من الآية 213 الى الآية 220
الآيــات
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ* وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ* وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بريء مِّمَّا تَعْمَلُونَ* وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ* الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ* وَتَقَلُّبَكَ في الساجدين* إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (213ـ220).
* * *
التوجيه الإلهي للنبي في حركة الدعوة
ما دام النبيّ في موقع الدعوة التي تواجه التحديات، وما دامت التحديات تتحرك لتضغط على مواطن الضعف في الداعية لتقوده إلى التراجع والانهزام أو الانحراف، كان لا بد من أن يتحرك الوحي القرآني لتثبيت الخط في الوعي والحركة والواقع، ولتوجيه الخطى في الساحة العملية إلى السير في الطريق المستقيم على أساس الحكمة والحق والاعتدال.
* * *
لا تدع مع الله إلها آخر
{فَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ} مما قد يدعوك إليه الآخرون في بعض طروحات التسوية التي تقودك إلى تقديم التنازلات من مواقفك ومواقعك في العقيدة والحياة، فقد يدفعونك إلى أن تقدم فروض العبادة إلى إله آخر، أو تدعو إلى عبادة غيره تحت تأثير نقاط الضعف في شخصيتك.
وإذا كان هذا الفرض غير وارد بالنسبة إلى النبي(ص) المعصوم عن الانحراف، فإن القرآن قد اتخذ أسلوب مخاطبة الأمة من خلال توجيه الخطاب إلى النبي للتدليل على مستوى الأهمية الذي ترقى إليه القضية، ما يجعل الاحتياط في التأكيد عليها، يأخذ الحجم الكبير الذي يتخذه الخطاب القرآني في تحريك التوجيه إلى النبي، لا إلى الناس، للإيحاء للدعاة إلى الله بأنّ عليهم أن يكونوا في موقع اليقظة من كل الوساوس التي يثيرها المنحرفون في صدورهم وفي حياتهم، {فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ } لأن الشرك يستدعي العذاب الشديد من الله.
* * *
وأنذر عشيرتك الأقربين
{وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ} كقاعدةٍ أولى لإنذار الآخرين، لأن الناس قد يتحدثون معه عن عشيرته بأنهم الأولى باتباعهم خط الدعوة في ما يجب أن يلتقوا به من مفاهيمها وتعاليمها، فإذا آمنوا به وصدّقوه كانوا عوناً له على رسالته بالتفافهم حوله ونصرتهم له، بينما يفرض الموقف المعاكس نتيجةً معاكسةً، لأنهم يكونون حجةً عليه، حيث يمكن أن يثار الحديث لديهم بأنه لو كان صادقاً لصدّقته عشيرته لأنه أعرف الناس بهم وأقربهم إليه.
وقد اختلف المفسرون في هذه الآية، فقد جاء في الدر المنثور عن أبي أمامة قال: «لما نزلت {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الاَْقْرَبِينَ} جمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني هاشم فأجلسهم على الباب، وجمع نساءه وأهله فأجلسهم في البيت، ثم اطّلع عليهم فقال: يا بني هاشم اشتروا أنفسكم من النار واسعوا في فكاك رقابكم أو افتكّوها بأنفسكم من الله، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً.
ثم أقبل على أهل بيته فقال: يا عائشة بنت أبي بكر، ويا حفصة بنت عمر، ويا أم سلمة، ويا فاطمة بنت محمد، ويا أم الزبير عمة رسول الله، اشتروا أنفسكن من الله واسعوا في فكاك رقابكن، فإني لا أملك لكم من الله شيئاً ولا أغني، الحديث»[1].
ولكن يُلاحظ على هذا الحديث، أن الآية مكية، فلا تتناسب مع الخطاب مع عائشة وحفصة وأم سلمة، اللاتي تزوجهن النبي في المدينة.
وفي مجمع البيان عن تفسير الثعلبي بإسناده عن البراء بن عازب قال: «لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى الله عليه وسلّم بني عبد المطلب وهم يومئذ أربعون رجلاً، الرجل منهم يأكل المسنّة ويشرب العسّ[2]، فأمر علياً بِرجْل شاة فأدّمها ثم قال: ادنوا بسم الله، فدنا القوم عشرةً عشرةً، فأكلوا حتى صدروا. ثم دعا بقعب من لبن فجرع منه جرعةً ثم قال لهم: اشربوا بسم الله فشربوا حتى رووا، فبدرهم أبو لهب فقال: هذا ما سحركم به الرجل، فسكت صلى الله عليه وسلّم يومئذ ولم يتكلم.
ثم دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب، ثم أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم فقال: يا بني عبد المطلب إني أنا النذير إليكم من الله عز وجل والبشير فأسلموا وأطيعوني تهتدوا.
ثم قال: من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليي ووصيي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني؟ فسكت القوم، فأعادها ثلاثاً، كل ذلك يسكت القوم ويقول علي(ع): أنا، فقال في المرة الثالثة أنت، فقام القوم، وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمِّر عليك»[3].
وهناك عدة روايات مماثلة لهذه الرواية في كثير من مضمونها، مما روي عن أبي رافع، ورواه السيوطي في الدر المنثور، وصاحب علل الشرائع. وقد نستوحي منها الفكرة التي تؤكد على أن الالتزام بالرسالة في خط الدعوة والجهاد والعمل، والمؤازرة في ذلك كله، هو القيمة كل القيمة، والفضل كل الفضل، في علوّ الدرجة، وسموّ المكانة، وجدارة الموقع، وهذا ما جعل للإمام علي(ع) الميزة الكبرى على الصحابة في علمه ونصرته وجهاده وتقدّمه في مجال الدعوة إلى الله.
* * *
واخفض جناحك لمن اتبعك من المؤمنين
{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} الذين آمنوا برسالتك، فانفتحوا على الله من خلالها، والتزموا بالحق على هداها، واتبعوك من موقع النبوة والقيادة الحقة على أساسها، وواجهوا كل تحديات الكفر والضلال في مواقعها، الأمر الذي يجعلهم في الدرجة العليا من المستوى الرسالي بعيداً عما هو الموقع في الميزان الطبقي في الصعيد الاجتماعي، لأن الرسالة تعطي للجانب الرسالي في حركة الشخصية قيمتها، فيتفاضل الناس في ذلك لا في النسب والمال والجاه وغيره.
وهذا ما يفرض على الرسول والدعاة والقادة الإسلاميين من بعده، أن يحضنوا المؤمنين الذين اتبعوه، كما يحضن الطير أفراخه، فيبسط إليهم جناحه ليضمهم إليه، ويجمعهم عنده، وأن يرأفوا بهم ويرحموهم ويتواضعوا لهم من مواقع الإيمان، ليشعر المؤمنون بأن الإسلام قد أعطاهم قيمةً كبيرةً في التزامهم به، وأن القيادة قد منحتهم موقعاً متميزاً في الموقع والعاطفة والرعاية في حركة الاتّباع والطاعة والانقياد، فتقوى نفوسهم، وتشتد مواقفهم، وتثبت خطواتهم.
{فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّي بَريءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ} لأن الرعاية والرأفة والرحمة لا بد من أن تنطلق من أجواء الالتزام الإيماني المتمثل في سلوكهم العملي بالاقتراب من طاعته والابتعاد عن معصيته، فإن تبدل ذلك بالمعصية والتمرد، فلا بد من إعلان الموقف الحاسم الذي يضع الأمور في نصابها الصحيح، وذلك بالبراءة من العمل المنحرف عن أمر الله ونهيه، لأن ما يجمع الرسول بالناس هو العمل، فهو الذي يقربهم إليه إن انطلق في اتجاه الاستقامة، وهو الذي يبعدهم عنه إن تحرك في اتجاه الانحراف.
وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الله، والدعاة إليه، أن يؤكدوه في الالتزام بالجماعة التابعين لهم، لا أن يكون الإطار الشكلي هو الأساس في الموالاة، بل يكون المضمون العملي هو الأساس في ذلك. وهذا هو الفرق بين الطائفية في مدلولها العشائري، والرسالية في مدلولها الفكري والروحي والعملي.
* * *
نتائج التوكل على الله
{وَتَوكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ } الذي يمنح عباده القوّة من قبله، فيعتزون بعزّته، ويفيض عليهم من رحمته، فيحسون بالطمأنينة والسلام الروحي من خلالها، فإذا توكل عبده عليه، وأسلم أمره إليه، وواجه الحياة في كل تحدياتها للرسالة المتحركة في خطواته الثابتة بالثقة الكبيرة في إيمانه، فإنه يسهّل له كل الصعوبات، ويجنبه كل المشاكل، ويخرجه من أقسى المآزق، ويجعل له من أمره فرجاً ومخرجاً.
وهذا ما ينبغي للمؤمن الداعية أن يحرّكه في وعيه الرسالي، فيأخذ القوّة من ربّه، ويحرّك الرسالة في خطته، ويجمع المؤمنين إليه وإلى كلمته، ثم يواجه الواقع كله بعزمه وإرادته، لا يخاف من الناس، ولا يخشى المفاجآت، بل يتوكل على الله في ما يمكن أن يحمله المستقبل من أحداث وأوضاع، فهو الذي يتكفل بذلك، في ما يكله العبد إليه من أموره في طريق طاعته ورضاه، لأنه الرب العظيم العزيز الرحيم {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} لعبادته في جوف الليل، في موقف العبودية الخاشعة المبتهلة المنقادة إليه، المنفتحة عليه في آفاق النور الرحبة عندما تهددها كهوف الظلام لتحاصرها بنوازع الضعف البشري التي تقود الإنسان إلى اليأس، فيرحمك برحمته، ويظلّك بلطفه {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} المصلّين الذين يصلّون معك، أو يراك في تحرّكك في أجواء السجود مع الفريق الذي يسجد لله خشوعاً في ما يمثله مجتمع الساجدين العابدين الذي تقف في مقدمته، وفي طليعتهم، على ما هو الظاهر من السياق، وأخذ به جمع من المفسرين.
وفي مجمع البيان في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِى السَّاجِدِينَ} «قيل: معناه وتقلبك في أصلاب الموحدين من نبيٍّ إلى نبيٍّ حتى أخرجك نبياً، عن ابن عباس في رواية عطاء وعكرمة، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله صلوات الله عليهما قالا: في أصلاب النبيين نبي بعد نبيٍّ حتى أخرجه من صلب أبيه من نكاح غير سفاح من لدن آدم (ع)»[4]. وقد استدل بهذه الرواية الشيعة الإمامية، على أن جميع آباء النبي موحدون، وربما يثور سؤال حول هذه الرواية ـ من هذه الجهة ـ بأنها تدل على أن آباء النبي أنبياء، فقد تقلب في أصلاب الموحدين من نبي إلى نبي، ولما كان هذا غير واقعي، لأن بعض آبائه لم يكونوا كذلك، فلا بد من أن تكون المسالة واردة على نحو القضية الجزئية، بمعنى أن يكون قد تقلب في أصلاب الأنبياء، باعتبار أن بعض أجداده، كإبراهيم وإسماعيل، كانوا من الأنبياء، وهذا ما توحي به الآية، لأنه ليس من المعقول أن تكون اللام مفيدة للعموم، لأن معناه أن يكون قد تقلب في أصلاب كل الساجدين، وهو غير مراد قطعاً، والله العالم. {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } الذي يسمع قولك عندما تدعوه وتبتهل إليه وتدعو الناس إليه، ويعلم جهادك في سبيله كما يسمع ما يصدر من خلقه من أقوال، وما يقومون به من أفعال.
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدرّ المنثور، ج:6، ص:326ـ327.
(2) المسنّة: في أولاد المعز ما بلغ أربعة أشهر وفصل عن أمه، وأخذ في الوعي. العس:القدح الكبير.
(3) مجمع البيان، م:4، ص:268.
(4) مجمع البيان، م:4، ص:269.
تفسير القرآن