الإنسان، حيث يجمد فيه كل نشاط عمليّ، ويقطعه عن العمل {وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً} إذ يثير اليقظة التي تمتد في كل كيان الإنسان فتدفعه إلى الحركة والانتشار للقيام بالأعمال التي تتطلبها حاجات الحياة، ولطلب الرزق، {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرَى بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} تبشر بهطول المطر {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَآءِ ماءً طَهُوراً} والمراد بالسماء جهة العلو في أجواء الفضاء التي تطل على الأرض، فجعلنا السحاب المرتفع يحمل ماءً طهوراً يطهّر كل شيء يصل إليه، إذ يزيل الأوساخ ويذهب بالأرجاس والأحداث.

{لِّنُحْيِىَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} لا نبات فيها ولا حياة، فتدب فيها الحياة من جديد، فيهتز العشب، وتنفتح البذور، ويخضرَّ الزرع وينمو ويمتد، ويتدلى الثمر، {وَنُسْقِيَهِ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} وكلهم يحتاجون الماء الذي هو سرّ بقاء الحياة في الجسد، فلولاه لما أمكن للحياة أن تبقى أو تنمو وتتحرك، وذلك كله دليل عظمة الله في خلقه، ورحمته في نعمته، وحاجة الحياة كلها في النبات والحيوان والإنسان إليه، في تدبيره وحكمته، ما يجعل ارتباط الجميع به بالمستوى الذي يستمد كل شيء حياته منه، في البدء والامتداد، وهذا ما يجب على الناس أن يتأملوه ويفكروا فيه، ليتعرفوا حقيقة التوحيد، في مواجهة خط الكفر والرشد، من خلال النظرة الواعية العميقة، والتفكير الصافي المنفتح.

{وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} قيل: إن الضمير في كلمة {صَرَّفْنَاهُ} يعود إلى الماء الذي تقدم ذكره في الآية السابقة، ليكون المعنى، صرفه من قوم إلى قوم في عملية توزيع عادلة، فلا يدوم نزوله على قوم ليهلكوا، أو ينقطع عن قوم دائماً ليهلكوا، بل يدور بينهم لينال كل قوم نصيبهم منه بحسب المصلحة.

ويمكن أن يكون المراد تصريف الذكر وتنويعه بحسب الأساليب المختلفة في تقريب الفكرة إلى النفوس، وذلك عبر ما تقدم من الحديث عن القرآن بطريقةٍ وبأخرى. أمَّا ارتباط التذكير، كهدفٍ، من خلال المعنى الأول، فهو ملاحظة هذا التوزيع العادل في إنزال الماء على العباد، ليتعرفوا منه عظمة الله ورحمته، فيذكروا الله في إيمانهم. أمّا من خلال المعنى الثاني، فواضح في تكرّر أمثال هذه الآية في القرآن، حيث تتنوع أساليب القرآن في توعية الناس بالمفاهيم التوحيدية، وإذا ما عاشوها، تذكروا وخرجوا عن أجواء الغفلة التي يعيشون فيها، ولكن {فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً} لأنهم لم ينفتحوا على المعاني المتنوعة بوعي وفكرٍ وتأمّل، بل واجهوا ذلك مواجهة اللامبالاة، فأعرضوا، وكان نتيجة ذلك الكفر بالنعمة والعقيدة التوحيدية.

{وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِى كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً} فقد كان لكل أهل قريةٍ نبيٌّ يبلغهم رسالات الله، ولكن المسألة ليست تعدد الأنبياء والمنذرين، لأن العدد ليس هو الأساس، بل المسألة هي قيام النبي برسالته في امتداد الساحات التي تمثل خط المسؤولية لديه، فيما يقوم به من إبلاغٍ وإنذارٍ، وفي إبلاغها وإنذار الناس بعذاب الله لمن يجحد ويكفر، واستعداد الناس للاستماع إليه، والتجاوب معه، والسير في الطريق المستقيم الذي يهديهم إليه، ولذلك أرسلناك ـ يا محمد ـ إلى القرى كلها، وإلى العالمين كلهم.. لأنك النبيّ الذي يستطيع الاضطلاع بالمهمة الكبرى في إيصال الرسالة إلى كل قلب، وفي إدخال القرآن إلى كل أذن، قد اطلع على امتداد فكرك وروحك وحركتك بما يشمل الحياة كلها ويحتوي الرسالة كلها بطريق مباشرٍ أو غير مباشر.

{فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ} الذين يريدون لك الانسحاب من ساحة الدعوة إلى توحيد الله، وإلى مواجهة الوثنية في أصنامها وفي تقاليدها وفي شرائعها، لتحصل على رضاهم، فإنهم لا يريدون لك، وللناس كلهم، خيراً من ذلك كله، بل يريدون الشر كله عبر انحرافهم عن خط الإيمان بالله وبوحدانيته، ودعوتهم إلى الالتزام بالخط المنحرف في العقيدة والشريعة والسلوك، فلا تطعهم، وأطع الله في كل ما أمرك به أو نهاك عنه، وأراده لك من حمل رسالته وإبلاغها إلى الناس كافة، ومجاهدة كل من يقف في مواجهتها، ليكون الحاجز الذي يحول بين الناس وبين سماع كلمة الله.

{وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً} فليكن القرآن بمفاهيمه الحقة، ووسائله القوية الدامغة، وأساليبه المتنوعة، هو القوّة التي توجهها إلى مفاهيمهم الزائفة، وخططهم الضالة، وأفكارهم المنحرفة، وذلك هو الخط الذي يجب على الدعاة إلى الله حمله، في مواجهتهم للكفر كله، وللشرك كله، وهو خط الجهاد بالكلمة والحركة والممارسة على مستوى الفكرة والحياة، وبكل الوسائل التي تمثل الصدمة القويّة في ساحة الصراع.

وتعود الآيات من جديد لتثير أمام الوعي الفكري للإنسان، مظاهر قدرة الله في الكون، لينفتح على عظمة الله، فيقوده ذلك إلى الإِذعان بتوحيده، عندما يدخل في مقارنةٍ دقيقةٍ، بين ما هو الله في قدرته، وما هو الإنسان في عجزه، وما هي الأصنام في جمودها وحقارتها.

{وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} وخلط بينهما من دون أن يفقد كل واحد منهما خصوصيته الذاتية {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} طيب الطعم، كثير العذوبة {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي ماءٌ شديد الملوحة {وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً} حاجزاً خفيّاً من صنع قدرته، بحيث يمنع التفاعل بينهما في عملية تأثر وتأثير، {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} أي حراماً محرّماً أن ينفذ أحدهما إلى عمق الآخر، فيختلط به ويبدّل طعمه.

وربما كان في ذلك «تنظير لأمر الرسالة من حيث تأديتها إلى تمييز المؤمن من الكافر مع كون الفريقين يعيشان على أرض واحدةٍ، مختلطين، وهما ـ مع ذلك ـ غير متمازجين..» كما يقول بعض المفسرين[1].

{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَآءِ بَشَراً} إذ خلق النطفة التي هي ماء مهين يخرج من الرجل فيلقح بويضة المرأة، فيتحوّل إلى بشر، {فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً} الذي يحصل به التحريم من جهة الرجل، وهو النسب، ومن جهة المرأة، وهي المصاهرة.

ويذكر صاحب تفسير الميزان، أن «هذا تنظير آخر يفيد ما تفيده الآية السابقة، أن لله سبحانه أن يحفظ الكثرة في عين الوحدة، والتفرق في عين الاتحاد، وهكذا يحفظ اختلاف النفوس والآراء بالإيمان والكفر، مع اتحاد المجتمع البشري الذي بعث الله الرسل، لكشف حجاب الضلال الذي من شأنه غشيانه لولا الدعوة الحقة»[2]، وهو أمرٌ طريف، ولكن ذلك غير ظاهر من سياق الآية، فإن الظاهر منه، أن الحديث موجّهٌ للإِيحاء بالجانب الفكري العقيدي للتوحيد في مواجهة الشرك.

{وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} قادراً على إبداع حياةٍ متنوعةٍ متحركةٍ من الماء، وينشىء من ذلك علاقاتٍ مختلفةً في المجتمع الإنساني، في علاقاته المتشابكة المعقّدة، وذلك هو البرهان القاطع على أن الله ـ هو وحده ـ القادر على الكون كله وعلى الحياة كلها، في النفع والضرر. وبذلك كان هو ـ وحده ـ المعبود الذي يستحق العبوديّة، ويتفرد بالألوهية، ولكن هؤلاء المشركين الذين استسلموا لتقاليدهم المتحجرة الموروثة عن الآباء والأجداد، يعيشون التخلف في العقيدة والعبادة، عندما يلتزمون الأصنام في مواقع الآلهة، ويعبدونها من دون معنىً..

{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ} فلا يملكون أساساً لذلك في براهين الفكر أو إحساس الوعي، ولا في الواقع في عطائه وحركته، لأن هذه الأصنام تمثل الجمود كله، والعجز كله، والتخلف كله، في الشكل والمضمون.

وهذا يوحي إلينا بأن الكفر لم ينشأ من حالة وعيٍ منفتحٍ على الوثنية، خاضع للحجة المنطلقة من الفكر، بل هو الاستسلام اللاّواعي للتخلف الفكري والروحي من خلال الالتزام بتقاليد الآباء، بعيداً عما هو الحق والباطل في ذلك، ما يخلق في العمق الذاتي للإنسان الكافر، حالةً شعوريةً عدوانيةً ضد كل الإيمان والتوحيد؛ {وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيراً} يعيش التمرد في نفسه على الله في الشرك والمعصية، ويعمل على معاونة الشيطان وجنوده وأتباعه على محاربة الله في دينه ورسله وشريعته.

ـــــــــــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:15، ص:228.

(2) (م.س)، ج:15، ص:228.