تفسير القرآن
الفرقان / من الآية 56 إلى الآية 62

 من الآية 56 الى الآية 62

الآيــات

{وما أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً* قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَن شاء أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً* وَتَوَكَّلْ عَلَى الحيّ الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً* الذي خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً* وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً* تَبَارَكَ الذي جَعَلَ في السماء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً* وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} (56ـ62).

* * *

معاني المفردات

{بُرُوجاً}: المراد بالبروج منازل الشمس والقمر، وقيل: المراد بها الكواكب السيارة المعروفة عند العرب.

{خِلْفَةً}: أي أن أحدهما يخلف الآخر.

* * *

حدود النبي(ص) في حركة الدعوة

كيف يريد الله للنبي أن يعيش دوره الحركي في الدعوة إليه حتى يواجه التحديات من دون تعقيد أو تشنج، فلا تهزمه حالات التمرد والعناد، ولا يرى في التجاوب معه من قِبَل المؤمنين به حالةً غير طبيعية؟ وكيف يتابع سيره في جميع الأحوال؟ وما الآفاق التي يعيشها، وهو يتحرك في خط الدعوة؟

{وَما أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً} حيث ينطلق دور الداعية في شخصيتك مبشراً برضوان الله ونعيمه لمن سار في اتجاه الإيمان وتحرك في أجواء الطاعة، وبغضب الله وعقابه لمن انحرف عن ذلك الاتجاه، وسار في خط التمرّد على الله، فلا تملك بعد ذلك أيَّة قدرة على تغيير قناعاته، المتصلة بالفكر أو الشعور، وإذا قمت بدورك في هذه الدائرة، فقد انتهت مهمتك التي أرادك الله أن تحققها في رسالتك.

{قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} فلست الشخص الذي يعمل للحصول على امتيازات ماديةٍ أو معنويةٍ من خلال الرسالة، تماماً كالكثيرين ممن يستهدفون الوصول إلى مطامع دنيوية من دعواتهم أو مشاريعهم، لأنني لم أنطلق من مبادرةٍ ذاتية في كل ما أقوم به، أو أسعى إليه في دائرة الدعوة، بل انطلقت من خلال رسالة الله التي حمَّلني إيّاها، وأرادني أن أعمل في سبيل إبلاغكم آياتها ومفاهيمها وأحكامها، ما يجعل من موقعي فيكم، موقع الرسول المسؤول الخاضع لمولاه الذي كلفه القيام بهذه المهمة، بعيداً عن كل الحسابات الذاتية، فلا أسألكم أيّ أجر أو مطمع، من جهة الرسالة، بل الأجر لكم من الله في الدنيا والآخرة، إذا تجاوبتم مع الله في شريعته ومنهجه، وليس لي مصلحة مع أيّ فريق منكم في أية علاقة خاصة.

{إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً}، فهذا ما أتحرك في الدعوة من أجله، وأعيش له من أجل استكمال هدايته، وأشعر بأني قد حصلت على نتيجةٍ إيجابيةٍ للرسالة من خلاله، عندما استطعت أن أوجّه إرادته الحرة في اتجاه الإيمان الذي يدفعه إلى أن يتخذ إلى ربه سبيلاً يربطه به ويوصله إلى رحمته ورضوانه، وهذا هو الأجر الذي أسعى للحصول عليه، لأن أعظم أجر للرسول في رسالته، أن يتجاوب الناس معه، ويؤمنون برسالته.

ولعل هذا الاستيحاء التفسيري أقرب إلى جوّ السياق في الآية مما ذكره جمهور المفسرين من أن الاستثناء منقطع، والمعنى، هو أن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلاً، أي بالانفاق القائم مقام الأجر كالصدقة، والإنفاق في سبيل الله، فليفعل، وهذا ما لا دليل عليه. وهناك وجوه أَخر، يرجع بعضها إلى ما ذكرناه، ويبتعد بعضها عن السياق.

وربما كان ذكر الشخص المؤمن في مقام الاستثناء بدلاً من الإيمان نفسه، للتأكيد على أنه يمثل كل هدفه في الدعوة، في إيجاد الإنسان المؤمن الذي يتحرك في خط الإيمان في ما يستجيب له من دعوة الرسالة في موقف الرسول؛ والله العالم.

* * *

التوكل على الله

{وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِى لاَ يَمُوتُ} واعتمد عليه في كل أمورك، وتابع سيرك في رعايته، ولا تلتفت إلى كل المعوّقات التي تواجهك في الطريق، وإلى كل الأشخاص الذين يتمردون عليك أو يسخرون منك، فهو الذي يكفيك الأمر كله، لأنه خالق الجميع ورازقهم، وهو الحي الذي لا يموت، وهو الباقي لك الذي يشرف على الجميع، ولا يفوته أحد منهم في أيِّ زمان ومكان. وذلك هو سبيل اختزان القوّة في عمق شخصيتك، لأن الإنسان الذي يتوكل على الحيّ الذي لا يموت، لا يمكن أن يخشى أو يخاف من الذي يعيش المدة المحدّدة التي تنتهي بالموت.

{وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} واذكره بالتعظيم في موقف الثناء عليه، لتتعرف على دلائل عظمته وآفاق حمده من خلال صفاته في كماله وجلاله وجماله، مما يملأ روحك وعقلك وضميرك بالخشوع بين يديه، والخضوع لقدرته التي لا نهاية لها؛ وتطلع إليه في علمه الذي لا حدّ له في إحاطته بشؤون عباده إن أحسنوا أو أساؤوا.

{وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً} فهو المطَّلع على سرّهم وعلانيتهم، فلا يفوته شيء مما يضمرونه أو يخفونه أو يظهرونه، ما يفرض عليهم أن يراقبوه في كل أعمالهم، فإن غفر لهم، فبرحمته، وإن عاقبهم فبعدله وحكمته، من غير حاجةٍ إلى من يعينه أو يعرِّفه أيّ شيء.

{الَّذِى خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وقد كان قادراً أن يخلقها بلحظةٍ واحدة، ولكن المسألة تتعلق بحاجة المخلوق إلى الوقت في وجوده، لا إلى حاجة الخالق إليه في طبيعة قدرته، انطلاقاً من حدود الموجود في شروط وجوده، لا من حدود قدرة الخالق في ذلك.

{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} الذي هو كناية عن الملك، باعتباره من لوازمه، وقد يجسد الموقع الأعلى في الوجود من خلال استتباع سيطرته عليه وعلى كل ما تحته من موجودات بطريقةٍ كنائية. وفي كلتا الحالتين، فإن الاستواء لا يعني التجسد الذي توحي به الكلمة في مدلولها الحرفي، بل يعني السيطرة التي يوحي بها معناه من الاستيلاء على الموقع كله، كإشارة للسيطرة في الملك والقدرة والاحتواء؛ {الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} إن هذا الخالق هو الرحمن الذي أنشأ الخلق برحمته والذي أبدع التدبير من خلالها أيضاً. فهل تريد أن تعرفه بدلائله وبراهينه ومواقع معرفته؟ فتعال إلى الرسول الذي يملك معرفة ذلك كله، فاسأله واستمع إليه وهو يبلغ آيات ربه التي تفصل الكثير من صفات الله، فهو الخبير بذلك كله.

{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ} الذي خلقكم من موقع رحمته التي امتدت إلى كل جوانب حياتكم فأفاضت عليكم النعم الوفيرة في كل زمان ومكان، {قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَنُ} كأنّهم لا يعرفون عنه شيئاً، كما لو كنت تحدثهم عن شخص بشري مسمّىً بهذا الاسم، إمعاناً منهم في العناد والتجاهل والابتعاد عن مواجهة الحقيقة المطلقة المتمثلة بالله في إشراق نور معرفته التي تمتد في العقل والقلب والشعور، وتتحرك في كل ظاهرة كونية من ظواهر الوجود، ناطقةٍ بعظمته، دالةٍ على وجوده، ويتصاعد جوّ الاستكبار والإصرار في منطقهم، ليتحدثوا معه من منطق الاستعلاء الذي يشعرون به تجاهه.

{أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} هل أنت الشخص الذي يفرض إرادته علينا بالسجود لمن لا نعرفه، أو لما لا نعرفه، وإن لم نقتنع به، فمن أنت؟ وما موقعك؟ وبم امتزت علينا لنطيعك في ما تأمرنا، ولنتعبد بأقوالك وتعليماتك؟

{وَزَادَهُمْ نُفُوراً} وهروباً منه وابتعاداً عنه، لأنهم لا يريدون الالتزام بالخط المستقيم الذي يحررهم من كل عوامل الانحراف، ومن نوازع العبودية والخضوع للشيطان.

* * *

الداعية ومواجهة أسلوب المشركين

وقد نلاحظ في أسلوب المشركين، أن المسألة عندهم لم تكن مسألة مناقشة الرسول في طرحه عليهم عبادة الله الرحمن، بل كانت مسألة هروبٍ من الدخول في البحث الجدِّي للقضية، لأنهم كانوا يستهدفون مواجهة الدعوة بكل الأساليب المتعنتة، أو الساخرة، من أجل إسقاط روح الرسول، وتشويه صورة الرسالة.

وهذا ما يجب للداعية أن يعيشه عندما ينطلق أعداء الدعوة لمواجهته بالأساليب المماثلة بغية إسقاط روحه، وتشويه دعوته، فلا ينفعل، ولا يسقط، ولا يتزلزل، بل يواجه ذلك كله، بما يستحقه من الردّ الحاسم بالحكمة، والقوّة، والأسلوب المتّزن المنفتح على كل جوانب القضية وأعماق المشكلة.

{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَآءِ بُرُوجاً} وقد يكون المراد منه منازل الشمس والقمر من السماء أو الكواكب المتناثرة في الفضاء، {وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً} وهي الشمس التي تضيء الكون كله فتطرد الظلام منه، {وَقَمَراً مُّنِيراً} ينير الليل بضيائه الهادىء الذي يوحي بالأجواء الحالمة، والوداعة الروحية {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ الَّليْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} يخلف كل منهما صاحبه، في خصائصه الكونية التي تحتوي حياة الإنسان والحيوان والنبات، فتبعث فيها روح التوازن، حيث جعل الليل لباساً والنهار معاشاً، ما يفرض على الإنسان أن يفكر فيه، ليكتشف جوانب الدقة في الخلق، والعظمة في الإِبداع، {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ } فيدفعه ذلك إلى وعي مسألة الإيمان في ذاته، وإلى موقع الله في حياته وحياة الكون كله، فلا يغفل عنه طرفة عين، أمام هذا الوجود الذي ينفذ إلى كل لحظة من لحظات وجوده، فيستوعب كل جوانبه، فيرى الله في كل شيء حوله، في إشراقة النهار، وفي ظلام الليل، {أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} عندما يرى حركة النعمة في ذلك عبر أجواء الراحة التي تحتوي جسده، فتدفعه إلى الهدوء في النوم الذي يطبق على حواسه، فيبعث فيها الخدر اللذيذ، والراحة المنعشة، أو عبر ما هيّأه له من حركة اليقظة المندفعة المتوثبة بالانطلاق نحو معاشه بما يكفل له الاكتفاء الذاتي، لتستمر حياته[1].

وهذا ما ينبغي للإنسان أن يواجه به حركة الوجود في حياته، ليلتفت إلى مظاهر عظمة الله، وإلى مواقع نعمه، فيحسّ بالإيمان من حوله، وهو ينطلق بالوحي الذي يملأ العقل والوجدان، ويلتقي بالحياة، بما يملأ الحسّ والشعور، ليجعل من الكون مدرسةً للعقيدة، ومنطلقاً للّقاء بالله في كل نعمه الظاهرة والخفية.

وقد تكون مشكلة أولئك الكافرين بالله، والمتمرّدين على طاعته، أنهم لا يواجهون الوجود من موقع المسؤولية في الفكر، والوعي في الإحساس، والحركة في مواجهة الواقع.

ـــــــــــــــــــــــ

(1) وقد جاء عن الإمام الصادق(ع): كل ما فاتك بالليل فاقضه بالنهار، قال الله تبارك وتعالى: {وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً}، يعني أن يقضي الرجل ما فاته بالليل بالنهار وما فاته بالنهار بالليل. تفسير الميزان، ج:15، ص:237.