تفسير القرآن
الشعراء / من الآية 176 إلى الآية 192

 من الآية 176 الى الآية 192

الآيــات

{كَذَّبَ أَصْحَابُ لْـَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إني لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أشياءهم وَلاَ تَعْثَوْاْ في الأرض مُفْسِدِينَ* وَاتَّقُواْ الذي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأولين* قَالُواْ إنما أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وما أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين* فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السماء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين* قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لآية وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (176-191).

* * *

معاني المفردات

{لْـَيْكَةِ}: الشجر الملتفّ الكثيف.

{الْمُخْسِرِينَ }: بكسر السين والراء: جمع المخسر، وهو الذي إذا عامله أحد الناس خسر لأنه يأخذ منه أكثر من حقه.

{بِالْقِسْطَاسِ}: الميزان.

{تَبْخَسُواْ }: البخس: النقص.

{وَالْجِبِلَّةَ}: الخلقة والطبيعة.

{كِسَفاً }: جمع كسفه: وهي القطعة.

{الظُّلَّةِ }: بضم الظاء: هي السحابة التي استظلوا بها من العذاب فأحرقتهم.

* * *

حوار شعيب مع قومه

وهذا نبيٌّ آخر عاش مع جماعةٍ من الناس في منطقةٍ قريبةٍ من مدين فيها شجرٌ كثيرٌ، وكانوا يمارسون الانحراف الأخلاقي في علاقاتهم الاقتصادية بالناس، فيسيئون إليهم في مسألة التعامل المالي، إذ يأكلون بعض حقوقهم بعد أن يأخذوا لأنفسهم القدر الوافي، ثم يدفعون لهم الناقص. فكانت رسالة شعيب إليهم أن يتقوا الله في ذلك وفي غيره، ليتوازنوا في السلوك العام مع أنفسهم، ومع الناس، وكانت النهاية معه، كما هي النهاية مع غيره، أن يكذبوه، فأنزل الله بهم عذابه في الدنيا دون أن ينجيهم ذلك من عذاب الآخرة.

{كَذَّبَ أَصْحَبُ لْـَيْكَةِ} الغيضة الملتف شجرها {الْمُرْسَلِينَ} بتكذيبهم بأساس التوحيد للرسالات، {إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } الذي لم يكن قريباً إليهم ـ كما يبدو ـ ولذا لم يقل أخوهم، {أَلاَ تَتَّقُونَ } الله في الخط الفكري والعملي في حركة الحياة في مستوى الرسالات في ما يحبه الله ويرضاه، {إِنِّى لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } لا يخونكم في نصيحة، ولا يخون الله في رسالته، فأنا الأمين على حياتكم من خلال ما حمّلني الله من الرسالة الهادية، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فذلك هو المظهر العملي للإيمان بالله والاعتراف بألوهيته.

{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْريَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} لأنكم لا تملكون لأنفسكم ولا لأحد غيركم نفعاً ولا ضرّاً إلا بإذن الله، فلماذا أطلب الأجر منكم ولا أطلبه من الله سبحانه، فلا أريد منكم شيئاً إلا الاستجابة لله في تفاصيل الرسالة كلها. ويا قوم {أَوْفُواْ الْكَيْلَ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ الْمُخْسِرِينَ } الذين ينقصون الناس أشياءهم فيوقعونهم في الخسارة، {وَزِنُواْ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ } وهو الميزان الدقيق الذي تتوازن كفتاه في الأخذ والعطاء، على أساس العدل في الحقوق. {وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَآءهُمْ } أي لا تنقصوهم حقوقهم، {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الاَْرْضِ مُفْسِدِينَ } لا تفسدوا في الأرض بالإخلال في التوازن العام في السلوك الاقتصادي المنحرف، الذي قد ينتهي إلى الانهيار في التعامل من ناحيةٍ ماليةٍ وأخلاقيةٍ، فقد أراد الله للحياة أن تتوفر فيها الطاقات الإنسانية على إصلاح الواقع والحركة والفكر في كل ما يحيط بالإنسان، وما يتحرك في حياته، وما يفكر به.

وهكذا كانت رسالة شعيب لقومه، أن يواجهوا الحركة التجارية في معاملاتهم من مواقع الإصلاح لا الإفساد، وذلك بإقامة التوازن في كل ما لهم وما عليهم، من خلال المسألة الموضوعية التي تنظر إلى طبيعة الحق في المعاملة، لا من خلال المسألة الذاتية التي تنظر إلى طبيعة الذات في الربح والخسارة. وأن تكون التقوى حافظاً لخطواتهم من الزلل، ومواقعهم من الانحراف، إذا اقترب الشيطان منهم في عملية إغواءٍ وتضليل.

{وَاتَّقُواْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الاَْوَّلِينَ } والمراد بالجبلّة الطبيعة والفطرة الإنسانية التي أقام عليها أمر الخلق في ما أودعه في فطرتهم من الرغبة في الخير واتقاء الشرّ، فإذا كان الله هو الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، فيجب عليكم أن تتقوه وتراقبوه في كل أموركم، لترتبوا قضايا الربح والخسارة على أساس رضاه، لا على أساس ما تحصلون عليه من نتائج مادية، أو ما تخسرونه منها، لأنه يملك منكم ما لا تملكونه من أنفسكم وما لا يملكه منكم غيركم. فكما أهلك الأقدمين من آبائكم فأصبحوا تحت رحمته في مماتهم، فإنه سيهلككم ويهلك أموالكم ولا يبقى لديكم شيء إلا رحمته، فاتّقوه لتحصلوا عليها.

{قَالُواْ إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} الذين لا يملكون عقولهم، ليميزوا بين الحق والباطل، فقد استطاع السحر أن يترك تأثيره على شخصيتك، فأصبحت تتحرك كالمسحور الحائر الذي لا يعرف كيف يتصرف، وكيف تتوازن الأشياء في ذهنه وسلوكه، فكيف نستمع إليك باحترام، ونقبل دعوتك بإذعان؟ ثم من أنت في المقياس الحقيقي للرسالة؟ وما الذي يميزك عنا ليكون لك حق الطاعة علينا من خلال صفة الرسالة التي تدّعيها لنفسك؟ {وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} الذين ينطلقون من الكذب ليحصلوا على الامتيازات الذاتية في المجتمع، على أساس ما يمنحونه لأنفسهم من صفات عظيمة، لأن ما تدّعيه لا ينسجم مع مقياسنا للرسالة وللرساليين.

{فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ} أي قطعاً من السماء المتناثرة لتكسر رؤوسنا، وتحرق أجسادنا، {إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} في ما تدعيه من علاقتك المميزة بالله التي تتيح لك أن تملك السيطرة على الكون، في ما تريد، وما لا تريد. {قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} فلست الديّان الذي يفرض عليكم ما يشاء من عقاب على أعمالكم، لأني لا أملك علم ذلك، ولا السلطة عليه، فللَّه الأمر كله، وإنما أنا رسول من قِبَلِه لأحمل لكم رسالته، ويبقى له ما يريد أن يفعله بكم من خلال اطّلاعه عليكم وعلى أعمالكم، فإن شاء عجَّل وإن شاء أمهل، ولن يفوته شيءٌ من أمركم على كل حال.

{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} وقد ذكر المفسرون أنها سحابة استظلوا بها من حرّ أصابهم، فأمطرتهم ناراً أحرقتهم عن آخرهم.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } وقد تقدم تفسيره.