تفسير القرآن
الشعراء / من الآية 192 إلى الآية 212

 من الآية 192 الى الآية 212

الآيــات

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ* نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمين* عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ* بِلِسَانٍ عربي مُّبِينٍ* وَإِنَّهُ لفي زُبُرِ الأولين* أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائيل* وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلَى بَعْضِ الاَْعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ* كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ* لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ* فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ* فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ* أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ* أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ* ثُمَّ جاءهم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ* مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ* وما أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ* ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظالمين* وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ* وَمَا يَنبَغِى لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ* إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} (192ـ212).

* * *

معاني المفردات

{الرُّوحُ الاَْمِينُ}: جبريل(ع).

{زُبُرِ}: الزبر: الكتب.

{الاَْعْجَمِينَ}: بياء النسبة وياء الجمع جمع الأعجمي، وقال الطبرسي: العجمي نقيض العربي، والأعجمي نقيض الفصيح[1].

{لَمَعْزُولُون}: ممنوعون ومصروفون.

* * *

إنه لتنـزيل من رب العالمين

وهكذا انتهى الأمر إليك ـ يا محمد ـ لينزل الله عليك رسالته، لتبلِّغها للناس كما بلَّغ الأنبياء من قبلك رسالاتهم، وليواجهك قومك بالمنطق الذي واجه به أقوام الأنبياء أنبياءهم، بالرغم من وضوح الحجة على الحق في موقفك ورسالتك.

{وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إذ تتمثل في هذا القرآن أسرار الإِعجاز التي توحي بأنه كلام الله الذي لا يستطيع أن يدنو منه كلام المخلوقين، {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ } والمراد به جبرئيل الذي كان ينزل بالقرآن على النبي محمد (ص) بكل أمانةٍ ودقّةٍ وإتقان، فلا مجال للشك في زيادته أو نقصانه. وقد جاء في بعض الآيات ما يدلّ على ذلك في قوله تعالى: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] وقد أطلق عليه صفة روح القدس في قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ } [النحل: 102].

{عَلَى قَلْبِكَ} توحي كلمة القلب بمعنى الوعي والإدراك في شخصية الإنسان، من خلال ما تمثله النفس في احتضانها لكل المدركات والمعقولات، بكل مفاهيمها وإحساساتها. ولعل السرّ في عدوله عن كلمة (عليك) إلى كلمة قلبك، للإِيحاء بالجانب العقلي من شخصية النبيّ، الذي هو الأساس في اختزان الإنسان للوحي في ما يريده الله منه من إدراك وتعقّل وإيمان.

وقد ذكر صاحب الميزان في تفسير ذلك وجهاً آخر فقال: «ولعلّ الوجه في قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الاَْمِينُ* عَلَى قَلْبِكَ} دون أن يقول: عليك، هو الإشارة إلى كيفيّة تلقّيه(ص) القرآن النازل عليه، وأن الذي كان يتلقّاه من الروح هو نفسه الشريفة من غير مشاركة الحواسّ الظاهرة التي هي الأدوات المستعملة في إدراك الأمور الجزئية.

فكان(ص) يرى ويسمع حينما كان يوحى إليه من غير أن يستعمل حاسَّتي البصر والسمع، كما روي أنه كان يأخذه شبه إغماء يسمّى برحاء الوحي.

فكان(ص) يرى الشخص ويسمع الصوت مثل ما نرى الشخص ونسمع الصوت، غير أنه ما كان يستخدم حاسّتي بصره وسمعه الماديتين في ذلك كما نستخدمهما. ولو كان رؤيته وسمعه بالبصر والسمع الماديين، لكان ما يجده مشتركاً بينه وبين غيره، فكان سائر الناس يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه. والنقل القطعي يكذّب ذلك، فكثيراً ما كان يأخذه برحاء الوحي وهو بين الناس فيوحى إليه، ومن حوله لا يشعرون بشيء ولا يشاهدون شخصاً يكلمه ولا كلاماً يلقى إليه»[2].

وهذا معنى طريف في ذاته، ولكنه غير ظاهر من سياق الكلام، بل كل ما هناك أن الآية تشير إلى أن الله قد أنزله عليه ليعي كل مفاهيمه وليلقيه للناس من خلال عمق الوعي الشامل في شخصيته، ليكون القرآن في شخصيته عقلاً يعي الفكرة، وشعوراً يختزن الإيمان.

{لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} للناس من حولك بما يشتمل عليه من تفاصيل الإنذار بالنتائج السلبية على تقدير الابتعاد عن خط الرسالة، {بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ} لأن الله ينزل وحيه على كل نبيٍّ بلسان قومه ليكون ذلك سبباً لوعيهم له من خلال وعيهم لمعاني هذه اللغة، ليكونوا الطليعة الأولى التي تحمل الرسالة للآخرين من موقع فهمهم للإسلام ووعيهم لتعاليمه وتفاعلهم مع مفاهيمه.

{وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الاَْوَّلِينَ} أي صحف الأولين التي أنزلت على الأنبياء من قبلك، فقد اشتمل على كثير من التعاليم والوصايا والقصص التي أرادها الله منهجاً للأمم السابقة، كما أرادها جزءاً من خطّة متكاملة للناس الآن. وبذلك كان القرآن مصدّقاً لما بين يديه من الكتب، وخاتمة لحركة الرسالات الإِلهية، يختصر كل مفاهيمها الأصلية في مفهوم جامع، ويدفع بالمفاهيم الجديدة للمستقبل، ما يوحي بأنه الحق الذي لا ريب فيه لمن يؤمن بالكتب المنزلة السابقة.

وقد اعترض صاحب الميزان على هذا الوجه في التفسير، بأن «المشركين ما كانوا يؤمنون بالأنبياء وكتبهم حتى يحتج عليهم بما فيها من التوحيد والمعاد وغيرهما، وهذا بخلاف ذكر خبر القرآن ونزوله على النبي(ص) في كتب الأولين، فإنه حينئذ يكون ملحمة تضطر النفوس إلى قبولها»[3].

ولكن الظاهر أن المشركين كانوا يعيشون ـ من الناحية الثقافية ـ في أجواء الكتب المنزلة السابقة، لا سيما ما يتصل بإبراهيم وموسى وعيسى(ع)، ما يوحي بوجود نوع من الاحترام والتعظيم لها والإيمان بها من ناحيةٍ عامة. ولو تم ما ذكره من الملاحظة في عدم الإيمان بالكتب وبالأنبياء، لكان ردّاً على الوجه الذي ذكره من دون أن تكون طبيعته الملحمية موجبةً لقبوله، لأن بإمكانهم مناقشة الأمر كله، كما يناقشون بالكتب نفسها، هذا أوّلاً.

وثانياً، إن القرآن لم يتحدث ـ على الظاهر ـ بأن الإشارة إليه مذكورة في الكتب السابقة، بل كل ما هناك أن اسم النبي محمد(ص) كان مذكوراً على لسان الأنبياء السابقين، إلاَّ إذا كان ذكره(ص) لازماً لذكر القرآن، بينما تعدد الحديث في القرآن، أنه مصدق لما بين يديه من الكتب، وأن ما تضمنه من بعض المعارف مذكور في صحف إبراهيم وموسى(ع)، والله العالم.

{أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} الذين كانوا يتحدثون عن النبي وعن كتابه ودينه، وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا، ما يدلّ على أنه يرتكز على أساس الحقيقة الدينية المتوارثة عند أهل الكتاب الذين يملكون الاحترام لدى المشركين في معرفتهم بالمسألة الدينية باعتبارها من اختصاصاتهم في نظر الجميع.

* * *

الكذب يفتح أبواب العذاب

{وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الاَْعْجَمِينَ* فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} أي لو نزلناه بلغة العجم، فقرأه على هؤلاء الذين ينكرونه الآن، لأمكن أن لا يؤمنوا به متعلِّلين بأنهم لا يفهمونه في خصائصه الدالة على صدقه، ولكن ما عذرهم أمام هذا القرآن العربي الواضح الذي لا مجال فيه للريب أو الشك في ما يفهمونه من كل مقاصدهم، وهذا ما يمكن أن نستوحيه من الحديث عن إنزاله {بِلِسَانٍ عَرَبِىٍّ مُّبِينٍ } ومن قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرآناً أعْجَمِيّاً لَّقَالُواْ لَوْلاَ فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت:44].

وقال بعض المفسرين ـ كما نقله صاحب الميزان ـ : «إن المعنى: ولو نزلناه قرآناً عربياً كما هو بنظمه الرائق المعجز، على بعض الأعجمين الذين لا يقدرون على التكلم بالعربية، فقرأه عليهم قراءةً صحيحةً خارقة للعادات، ما كانوا به مؤمنين مع انضمام إعجاز القراءة إلى إعجاز المقروء لفرط عنادهم وشدة شكيمتهم في المكابرة»[4]. ويرد عليه أنه لا شاهد له من السياق، ولا من ظاهر اللفظ، بينما يملك الوجه الأول أكثر من شاهد.

{كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ} الذين أغلقوا وجدانهم عن الانفتاح على الحق النازل من الله، فكان من نتيجة ذلك أن دخلها الشك والريب، فتحركت بالأفكار السلبية الرافضة للإيمان في مواقع الحقيقة، فلم يُقبلوا عليها بالفكر والتأمّل والعمق في الملاحظة، وهكذا ترتبط المسألة بطبيعة الأشياء، فلن يتحرك الريب إلا في ما تحتويه الأرض الصالحة من بذورٍ خبيثةٍ، كما لا يتحرك الإيمان إلا في ما تحتويه الأرض الطيبة من بذورٍ طيبة. أمَّا نسبة الفعل إلى الله، فقد يكون ناشئاً من الترابط الذي أودعه الله في الناس في علاقة المسببات بأسبابها.

فإذا كانت القضية تتحرك في هذا الاتجاه السلبي، فقد يكون من الطبيعي أنهم {لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ} ويصرّون على رفض الإيمان من دون أن يتراجعوا عن ذلك، إلى أن يأتيهم الموت ويواجهوا هناك الموقف الحاسم في الحاكم العادل في رحلة النتائج السلبية على مستوى مصيرهم، كرد فعل للنتائج السلبية في قضية إيمانهم، {حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الاَْلِيمَ* فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} لأنهم كانوا في غفلةٍ مطبقةٍ لا تفسح لهم المجال للاستعداد للموقف، والتراجع عن الخطأ، تماماً، ككل هؤلاء الذين يركبون رؤوسهم من دون انفتاح على الجانب الآخر من الصورة، فيستغرقون في الظلام حتى ينفتح عليهم النور فجأة في الوقت غير المناسب، والمكان غير المناسب. ويبدأ التساؤل {فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ} لنؤمن من جديد، ونتراجع عن خط الكفر ونطيع الله في ما أمرنا ونهانا؛ وهذا تساؤل لا يبحث عن جواب، ولكنه يعبّر عن حالةٍ نفسيةٍ خانقةٍ، تثير الحسرة والندم في أعماقهم.

ولكن الله يستعيد موقفهم أمام نبيهم، يوم كانوا يطلقون كلمات التحدي التي تختزن السخرية والاستهزاء عندما كانوا يقولون له: {فائتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} [الأعراف:70]، {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ} [الشعراء:187]، ويطلق أمامهم التساؤل الذي يستبطن التحدي المضاد الحاسم.

{أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ} فكيف يواجهون الموقف أمامه بهذا الشكل من الاستهانة والسخرية، وما الوسائل التي يملكونها للوقوف أمامه؟ وما الأسس التي يرتكزون عليها في إنكار ذلك؟

{أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} وأمهلناهم وفتحنا لهم كل أبواب الحياة الدنيا، بما فيها من شهوات وطيبات ولهو ولعب {ثُمَّ جَآءهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ} من العذاب، فهل يجديهم هذا الإمهال نفعاً، وهل يدفع عنهم ضراً؟ وماذا يجديهم أمام إصرارهم على الاستمرار في الكفر إلا زيادةً في المسؤولية وخطورةً في النتائج السلبية على مستوى قضية المصير؟ {مَآ أَغْنَى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ} لأن ذلك الجو من الشهوات واللذات واللهو واللعب سيزول ويتبخّر أمام رياح الفناء وستبقى تبعاته وسيّئاته.

وتلك هي مشكلة هؤلاء في مواجهتهم لدعوات الأنبياء في رسالاتهم، فهم يتحركون من عقدة الرفض الكامنة في تعقيدات الذات، ومن حالة الانفعال المريض الغارق في أجواء الكبرياء، فلا يمنحون أنفسهم فرصةً للتفكير، ولا يتقدمون خطوة في ساحات الحوار، بل يستغرقون في الحالة النفسية المرضية، حتى يواجهوا الاستحقاقات المصيرية عندما يلاقون العذاب، فيندمون حيث لا ينفعهم الندم، ويتوسلون حيث لا مجال لأيّة وسيلة للتراجع.

{وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} يبلّغونهم رسالات ربهم، وينذرونهم نتائج الكفر والعصيان لتقوم عليهم الحجة، فلا يملكون أيّة وسيلة دفاعٍ عن موقفهم إذا امتد بهم الطريق في التمرد على الله، {ذِكْرَى} ليدفعهم الإنذار إلى الانتباه من الغفلة، والتذكر لكل ما حولهم، وما يقبلون عليه في المستقبل. وتلك هي فكرة العدالة التي يتحرك بها العقل الذي يحكم بقبح العقاب من دون إقامة الحجة، ويأتي بها الوحي في قوله تعالى: {مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15]، {وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ}في إهلاكهم بعد إنذارهم بمختلف الأساليب، وتذكيرهم بأنواع الوسائل.

* * *

وما تنزّلت به الشياطين

{وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} الذين يعتقد الجاهليون أنهم يتنزلون على الكهان، فيوحون إليهم بأخبار الغيب في أمور الكون والناس. وهذا ما حاول البعض أن يربط به المضمون القرآني، لينسب إلى النبي(ص) شخصية الكاهن الذي يأتيه الجن الشيطاني بما ينقله من الوحي وما يتحدث به من الغيب، وهكذا أراد الله أن ينفي ذلك تأكيداً لما ذكره من أنه {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ } [الواقعة:80]، {وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ} لأنهم لا يمثلون التناسب والأنسجام مع ما هو القرآن في مضمون الحق الذي يبشر به والهدى الذي يدعو له، لأن نفوسهم مجبولةٌ على الشرّ الذي تتحرك فيه عقولهم، وتخفق به قلوبهم، وتطوف به أخيلتهم وأحلامهم، ما يجعلهم بعيدين عن ذلك كله {وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} الوصول إلى هذا الكلام، لو أرادوا ذلك وحاولوه، لأنه كلام الله الذي لا يصل إليه إلا الذي أنزله الله عليه، فهو ليس شيئاً يصل إليه الإنسان باختياره ووسائله الخاصة، بل هو من الغيب الذي يملك الله أمره، ولا يملكه أحد إلا من حيث ملّكه الله إيّاه، وهم إلى ذلك كما وصفهم الله: {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ } فلا سبيل إلى أن يسترقوا السمع للاطلاع على ما يجري في الملكوت الأعلى، لأن الله يقذفهم بالشهب إذا حاولوا ذلك، فيمنعهم من استراق السمع. إنه الأسلوب القرآني الذي يريد أن يبعد الإنسان عن الخرافة في العقيدة، بأسلوب وجداني وعلمي من أجل قيادته إلى الارتباط بالحقيقة من أقرب طريق.

ـــــــــــــــــــــ

(1) مجمع البيان، م:4، ص:265.

(2) تفسير الميزان، ج:15، ص:317ـ318.

(3) (م.س)، ج:15، ص:320.

(4) تفسير الميزان، ج:15، ص:322.