من الآية 221 الى الآية 227
الآيــات
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ* يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ* وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ* أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ* وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ* إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَىَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} (221ـ227).
* * *
معاني المفردات
{أُنَبِّئُكُمْ}: اخبركم.
{أَفَّاكٍ}: كذاب.
{أَثِيمٍ}: فاعل الإثم.
* * *
الشياطين تنـزل على الأفّاكين
لقد نسبوا إلى النبي الكهانة في ما كانوا يحاربونه به من الكلمات اللاَّمسؤولة التي يريدون أن يشوّهوا بها شخصيته الرسالية، لينظر إليه الناس من هذا الموقع الذي يتصورون فيه الشخص الذي يملك صلةً بالجن والشياطين الذين يوحون إليه ببعض الغيبيّات والأفكار، فيبطل تأثيره فيهم في أجواء القداسة الرسالية التي تربطه بالله، وتطل به على آفاق الغيب ومواقع الوحي الإلهي. ولهذا جاءت هذه الآيات لتركز على هؤلاء الذين تتنزل عليهم الشياطين بالخيالات والأوهام الكاذبة فلا يملكون من الحقيقة شيئاً، بل يطلقون الدعاوى في مصادرهم الغيبية من دون أساس، ليعرف الجميع أن النبي ليس من هذه الجماعة، وأن رسالته لا تحمل ملامح كلماتهم الزائفة، وأن الذين يتحركون في طريق الكذب والإثم والجريمة هم جماعة الشياطين، بقطع النظر عما إذا كانت لهم صلةٌ مباشرةٌ بهم، أو لم تكن لهم تلك الصلة، بل كانت المسألة مسألة الأجواء الشيطانية في الفكر والحركة.
{هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ} أيها الكافرون الذين تتحدثون بأن النبي يستقبل الشياطين الذين يوحون إليه ما يتلوه عليكم من قرآن من دون حجة لديكم في هذا الحديث، {تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } من هؤلاء الذين جعلوا الكذب المتعدد الألوان، المتنوّع الأوضاع، المتحرك في كل المواقع القلقة الخاضعة للاهتزاز، وأولئك الذين يمارسون الجرائم والمعاصي التي تغرق في أوحال الإثم، فلا تصدر منهم إلا الخيالات المريضة والأكاذيب الخبيثة والحكايات السخيفة التي لا تفتح العقل على حجة، ولا تملأ القلب بالحقيقة.
أمّا هذا الرسول الذي يأتي بالقرآن في حقائقه الفكرية والعملية التي تنظم الحياة على أساس الحق، وتحرّك النظام في طريق العدل، وتثبّت الإنسان على القاعدة الضاربة العمق في أعماق الوجود، فلا يفسح المجال للعبث، ولا يحرّك الخطى في مواقع الاهتزاز، ولا يسمح للوهم أن يقترب من ساحة الحق، ولا للظلام أن ينفذ إلى مشارق النور.
أمّا هذا الرسول، في ما يأتي به من الوحي، فلا يمكن أن يكون صاحب الشياطين في وحيه وفي حركته الرسالية، بل لا بد من أن يكون الإنسان الذي ينفتح على الله لينزل عليه وحيه في صفاء النور وطهارة الينابيع.
إن المسألة لا تحتمل جدالاً ومناقشة، لأنها مسألة الوضوح في المقارنة بين ما هو الكذب والصدق، وما هو الحق والباطل، وما هو وحي الله ووحي الشيطان الذي يريد جنده أن يمنحوا حديثهم بعض مواقع القداسة، فيزعمون أنهم يستمدونه مما يسمعونه من أخبار السماء، في ما يوحون به إلى أتباعهم بأنهم يملكون الوصول إلى مواقع التنصت على ما يدور في السماء من أخبار الأرض والإنسان، ولكنهم لا يرتكزون على أساس ثابتٍ {يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} في ما يدّعونه من أحاديثهم وتهويلاتهم وأفكارهم المريضة، فكيف يجتمع الصدق الذي يمثله الرسول مع الكذب الذي يتمثل في كل نهجهم وطريقتهم في الحياة؟
* * *
مناقشة اتهام النبي بالشعر
وتقولون إنه شاعر، كهؤلاء الشعراء الذين يتحركون في الساحة، ليمدحوا هذا ويذمّوا ذاك، ويحسّنوا صورةً هنا ويقبّحوا صورةً هناك، وليثيروا الأوهام والخيالات على حساب الحقائق، وتتحدثون عن أسلوب القرآن أنه شعر أو يشبه الشعر لتبتعدوا به عن طبيعته القرآنية المنطلقة من عمق الوحي الإلهيّ، ولكن، هل رأيتم ملامح الشاعر في روحيته ووجدانه وصدقه وصفاء روحه وإشراقة فكره وانفتاح قلبه على الخير والرحمة والحق؟ هل تمثلتم في شخصيته الملائكية شخصية الشاعر الذي يلوّن الكلمة بألوان الباطل، ويغذيها بأكاذيب المضمون غير الواقعي؟ ألا ترون بعداً كبيراً بين هذه الشخصية الرحبة التي عاشت آفاق السموّ مع الله وانفتحت على الخير كله في حياة الإنسان، وبين الشخصية المعروفة في مجتمع الشعراء الغارقة في أوحال الشهوات، الغائبة في سكرات الخمر، المتحركة مع أطماع الذات في أموال الآخرين وامتيازاتهم؟ حدّقوا في المسألة جيّداً لتعرفوا حقَّ الحديث من باطله.
{وَالشُّعَرَآءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ } الذين يبحثون عن الخيالات البعيدة عن الواقع والأوهام التي تهرب من الحقائق، ويتحركون في مواقع الغيّ بعيداً عن ساحة الرشد، ويستمرون مع الجوّ ما دام رائقاً ومنسجماً مع أوضاعهم النفسية ومصالحهم المادية، فإذا اقترب الخطر منهم وتعقَّدت الأمور في ساحاتهم وشعروا بالمشاكل الصعبة تتحداهم، هربوا وابتعدوا عن الشعر والشعراء ليحصلوا على السلامة.
ولكن محمداً ـ في رسالته ـ يتبعه المؤمنون المخلصون الذين آمنوا بالله وبرسله وباليوم الآخر، واتبعوا النبي محمداً(ص) لما في رسالته من عمق روحي ورسالي يتعالى بالحياة، حتى إذا ما واجهتهم أخطارها، لتهزم فكرهم وروحهم وموقفهم القويّ أمام الحق، يثبتون ويصمدون، ويواجهون الأخطار بروحية الإنسان الذي يعيش الشهادة في حياته، ويتحرك مع عقلية الشهادة وروحيتها في إقباله على الموت.
{أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُون } فليس لهم قاعدة ينطلقون منها، ولا موقع ثابت يقفون عليه، ولا أفق واحد يتطلّعون إليه، فهم يتحركون مع الرياح القادمة من هنا وهناك، فيميلون معها حيث تميل، ويقصدون في كل يوم أرضاً جديدة، ويهيمون في وادٍ جديدٍ تبعاً للأطماع والمصالح والشهوات، فهم، من خلال ذلك، أتباع الظلمة من الملوك والجبابرة، لأنهم يملكون المال الذي يسيرون خلفه، ويحتوون الجاه الذي يتطلعون إليه، فمن يدفع لهم أكثر فمدحهم له أفضل؛ وهكذا كانت الكلمة تابعة للهوى.
أمَّا الرسول، فإنه ينطلق من موقع الحق الذي لا يتغيَّر، مهما تغيرت الرياح، فهو يعمل على أن يصنع الرياح في اتجاه فكره بدلاً من أن يحركه في اتجاه حركة الريح من حوله.
{وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ} لأنهم لا يتحركون من موقع القناعات بل من موقع الأهواء والشهوات، فليست الكلمة صدى العقيدة، بل هي صوت المصلحة، وهو ما يجعل المساحة كبيرةً بين ما هو يعتقدون ويقتنعون به، وبين ما هو واقع أفعالهم وممارستهم. أمَّا الرسول، فهو الذي يريد أن يحرك الكلمة في مواقع العمل، وينطلق بالفعل ليكون تعبيراً عن القول ليتم التطابق بينهما في أرض الواقع.
* * *
هل الإسلام ضد الشعر؟
ولكن السؤال الذي يفرض نفسه هنا: هل هذا موقفٌ ضد الشعر؟ وهل الشعراء فئةٌ مذمومةٌ عند الله، فليس للإنسان الذي يريد أن يحصل على محبة الله ورضاه أن يكون شاعراً؟ ولماذا هذا الموقف المعقّد من الشعر والشعراء؟ وما الفرق بينه وبين الموقف من الخطابة والخطباء؟ وهل هناك إلا الاختلاف في الكلمة الموسيقية في ما هو اللحن في الوزن، وبين الكلمة غير الموسيقية في ما هو الصوت في النثر؟
والجواب: إن الموقف ليس موقفاً ضد الشعر والشعراء، فقد جاء عن رسول الله(ص) قوله: «إن من الشعر لحكمة»[1]، بل هو موقف ضد الذهنية الغالبة لدى الشعراء في الظاهرة العامة لسلوكهم، ما يجعلهم يستغلون اهتمام الناس بالشعر كأسلوب يهز المشاعر، ويثير العواطف، في سبيل الوصول إلى مطامعهم وشهواتهم، عندما يحركون الكلمة ـ القصيدة ـ في سوق المزايدات المالية، فيكون لذلك تأثيرٌ سلبيٌّ على حركة الحق في حياة الناس، وبذلك يمكن أن تتضخم صورة غير ضخمة، أو يشرق واقع مظلم من خلال إضاءة الكلمة في مواقعه بعيداً عن حقيقة الضياء في الواقع. وهكذا يشاركون في غلبة الزيف على الحياة في الأشخاص والأوضاع والمواقع.
أمَّا إذا كانت القصيدة، في مضمونها، انتصاراً للحق، ودفاعاً عن المظلوم، وإثارةً لحركة الإيمان، فإن الموقف يتبدّل والحكم يختلف، وهذا ما عبرت عنه الآية التالية التي جاءت بمثابة الاستثناء عن تلك القاعدة العامة.
{إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُواْ اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُواْ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} فانطلقوا من قاعدة الإيمان في فكرهم ووجدانهم، وتحركوا في خط العمل الصالح في مواقفهم ومواقعهم، وانفتحوا على الله في تفكيرهم وأذكارهم، وواجهوا الموقف الظالم الذي يفرضه عليهم الظالمون بالدفاع والانتصار لأنفسهم وللآخرين من المظلومين، فهؤلاء يملكون القيمة كل القيمة تبعاً للقيمة التي يمثلها الإيمان والعمل الصالح وذكر الله والانتصار للظلم، ما يعني أن المسألة في الشعر هي مسألة المضمون والموقف، وليست مسألة الشكل والكلمة. وقد نقل أن رسول الله (ص) سُئل عن الشعر: ما تقول في الشعر؟ فقال: «إن المؤمن مجاهد بسيفه ولسانه، والذي نفسي بيده لكأنما ينضحونهم بالنبل»[2]. وبذلك يتحول الشعراء إلى سلاح قويّ في المعركة تماماً كما هو النبل عندما يسدده المقاتل إلى صدور الأعداء.
{وَسَيَعْلَمْ الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أنفسهم بالكفر والمعصية، وظلموا غيرهم بالبغي والعدوان، {أيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} عندما يواجهون سوء العاقبة في الدنيا وعذاب الله في الآخرة. والحمد لله رب العالمين.
ـــــــــــــــــــ
(1) الصدوق، الفقيه، دار الكتب الإسلامية، طهران. ج:4، باب:2، ص:379، رواية: 5805.
(2) مجمع البيان، م:4، ص:271.
تفسير القرآن