من الآية 63 الى الآية 77
الآيــات
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرض هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَماً* وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً* إِنَّهَا ساءت مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً* وَالَّذِينَ إذا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً* وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً* يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً* إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً* وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً* وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً* وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بَِايَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً* وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أزواجنا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً* أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسلاماً* خالدين فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً ومقاماً* قل مَا يَعْبأ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دعاؤكم فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} (63ـ77).
* * *
معاني المفردات
{هَوْناً }: الهون ـ على ما ذكره الراغب ـ هو تذلّل الإنسان في نفسه لما لا يلحق به غضاضة[1]. وذكر البعض، أنه الرفق واللين.. وجاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) : «هو الرجل يمشي بسجيته التي جُبل عليها لا يتكلف ولا يتبختر»[2].
{يُسْرِفُواْ }: الإسراف: مجاوزة الحدّ.
{يَقْتُرُواْ }: التقتير: التضييق.
{قَوَاماً }: القوام: الوسط العدل بين الإنفاق والتّقتير.
{مَتاباً }: مرجعاً حسناً.
{قُرَّةَ أَعْيُنٍ }: السرور، لأن العين تستقر عنده.
{الْغُرْفَةَ }: كناية عن الدرجة الرفيعة، والغرفة ـ لغة ـ: البناء فوق البناء، ما يجعلها تختزن معنى العلو في مفهومها.
{لِزَاماً }: لازماً.
* * *
عباد الرحمن.. ملامح الشخصية الإسلامية
ما هي الصورة التي يريد الله لعباده أن يتمثلوها في سلوكهم العملي في الحياة وفي أنفسهم، وعلاقاتهم بالله والآخرين؟ ومن هم هؤلاء الذين اختصهم الله بانتسابهم إليه في كلمة {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} وجعلهم من المقربين إليه، ووعدهم بجنته في الدار الآخرة؟
إن هذا الفصل الأخير من السورة يلخص لنا بعضاً من هذه الصفات التي تتنوّع في مواقعها من حياة الإنسان وحركته العملية في كافة جوانبها الروحية والمادية، وتكسبه ألواناً من الحركة في مواجهة الواقع.
* * *
عباد الرحمن
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} بما تعنيه الصفة الإِلهية من معنى الرحمة التي تمثل عمق المعنى في ذاته المقدّسة، وما توحي به من لطف الله بالإنسان في روحيته وفي حركة حياته ووعيه لوجوده وفي عمق المسؤولية التي تربطه بالله، وتجعله يتطلّع إلى آفاق الرحمة الإلهية آملاً أن تحتويه بالخير والبركة والتوازن والانضباط في السلوك العملي بين يدي الله.
{الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الاَْرْضِ هَوْناً } فلا يرون المشي حركةً استعراضيّةً، ولا تنفيساً عن عقدةٍ ذاتيةٍ في انفتاح الذات على شعور العظمة، على طريقة الخيلاء والتكبّر، ولكنهم يرونه مجرّد وسيلةٍ طبيعيةٍ للانتقال، ولذا فإنهم يتحركون فيها بالطريقة الطبيعية التي تحقق الهدف، من دون زيادةٍ ولا نقصان، فلا يثقلون الأرض بضربات أقدامهم، ولا يثقلون على أجسادهم بالزهو والخيلاء، ولا يسيئون إلى مشاعر الناس الذين يلتقونهم بحركات الكبرياء، بل يتحركون برفق وتواضع، في تذلل المؤمن عند نفسه، وتواضعه للناس.
{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} فهم لا ينطلقون مع الناس الذين يثيرونهم بالكلام القاسي اللامسؤول، من مواقع ردّة الفعل الغريزية التي تتحرك بطريقة الإِثارة، في مواجهة الكلمة القاسية الغليظة بالكلمة المماثلة في قسوتها وغلظتها، أو في مقابلة الشتم والسباب، بكلمات الشتم والسباب المماثل أو غير المماثل، بل يدرسون المسألة من موقع العقل المتأمّل الواعي المنفتح على الواقع من جميع جوانبه، فإذا رأوا للموقف خطورةً تستدعي الردّ، كان ردهم لطيفاً حاسماً، وإذا لاحظوا أن الجاهلين يتحركون ـ في كلامهم ـ من مواقع الجهل الذي يتعمد الإثارة، ليخلق مشكلة، أو يثير فتنةً، أعرضوا عن الردّ المباشر وكانت روح السلام الذي يتفادى المشكلة والفتنة والإثارة، هي موقفهم ومنطقهم، فاكتفوا بكلمة {سَلاَماً } هذا الردّ العاقل المتزن الموحي الذي يقول للجاهلين لسنا هنا في معرض الانفعال للدخول معكم في حرب، بل نحن هنا، في موقع الإِعراض عن جهلكم، بروح السلام.
وهذه هي الطريقة الحكيمة التي يواجهون بها خطاب الجاهلين، عندما يحتاج الموقف إلى ذلك، على سبيل الكناية، إمساكاً منهم بالموقف وتحقيقاً لمبتغى المصلحة في ذلك.
{وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} فهم المؤمنون بالله، المنفتحون على ألوهيته في حقيقة التوحيد، الخاشعون في إحساسهم العميق لله سبحانه وتعالى، المتحركون في مشاعرهم وأفكارهم في خط الممارسة العملية الواعية، الراكعون أمام الله بالخضوع له، الساجدون مع انسحاق الإرادة وذوبانها في جنبه ـ تعالى ـ القائمون في استسلام الروح والجسد والقلب والضمير بين يديه، حيث ينام الناس في غفوة الغفلة، واسترخاء الجسد، ويبيتون هم في يقظةٍ منفتحةٍ واعيةٍ في سجود خاشعٍ، وقيامٍ خاضعٍ لله سبحانه، كرمزٍ للقيام الدائم أمامه في حركة الحياة كلها.
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ} في توسل العبد بمولاه، وخوفه من عقابه، عندما يعيش قلق المصير أمام خطاياه، فيبتهل إلى الله ليغفر له ذلك ويوفِّقه للاستقامة، ليصرف العذاب عنه من موقع المغفرة، والطاعة.
{إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} وهو المصيبة التي تصيب الإنسان، والنائبة التي تنوبه وتلازمه في حياته، ويمثل عذاب جهنم الخلود فيها. {إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } وأيّ مكان أسوأ من المكان الذي يعيش فيه الإنسان العذاب من جميع جهاته، وأيّ استقرار هو هذا الاستقرار الذي يهتز الإنسان فيه أمام لهيب النار؟
{وَالَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} ولم يخرجوا عن الحد الطبيعي في الإِنفاق، {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} في حالة بخل غير طبيعية، {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} وهو الحد الوسط الذي يمثل خط التوازن بين الزيادة المفرطة والتقليل المفرط، بحيث يعيش الوضع الطبيعي في مصرفه على صعيد الحاجة العادية في مثل ظروفه وموقعه في دائرة الضروريات والكماليات {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَـهَا آخَرَ} فلا يؤمنون بإله آخر مع الله ولا يشركون به أحداً، ولا يقدّمون فروض العبادة لغيره في جانب الشرك في العبادة، ولا يرفعون أكفّهم بالدعاء إلاّ له، ليقضي لهم حاجاتهم، وييسِّر أمورهم، ويخفّف آلامهم، فهو وحده الإِله الذي يُعبد، وهو وحده الإِله الذي يُدعى في قضاء الحاجات، وحلّ المشكلات.
{وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ } الذي قرره الله في الشريعة، ما يوحي بأن الأصل في الإسلام هو احترام النفس وعدم جواز إزهاقها إلاّ في الحالات التي وردت الرخصة فيها في الكتاب والسنة، بحيث تكون إباحة الدم استثناءً على القاعدة.
{وَلاَ يَزْنُونَ} فالزنى هو مسألة انحرافٍ عمليٍّ وخلقيٍّ عن خط الاستقامة الذي حدده الله للإنسان في العلاقات الجنسية القائمة على مبدأ الزوجية بين الرجل والمرأة وفق ما أراده الله من التوازن في النظام الاجتماعي، من هنا كان الزنى تجاوزاً لحدود الله، وتمرّداً على شريعته، {وَمَن يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَاماً} وهو نتيجة الخطيئة، وهو الجزاء بالعذاب الذي يلقاه يوم القيامة، وربما يراد به غضب الله الذي يستلزم الخطيئة، إذ توحي الكلمة بمعنى الحرام الملازم لسخط الله، وقد يكون هذا أقرب، باعتبار أن المعنى الأول مذكور في الآية التالية: {يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} بما يمثله العذاب من إهانةٍ واحتقار.
وقد نلاحظ في الآية التأكيد على الخلود في النار للمشرك والزاني والقاتل للنفس المحترمة، مما قد يتنافى مع الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً } [النساء: 48] التي تدل على اختصاص الخلود في النار بالمشرك، وأما غيره فإن المغفرة تلحقه في نهاية الأمر بالإضافة إلى ما اشتهر بين العلماء، بأن المسلم لا يخلّد في النار حتى لو كان زانياً أو قاتلاً.
وقد أجاب عنه بعض المفسرين بأنه محمول على اقتضاء طبع المعصية، لذلك فالقاتل والزاني يستحقان الخلود في النار، باعتبار أن الزنى وقتل النفس المحترمة من الكبائر ولكن المغفرة تلحقهما، أو يحمل الخلود على المكث الطويل الذي هو أعم من المؤبد أو المنقطع أو على غير ذلك[3].
ولكن يمكن أن يقال، إن هذه المحامل ليست بأولى من حمل المغفرة لما دون الشرك، على قابلية ذلك للمغفرة، لا على فعليتها، وإلا لكان مقتضياً لعدم دخول النار، لأن ذلك ينافي المغفرة للذنب؛ مع ملاحظة أن الإشارة إلى الخلود في النار قد صرّح بها في القرآن في هذه الآية وفي غيرها في القتل غير المشروع وفي الزنى، مما يرجح ما استظهرناه على ما ذُكر من المحامل في الاتجاه الآخر، فتكون النتيجة أن كل شيء قابل للمغفرة ما عدا الشرك. ولكن بعض الجرائم قد لا تلحقها المغفرة بطبيعتها، بل لا بد في الحصول عليها من التوبة، كما هو الحال في الشرك. فالأمر فيها قد يكون مثل الشرك في النتيجة مع اختلافه عنه في الطبيعة، والمسألة محتاجة إلى التأمّل الدقيق، والله العالم.
{إِلاَّ مَن تَابَ وآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} يؤدي به إلى تبديل الموقف على مستوى الحالة الروحية، والممارسة العملية، {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} لأنهم بدّلوا السلوك المنحرف، بالسلوك المستقيم، وانتقلوا إلى رضوان الله بالانتقال إلى طاعته. وبذلك يظهر أن التبديل لا يعني أن السيئة تكون بمنزلة الحسنة، بل المقصود ـ والله العالم ـ أن الله يمحو أثر السيئة السابقة ويعطيه، بعمله الصالح، الحسنة، وهي المغفرة التي لا يبقى معها شيء من نتائج المعصية.
{وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } فلا يغلق باب رحمته عن عباده، ولا يحجب مغفرته عن التائبين منهم والعاملين في سبيل رضاه، بل يتلقاهم برحمته ومغفرته ورضوانه بكل محبة وعطف ورضوان.
{وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً} إذ التائب عن الذنب بإعلانه عن الندم الذي يوحي بالعزم على التراجع، وبالعمل الصالح الذي يوحي بتبديل الموقف في اتجاه آخر، يجسد الرجوع إلى الله في عمليةٍ تصحيحيةٍ واعيةٍ على أكثر من صعيد، فلا غرابة في أن يتقبله الله ويبدّل سيئاته حسنات.
{وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } وهو الباطل الذي قد يتمثل بصورة الحق، وربما كان الظاهر منه شهادة الزور وهو الكذب في مقام الشهادة، مما يريد أن يوحي به الشاهد بأنه صدق؛ وقد يراد منه اللهو الباطل كالغناء ونحوه، مما جاءت به بعض الأحاديث المأثورة عن أئمة أهل البيت(ع). فقد جاء في الكافي عن أبي عبد الله وجعفر الصادق(ع) في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ} قال: الغناء[4].. فيكون المعنى والذين لا يحضرون الزور، أي مجالس الباطل.. وقد يكون ذيل الآية في الفقرة التالية يتناسب مع هذا المعنى ـ كما يقول صاحب تفسير الميزان ـ[5].
{وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} والمراد بالمرور باللغو، المرور بالذين يمارسون اللغو، ويشتغلون به، فلا يتوقفون عندهم ليستمعوا إليهم، أو ليخوضوا معهم فيه، بل يعرضون عنه ويتابعون طريقهم إلى ما يريدون تنزهاً عن ذلك، لأن الإِنسان المؤمن لا يفكر في الحياة إلا من موقع الحصول على الفائدة في الدنيا والآخرة، فلا يتوقف ولا يستغرق في ما لا فائدة فيه ولا منفعة لنفسه وللآخرين[6].
{وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} التي أنزلها الله على رسله مما يفتح قلوبهم على الله وعلى طاعته، وعلى ما فيه صلاح دينهم ودنياهم من حكمةٍ أو موعظةٍ حسنة، من قرآن أو وحي سابق منزل؛ فإذا دعاهم الناس إلى شيء من ذلك ليسمعوه، وليفكروا فيه، وليعملوا به، أصغوا إليها بمسامع قلوبهم، وفتحوا لها كل عقولهم، ولم يعرضوا كما يعرض الكافرون. {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } كما يفعل الذين لا يسمعون إذا قُرىء القرآن عليهم، أو الذين لا يبصرون إذا قدّم إليهم القرآن ليقرأوه. وهكذا يتحرك المؤمن في مصادر المعرفة ليوجّه إليها كل عقله وشعوره ليبني شخصيته ـ من خلالها ـ على أساس العلم والإيمان، وليهتدي بها إلى مواقع الهدى، لأن المعرفة عنده مسؤوليةٌ وليست مجرد حالةٍ طارئة في حركة الحياة من حوله[7].
{وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} بحيث يعيش الإنسان الشعور بالسرور عندما ينظر إليهم وهم يؤمنون بالله ويتحركون في خط طاعته ورضاه على أساس الالتزام بالحق في كلّ أقوالهم وأفعالهم، لأن الإنسان المؤمن لا يفكر في القضايا بطريقةٍ ذاتيةٍ، من خلال العلاقات الخاصة في الحياة بزوجه وولده، بل يفكر بطريقةٍ إيمانية مسؤولة. وهذا هو ما يخصص التمنيات بالجانب الإسلامي من شخصية الأزواج والأولاد بالإضافة الى ما يحبه الإنسان من جوانب أخرى.
{وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } في ما يحبه المؤمن لنفسه من التقدم في مجالات الخير، والدعوة إلى الله والعمل في سبيله، والالتزام بالخط المستقيم في العقيدة والشريعة والحياة، بحيث يبلغ الدرجة العليا في ذلك، حيث الإِمامة والقيادة. وذلك هو طموح المؤمنين في الحياة، في عملية التسامي في آفاق التقوى في ما يجاهدون به أنفسهم، ويطوِّرون به معارفهم، فلا تتوقف طموحاتهم على شؤونهم الذاتية في الحاجات الدنيوية الطبيعية، بل تنطلق إلى مواقع رضوان الله، انطلاقاً مما دعا الله إليه عباده المؤمنين من استباق الخيرات، والمسارعة إلى المغفرة والجنة والتنافس في درجات الحصول على رضاه.
* * *
بالصبر نوال النعم
{أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَـماً * خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً}. لعل كلمة الغرفة واردةٌ على سبيل الكناية عن الدرجة العالية في الجنة، والمقصود بالصبر الذي يبلغ به هؤلاء علوّ الدرجة في الجنة، الصبر على طاعة الله، والصبر عن معصيته، والصبر على ما يصيبهم من البلاء، لأن ذلك يدل على الالتزام العميق، والروحية العالية، والإِرادة الصلبة، والوعي العميق، والارتباط بالله من أوثق المواقع، ليكون لهم السعادة في الحصول على رضاه، في مواجهة غضب كل الناس مع كل ضغوط الحرمان المادية والنفسية والمعنوية على حياتهم. وهكذا تؤكد هذه الآية وغيرها من الآيات أن الصبر يمثل الإطار للمضمون الإيمانيّ في حياة الناس الذي يحتوي كل مواقع الحياة الرسالية ومواقفها. فبالصبر يحصل الفلاح، وبالصبر يتأكد الخير والحق والصلاح، وبالصبر ينال الناس ما عند الله من النعيم والسعادة والرضوان في الجنة.. ويلقّون فيها التحية من الله، والسلام من ملائكته، في ما يعبر عنه من اللطف والرعاية والرحمة والحنان.
وهكذا نرى أن عباد الرحمن الذين يختصهم الله برحمته، ويدعوهم إلى جنته، ويشملهم برضوانه، هم الذين تتجسد فيهم ملامح الشخصية الإسلامية في الإيمان بالله الواحد واليوم الآخر، وفي التجسيد العملي في التزام طاعة الله في أمره ونهيه، وتطلّعهم إلى السموّ الروحي في آفاقه، والارتفاع المتحرك في طريقه، وفي الاندماج بالمجتمع الذي يلتقي على كلمته.
وإذا كان الله قد تحدث عن بعض صفات هؤلاء الفتية من عباد الرحمن المخلصين، فإن الحديث يطرح هذه الأمور كنماذج للصفات الإيجابية والسلبية التي تمتد في كل أحكام الله في ما تمثله من قاعدةٍ أخلاقيةٍ متحركةٍ في مفرداتها العملية في حياة الإنسان، فإن الله يريد له أن يتخلق بأخلاقه ويلتزم بكل أحكامه ويجعل كل حياته صورةً حيةً لما هو الإسلام، ولما هو الإيمان في مفاهيمه العقيدية والروحية والعملية.
* * *
الدعاء يمنح الرعاية الإلهية
{قُلْ مَا يَعْبأ بِكُمْ رَبِّى لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} أي أن الله لا يبالي بكم ولا يعتني بشأنكم ولا يجعل لكم منزلةً عنده لولا دعاؤكم. وهذا المعنى واضح لا يحتاج إلى تفسير، ولكن ما هو المراد من كلمة "دُعَآؤُكُمْ"؟ هل المراد بها الدعاء إلى الله في ما يدعو الإنسان إليه من الإيمان به وعبادته والعودة إليه من الضياع الذي يلف الإنسان في أجواء الضلال، فيكون المعنى أن الله لا يعبأ بكم في أيّ وضع من الأوضاع، لولا دعاؤه لكم لتهتدوا، ولتعبدوه وحده لا شريك له؟ أو أن المراد بها دعاء العبد لله في ما يهمّه من أمور الحياة، أو في ما يحسّه من مشاعر الإيمان به، والخشوع له، والخضوع إليه، ليعبر عن توحيده، بالكلمة، والحركة والابتهال، فيكون المعنى أن الله لا يعبأ بكم لولا دعاؤكم إياه، في ما يمثله ذلك من التصديق بوجوده، والإِذعان بوحدانيته، والإخلاص لعبادته؟
هناك من يختار الوجه الأول، لأن الفقرة التالية لا تتناسب مع الوجه الثاني، وهي قوله تعالى: {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً} لأن تفريع ذلك على ما قبله من تفريع السبب على المسبب بمعنى انكشافه بمسبّبه، أي أن السبب في عدم اعتناء الله بكم هو تكذيبكم به، فلا خير يرجى منكم، فسوف يكون هذا التكذيب ملازماً لكم أشد الملازمة، إلا أن الله يدعوكم ليتم الحجة عليكم أو يدعوكم لعلكم ترجعون عن تكذيبكم.
أما المعنى الثاني، فإنه لا يلائم تفرّع قوله {فَقَدْ كَذَّبْتُمْ} عليه، وكان عليه من حق الكلام أن يقال: وقد كذبتم، على أن المصدر المضاف إلى فاعله يدلّ على تحقق الفعل منه وتلبّسه به، وهم غير متلبسين بدعائه وعبادته تعالى، فكان من حق الكلام على هذا التقدير أن يقال: لولا أن تدعوه.
ولكننا نلاحظ على هذا الاختيار التفسيري أن المعنى الثاني أقرب، لأن الظاهر من الآية هو التركيز على العنصر الذي ينال به الناس اعتناء الله بهم ورعايته لهم، مما يصدر عنهم، لا مما يصدر منه، تماماً كما تقول: لا قدر لك عندي لولا فعلك الكذائي، أو لولا قرابتك، أو ما أشبه ذلك، ما يوحي بأن مدخول «لولا» هو الشيء الذي يستحق بلحاظه القرب إليه والاعتناء به، ليكون المعنى أن الدعاء هو الذي يمنحكم رعاية الله وعنايته بكم، باعتبار ما يمثله من الدلالة على إيمانكم به وخضوعكم له.. ولكنكم لم تفعلوا ذلك لأنكم لم تلتزموا خط الإيمان، فقد كذبتم به وبرسله، وتمردتم عليه، وخضعتم لغيره، ودعوتم سواه، فسوف يكون إبعاده لكم لزاماً لأنكم لم تأخذوا بسبب القرب إليه.
أمَّا حديث اقتضاء إضافة المصدر إلى فاعله ووقوعه منه، فقد يكون ذلك لو كان الحديث عن الماضي، أمَّا عندما يكون الحديث عن العلاقة بين شيء وشيء في ما يجب أن يكون أو يحدث من أجل تحققه، فإنه لا يقتضي ذلك، أو ليس ظاهراً فيه على الأقل.
وقد وردت الرواية عن الإمام محمد الباقر(ع)، كما ذكره العياشي في تفسيره بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) كثرة القراءة أفضل أو كثرة الدعاء؟ قال: كثرة الدعاء؟ أفضل، وقرأ هذه الآية[8].
وهكذا نفهم أن الدعاء هو الوسيلة التي يتوسّل بها الإنسان إلى تجسيد الصلة بربه والشعور العميق بحضور الله في حياته. فهو الذي يحصل من خلاله على العلاقة الحميمة بالله، وعلى الرعاية الإلهية له، وهذا مما لم يحصل منهم لتكذيبهم لرسالته، وعكوفهم على عبادتهم للأصنام، وامتناعهم عن عبادة الله الواحد، الأمر الذي أبعدهم عن الدعاء فابتعدوا عنه، فابتعد الله عنهم وانقطعت الصلة بينهم وبينه إلى الأبد.
ـــــــــــــــــــــــــ
(1) مفردات الراغب، ص:545.
(2) تفسير الميزان، ج:15، ص:245.
(3) يراجع تفسير الميزان، ج:15، ص:240.
(4) (م.س)، ج:15، ص:246.
(5) (م.س)، ج:15، ص:242.
(6) جاء في كتاب عيون أخبار الرضا(ع) بإسناده إلى محمد بن أبي عباد، كان مشتهراً بالسماع وبشرب النبيذ قال: سألت الرضا "الإمام علي بن موسى"(ع) عن السماع، فقال: لأهل الحجاز رأي فيه وهو في حيّز الباطل واللهو، أما سمعت الله عز وجل يقول: {وإذا مروا باللغو مروا كراماً..}، البحار، المجلسي، ج:66، باب:37، ص:631.
(7) في روضة الكافي عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله "جعفر الصادق"(ع) عن هذه الآية.. قال: مستبصرين ليسوا بشكّاك، الكافي، الكليني، ج:8، باب:8، ص:178، رواية:199.
(8) تفسير الميزان، ج:15، ص:247.
تفسير القرآن