من الآية 160 الى الآية 175
الآيــات
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنّdى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ* وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ* قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ* قَالَ إِنّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ* رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ* فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ* ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ* وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (160-175).
* * *
معاني المفردات
{الذُّكْرَانَ }: جمع ذكر.
{عَادُونَ }: جمع عاد: وهو المعتدي.
{الْقَالِينَ }: القالون: جمع القالي، وهو المبغض.
{الْغَابِرِينَ }: جمع الغابر، وهو الباقي.
* * *
لوط يحاور قومه من موقع الرسالة
وهذا نبيٌّ آخر جاء برسالة الله إلى قومه ليواجه الانحراف الأخلاقي الذي يتميزون به في سلوكهم الجنسي الشاذ المذكّر، فأراد أن يعالج المسألة الأخلاقية لديهم من خلال المسألة العقيدية الروحية التي يرتبط الإنسان فيها بالله ليطلّ على تفاصيل الحياة ومفرداتها العملية من هذا الموقع الثابت في الفكر والإحساس والواقع، الأمر الذي يوحي إلينا أنّ الانحراف العملي لا يُعالج بالطريقة المباشرة التي تخاطب مفرداته وخصوصياته بشكلٍ مباشرٍ، بل بالطريقة الفكرية التي تمتد إلى جذور العقيدة والروح والإِحساس وتتحرك في مفردات الحياة كلها، لأن ذلك هو الذي يخلق الحوافز العميقة التي تدفع إلى الطاعة في أوامر الله ونواهيه. فإذا كان الإنسان لا يعيش روح التقوى لله، فكيف يمكن أن تقنعه ـ بشكل أساسي ـ أن يترك لذاته وشهواته التي يحبها ويرتاح إليها؟
* * *
كذبت قوم لوط المرسلين
{كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ} لأنهم انطلقوا في حياتهم من القاعدة الغريزية في حركة الفكر والسلوك، ولم ينطلقوا من الرسالات الإِلهية التي تتابعت في مدى الزمن بتتابع الرّسل لتأمر الناس بتقوى الله وطاعة رسله في كل قضايا الحياة وأوضاعها، {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ} وقد ذكر البعض أن لوطاً لم يكن أخاً لهم في النسب، حيث كان من بلد آخر بعيدٍ عنهم، إذ جاء مع عمه إبراهيم(ع) من بابل إلى مصر ثم إلى فلسطين حوالي القرن التاسع عشر قبل الميلاد ـ كما يقال ـ وأقام في وادي الأردن. وبذلك كان أخاً لهم من خلال اندماجه معهم في المجتمع حتى عاد كواحدٍ منهم في الحياة الاجتماعية العامة، ولكنه كان منفصلاً عنهم في التفكير وطريقة الحياة والسلوك على أساس حمله لرسالة الله التي بدأها بالدعوة إلى التقوى الفكرية والعملية في السير على خط الاستقامة الذي يبدأ من الله من خلال وحيه وينتهي إليه في مواقع طاعته ورضاه.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} أحمل رسالة الله كما أوحى بها إليَّ من دون زيادة أو نقصان، لأن أمانة الرسالة تفرض عليّ ذلك، باعتبارها الأمانة التي أراد الله لي أن أؤديها إلى الناس بكل صدقٍ وإخلاص، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} لأن تقوى الله تتمثل في حركة الواقع باتباع الرسول وطاعته في كل أوامره ونواهيه، لأنه لا يمثل نفسه في ذلك كله، بل يمثل وحي الله وإرادته في جميع الأمور.
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} فليست لي أيّة مصلحة ذاتية عندكم مما يدعوكم إلى الاستجابة لي في دعوتي، بل هي مصلحتكم في ما أودع الله في عمقها من مصالحكم الحقيقية في حركة الحياة على خط الله، فلا أطلب منكم مالاً ولا جاهاً ولا شهوةً، لأنّ كل همي هو الله في رضاه عني في أداء رسالته كما يريد ويحب. ولن تخسروا شيئاً في الاستجابة لي، إلا ما تفقدونه من جهلكم وتخلّفكم وانحرافكم الذي سيتحوّل إلى علم وتقدّم واستقامة.
* * *
أتأتون الذكران من العالمين
{أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ} مما يدل على انحرافٍ طبيعي في حركة الغريزة التي تنطلق لتلبية حاجاتها الذاتية لدى المرأة من خلال ما أعدها الله له من التكامل الروحي والجسدي مع الرجل على أساس العناصر الطبيعية الحيويّة في الإنسان، {وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} في الحاجات الطبيعية في التنوع الجسدي في وظائفه الخاصة المميزة؟! {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} تتحركون في مواقع الاعتداء على الطبيعة والفطرة والشريعة، وعلى حق الله عليكم بالإطاعة له في أوامره ونواهيه.
{قَالُواْ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ} المطرودين من أرضنا، لأنك تدعو إلى تغيير عاداتنا، وتسفيه أحلامنا، وتشويه صورتنا، والتنكُّر لرغباتنا، وتتدخل ـ بعد ذلك ـ بما لا يعنيك، لأننا نملك الحرية في التصرف بأجسادنا بالطريقة التي تحلو لنا، بعيداً عن القيود والحدود. وما دخل الله في ذلك كله، وما دخل الشريعة في تبديل الأمزجة الإنسانية؟ لقد تعدّيت حدودك ـ يا لوط ـ وتجاوزت الخطوط الحمراء التي لا يجوز لإنسانٍ متوازن أن يتجاوزها، بل يجب عليه مراعاة اللياقات الاجتماعية، فلا يسيء لعاداته وتقاليده.
* * *
منطق دعاة حرية الشذوذ الجنسي
ولكن الحقيقة، أمام المنطق الذي يمكن أن يستوحى من تصورات قوم لوط، في ما ينطق به أتباعهم المعاصرون من الداعين إلى حرية الشذوذ الجنسي المذكر، كقضيةٍ من قضايا الحرية الفردية المقدّسة، أن ذلك لا يمثل أيّة حجةٍ مقنعة، لأن الله ـ من وجهة النظرة الدينية التوحيدية ـ هو الخالق للإنسان والمدبّر له والمالك لأموره كلها، فلا بد من أن يأذن للإنسان بما يأخذ به أو يدعه من أفعال، لأنه يملك منه ما لا يملكه من نفسه، وهو الذي يتدخل ليحمي الإنسان من نفسه، كما يحميه من عدوان غيره.
ثم إن الحرية ليست حالة مزاجٍ منفصل عن النظام العام للفرد في مواقع فرديته، لأن الفردية المطلقة لا وجود لها ما دام الإنسان مرتبطاً بالأفراد الآخرين في الهيكل الاجتماعي المشترك المترابط في حاجاته وأوضاعه، المتكامل في غرائزه المتحركة من أجل استمرار وجوده في النوازع الخاصة، أو في العلاقات العامة، فهناك خطٌ يتصل في حركته بالفطرة الإنسانية الداخلية والخارجية في تواصل الحاجات الجسدية وتفاعلها، فلا بد من دراسة ذلك في التخطيط لقاعدة الحرية الفردية بالمستوى الذي لا تتحول فيه إلى خطرٍ على الحرية الاجتماعية في حفاظ المجتمع على وجوده في علاقاته الأخلاقية والغريزية والعاطفية.
وهكذا لم يكن لديهم أية حجةٍ مقنعةٍ في مواجهة دعوته، بل كانت القواعد المهدّدة بالنفي والتشريد والقتل هي سبيلهم إلى إسكات صوته وإسقاط موقفه، ولكن النبي لم يتراجع، ولم يسقط، ولم يغيّر موقفه، بل رفع أمره إلى الله في تقريره الأخير بعد أن أعلن لهم بأنه رافضٌ لعملهم، وبريء منهم، ليحدّد الفواصل التي تفصله عنهم في ما يفصل المؤمن عن الكافر، وفي ما يفترق به التقي عن الشقي، والمستقيم عن المنحرف.
{قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ الْقَالِينَ} المبغضين الرافضين له جملةً وتفصيلاً. {رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ} من انحرافٍ وعصيان، ومما يهددونني به من نفي وتشريد؛ {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ* إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغَابِرِينَ} وهي زوجة لوط التي بقيت على عهدها لقومها لأنها كانت منسجمةً معهم في تفكيرهم وانحرافهم، {ثُمَّ دَمَّرْنَا الاَْخَرِينَ} من قوم لوط ـ بعد خروج لوط ـ بما أنزله الله عليهم من العذاب المدمّر، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ} مما أمطره عليهم من حجارةٍ قاتلةٍ مدمرة، {إِنَّ فِى ذَلِكَ لاََيَةً} لمن أراد أن يعتبر ويتعظ به {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
تفسير القرآن