تفسير القرآن
الشعراء / من الآية 23 إلى الآية 51

 من الآية 23 الى الآية 51

الآيــات

{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ* قَالَ رَبُّ السَّمَواَتِ والأرض وَمَا بينهما إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ* قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ* قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين* قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ* قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بينهما إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ* قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غيري لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ* قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بشيء مُّبِينٍ* قَالَ فَائتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَاهي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هي بيضاء لِلنَّاظِرِينَ* قَالَ للملأ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ* يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ* قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ في المدائن حاشرين* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ* فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لميقات يَوْمٍ مَّعْلُومٍ* وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُونَ* لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين* فَلَمَّا جاء السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنَا لأجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ* قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ* فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغاَلِبُونَ* فَأَلْقَى مُوسَى عصاه فَإِذَا هي تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ* فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ* قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وهارون* قَالَ أآمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ* قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ* إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ} (23-51).

* * *

معاني المفردات

{لاَ ضَيْرَ}: لا ضرر.

{لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ}: تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف: أن تقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى، والعكس بالعكس.

{يَأْفِكُونَ}: الإفك هو صرف الشيء عن وجهه، في ما يمثله السحر من تخييل الصورة الزائفة للإيحاء بأنها صورة واقعية.

* * *

موسى وفرعون يتبادلان التحدي

وهكذا كانت إثارة موسى(ع) لقضية بني إسرائيل في ما طلبه من فرعون من إرسالهم معه، مدخلاً للدخول في قضية الوحدانية الإلهية.

{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} إنه يتساءل عن هذه الكلمة الجديدة على سمعه، فقد كان يعرف أنّ هناك أكثر من ربٍّ تبعاً لتعدد البلدان، فهو ربّ مصر، وهناك ربٌّ آخر لبلد آخر، أمَّا أن يكون هناك ربٌّ واحدٌ للعالمين جميعاً، فهذا ما لم يسمع به ولم يخطر له على بال.

وربما كان يحاول أن يشغل الجوّ من حوله بعلامات الاستفهام التي تحوّل المسألة إلى جدل بيزنطيّ يخفف من تأثير موسى عليه، وذلك بالإِيحاء بأن المسألة التي يثيرها موسى عن رب العالمين من خلال دعواه بأنه رسول من قبله، من المسائل المثيرة للجدل، لإِبعاد الوجدان الشعبي العفوي عن الارتباط بها من أقرب طريق، كما يفعل الكثيرون الذين يعملون على المناقشة في الأمور البديهية، لتوجيه الأنظار بعيداً عن طبيعة البداهة فيها، بالإِيحاء بأنها قابلةٌ للأخذ والرد.

* * *

مناقشة مع صاحب الميزان

وقد يثير بعض المفسرين المعنى التفسيري الإِيحائي في اتّجاهٍ آخر، وهذا ما ذكره صاحب تفسير الميزان، وذلك من خلال الانطلاق من طريقة الوثنيين في تصوّر مسألة الألوهية، «فهؤلاء يرون أن وجود الأشياء ينتهي إلى موجد واجب الوجود هو واحد لا شريك له في وجوب وجوده، هو أجلُّ من أن يحدّه حدٌّ في وجوده، وأعظم من أن يحيط به فهم أو يناله إدراك، ولذلك لا يجوز عبادته، لأن العبادة نوع توجّهٍ إلى المعبود، والتوجّه إدراك.

ولذلك بعينه، عدلوا عن عبادته والتقرب إليه إلى التقرب إلى أشياء من خلقه، ذوي وجودات شريفة نورية أو نارية هي مقرّبة إليه، فانية فيه، من الملائكة والجنّ والقدّيسين من البشر المتخلصين من ألواث المادّة الفانين في اللاّهوت الباقين بها، ومنهم الملوك العظام أو بعضهم عند قدماء الوثنية، وكان من جملتهم فرعون موسى. وبالجملة، كانوا يعبدونهم بعبادة أصنامهم ليقرّبوهم إلى الله زلفى ويشفعوا لهم، بمعنى أن يفيضوا إليهم من الخير الذي يفيض عنهم، كما في الملائكة، أو لا يصيبوهم بالشر الذي يترشح عنهم، كما في الجن، فإن كلاًّ من هؤلاء المعبودين يرجع إليه تدبير أمرٍ من أمور العالم الكلية، كالحب والبغض والسلم والحرب والرفاهية وغيرها، أو صقع من أصقاعه، كالسماء والأرض والإنسان ونحوها.

فهناك أربابٌ وآلهة يتصرف كل منهم في العالم الذي يرجع إليه تدبيره، كإله عالم الأرض، وإله عالم السماء، وهؤلاء هم الملائكة والجن وقدّيسو البشر، وإله عالم الآلهة وهو الله سبحانه، فهو إله الآلهة وربّ الأرباب.

إذا عرفت ما ذكرناه بان لك أن لا معنى صحيحاً لقولنا: رب العالمين عند الوثنيين، نظراً إلى أصولهم، إذ لو أريد به بعض هذه الموجودات الشريفة الممكنة بأعيانهم، فهو رب عالم من عوالم الخلقة، وهو العالم الذي يباشر التصرف فيه كعالم السماء وعالم الأرض مثلاً، ولو أريد الله سبحانه، فهو رب عالم الأرباب، وإله عالم الآلهة فقط دون جميع العالمين، ولو أريد غير الطائفتين من الرب الواجب الوجود، والأرباب الممكنة الوجود، فلا مصداق له معقولاً.

فقوله: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} سؤال منه عن حقيقة رب العالمين، بيانه أن فرعون كان وثنياً يعبد الأصنام، وهو مع ذلك يدعي الألوهية. أمّا عبادته الأصنام فلقوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وآلِهَتَكَ} [الأعراف: 127]، وأمّا دعواه الألوهية، فللآية المذكورة ولقوله تعالى: {فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الاَْعْلَى } [النازعات: 24].

ولا منافاة عند الوثنية بين كون الشيء إلهاً رباً وبين كونه مربوباً لربٍّ آخر، لأن الربوبية هي الاستقلال في تدبير شيءٍ من العالم، وهو لا ينافي الإِمكان والمربوبية لشيءٍ آخر، وكل ربٍّ عندهم مربوبٌ لآخر، إلا الله سبحانه، فهو رب الأرباب لا ربّ فوقه، وإله الالهة لا إله له.

وكان المُلك عند الوثنية ظهوراً من اللاهوت في بعض النفوس البشرية بالسلطة ونفوذ الحكم، فكان يُعبد الملوك كما يعبد أرباب الأصنام، وكذلك رؤساء البيوت في بيوتهم، وكان فرعون وثنياً يعبد الآلهة وهو ملك القبط يعبده قومه كسائر الآلهة.

فلما سمع من موسى وهارون قولهما: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تعجب منه، إذ لم يعقل له معنًى محصّلاً، إذ لو أريد به الواجب وهو الله سبحانه، فهو عنده ربّ عالم الأرباب دون جميع العالمين، ولو أريد به بعض الممكنات الشريفة من الآلهة كبعض الملائكة وغيرهم، فهو أيضاً عنده ربّ عالم من عوالم الخلقة، دون جميع العالمين فما معنى رب العالمين. ولذلك قال: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} فسأل عن حقيقة الموصوف بهذه الصفة، بما هو موصوف بهذه الصفة، ولم يسأل عن حقيقة الله سبحانه، فإنه لوثنيته كان معتقداً بوجوده، مذعناً له، وهو يرى كسائر الوثنيين، أنه لا سبيل إلى إدراك حقيقته، كيف، وهو أساس مذهبهم الذي يبنون عليه عبادة سائر الالهة والأرباب كما سمعت»[1].

أمّا تعليقنا على ذلك فهو: إن هذا التحليل طريف ودقيق، ولكننا لا نستطيع فهمه من جوّ الآية، فليست القضية عنده هي مفهوم رب العالمين، أو رب عالم الأرباب، بل الظاهر أن القضية هي طرح مفهوم الإِله الشامل للكون كله وللعوالم كلها في مواجهة ربوبية فرعون وأمثاله. ولهذا رأيناه يتهدد موسى بأنه سيتعرض للسجن إذا اتخذ إلهاً غيره، كما رأيناه يتحدث مع هامان في قوله تعالى: {وَقَالَ فَرْعَوْنُ يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لاََظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر:36 ـ 37]، ما يوحي بأنه ينظر إليه كإله منافسٍ، فهو يثير مسألته من هذا الجانب استغراباً لوجود إله غيره، أو لطرح عبادة رب سواه في المنطقة التي يسيطر عليها.

{قَالَ رَبُّ السَّمَـوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُما إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} فهو الرب المسيطر على الكون كله الذي لا بد من أن يعبده الجميع من موقع عبوديتهم له، وليس لأحدٍ أن يدّعي الربوبية لنفسه معه. فإذا كان كل واحد يدير منطقته، فهل يعقل أن لا يوجد هناك من يخلق الكون وما فيه ويديره؟ فهل وجد الكون صدفةً؟ وهل هو ذرّةٌ ضائعة في الفراغ؟ أما قوله: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} فقد يكون إشارة إلى ما قد يختزنونه في داخلهم بأن للسماوات والأرض وما بينهما رباً، ولكنهم غافلون عنه بالاستغراق في آلهة الأرض، فأراد أن يقول لهم بأن رب العالمين الذي أدعوكم إلى الإيمان به وإلى عبادته من خلال رسالتي التي أحملها إليكم منه، هو رب السماوات والأرض وما بينهما، الذي توقنون به، فكيف توقنون بهذا وتنكرون ذاك؟!

ويعلِّق السيد الطباطبائي على هذه الآية في تفسير الميزان فيقول: «وقوله {قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} جواب موسى(ع) عن سؤاله: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} وهو خبرٌ لمبتدأ محذوف، ومحصّل المعنى، على ما يعطيه المطابقة بين السؤال والجواب: هو رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ، التي تدل بوجود التدبير فيها، وكونه تدبيراً واحداً متصلاً مرتبطاً، على أن لها مدبراً ـ رباً ـ واحداً على ما يراه الموقنون السالكون سبيل اليقين من البرهان والوجدان.

وبتعبير آخر: مرادي بالعالمين السماوات والأرض وما بينهما التي تدل بالتدبير الواحد الذي فيها على أن لها رباً مدبراً واحداً، ومرادي برب العالمين، ذلك الرب الواحد الذي تدل عليه، وهذه دلالة يقينيّة يجدها أهل اليقين الذين يتعاطون البرهان والوجدان.

فإن قلت: لم يطلب فرعون من موسى(ع) إلا أن يعرّفه ما هذا الذي يسميه ربّ العالمين؟ وما حقيقته؟ لكونه غير معقول عنده، فلم يسأل إلا التصور، فما معنى قوله: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ }؟ واليقين علم تصديقي لا توقف للتصور عليه أصلاً.

على أنه(ع) لم يأت في جواب فرعون بشيء، غير أنه وضع لفظ السماوات والأرض وما بينهما موضع لفظ العالمين، فكان تفسيراً للفظ الجمع بأسماء آحاده كتفسير الرجال بزيدٍ وعمرٍو، فلم يُفد بالآخرة إلا التصور الأوّل ولا تأثير لليقين في ذلك.

قلت: كون فرعون يسأله أن يصوّر له {رَبُّ الْعَالَمِينَ} تصويراً مسلّمٌ، لا شك فيه، لكن موسى بدّل القول بوضع {السَّمَوَاتِ وَالاَْرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ} مكان العالمين، وهو يدل على ارتباط بعض الأجزاء ببعض، والاتصال بينها بحيث يؤدي إلى وحدة التدبير الواقع فيها، والنظام الجاري عليها، ثم قيّده بقوله: {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } ليدلَّ على أن أهل اليقين يصدّقون من ذلك بوجود مدبّر واحدٍ لجميع العالمين. فكأنه قيل له: ما تريد برب العالمين؟ فقال: أريد به ما يريده أهل اليقين، إذ يستدلون بارتباط التدبير واتصاله في عوالم السماوات والأرض وما بينهما، على أن لجميع هذه العوالم مدبراً واحداً، وربّاً لا شريك له في ربوبيته لها، وإذ كانوا يصدّقون بوجود ربٍّ واحدٍ للعالمين، فهم يتصورونه بوجهٍ تصوراً، إذ لا معنى للتصديق بلا تصور»[2].

ولكن هذا الذي ذكره المفسر الجليل لا يوحي به اللفظ {إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} لأن المسألة المطروحة ليست الاستدلال على أن للسماوات والأرض وما بينهما ربّاً من موقع طبيعة الموضوع، بل المطروح فيما بينهم هو تطبيق فكرةٍ مخزونةٍ في داخل عقولهم على الفكرة التي يطرحها عليهم لإِخراجهم من الاستغراب بتذكيرهم بما يؤمنون به، وإخراجهم من أجواء الغفلة عنه من دون الدخول في جدلٍ حوله، بإثارة علاقة الحاجة إلى المدبر بالإيمان به، والله العالم.

{قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلاَ تَسْتَمِعُونَ} إلى ما يقوله موسى(ع) عن ربّ العالمين، ربّ السماوات والأرض وما بينهما مما لم نسمعه ولم نألفه في عقائدنا وأوضاعنا العامة والخاصة؟ فكأنه يريد أن يثير فيهم الاستنكار الشديد نحوه ليهزم دعوته بأساليب الإثارة ضدّه.

ولكن موسى لم يأبه لذلك كله، بل بقي مستمراً في دعوته في مواجهة التحدي بالتحدي، ليجعل الصفة الإلهية في ربوبيته مرتبطةً بهم في وجودهم الذاتي في الحاضر، وفي وجود آبائهم في الماضي.

{قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الاَْوَّلِينَ} فكيف تجهلون خالقكم وخالق آبائكم الذي تستمدون وجودكم من خلال إرادته، أو كيف تتجاهلونه؟

{قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} فهو يهذي بكلام غير مفهوم، ولكن موسى يتابع كلامه في الإصرار على ذلك بأساليب متنوعةٍ من دون تقديرٍ للنتائج السلبية المتعلقة به في حاضره ومستقبله، {قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} هل تتطلعون ـ جيداً ـ إلى الشمس عندما تشرق في الكون في جهةٍ معينةٍ منه فتكشف لكم جانباً كبيراً منه يسمى بالمشرق، وعندما تغرب في جهةٍ أخرى فتكشف جانباً آخر يسمّى بالمغرب، ألا يثير ذلك فيكم الشعور بأن هناك قوّةً تحرّك ذلك كله في حركة النور والظلام؟ لماذا لا تفكرون بعقولكم لتلتقي بالحقيقة الإِلهية المطلقة في الكون، لتعرفوا أن رب العالمين الذي أدعوكم إلى عبادته في ما أحمله من رسالته هو رب السماوات والأرض وما بينهما، وهو رب المشرق والمغرب وما بينهما، وأن تنوُّع الأسماء يشير إلى تلك الحقيقة الواحدة التي تشرق على الكون كله وتدبره بكل ظواهره ومفرداته؟

إنها كلمات الإصرار على الموقف، المنفتحة على نوافذ العقل والوجدان واليقين، التي توحي بالقوّة الرسالية في الموقع الثابت الذي يقف فيه موسى في وجه التحدي الكافر الذي يمثله فرعون وقومه.

* * *

فرعون يلجأ إلى التهديد بعد سقوط حجته

ولم يستطع فرعون أن يتمالك نفسه، فقد خاف أن يظهر عجزه لقومه، لو استمر بهذا الأسلوب المتحرك مع علامات الاستفهام، ومواقف الاحتجاج والاستنكار، فالتجأ إلى أسلوب الأقوياء ـ الضعفاء عندما يريدون أن يغطّوا ضعف مواقفهم الداخلية بمظاهر القوّة الخارجية الاستعراضية، وذلك بإطلاق كلمات التهديد بالسجن. {قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهَاً غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} فليست لك حرية اختيار الإِله الذي تعبده، لأن اختيار عبادة غيري في الأرض التي أملكها وأستعبد أهلها وأشرف عليها من موقع الربوبية العليا، تسيء إلى نظام المجتمع كله في قضية العبادة والطاعة والانقياد، ولذا فإن الحرية الفردية التي تتيح لك أن تقول ما تريد أو تفعل ما تشاء، تخضع لقيود النظام العام للأمة كلها، فتسيء إلى الناس كلّهم، فمن حق الرب الذي يدبّر أمور عباده أن يمنع الذين يسيئون للنظام، ويعرضون السلامة العامة للخطر، فلا بد لك من أن تتراجع عن دعوتك وعن التزامك وتبدّل مواقفك بالرجوع إلى عبادتي والاعتراف بألوهيتي، وإلاَّ فمصيرك السجن الذي يتيح لك فرصة الاصطدام بالحقيقة، في لحظات الهدوء التي تمنحك التفكير الواقعي في الأمور، بعيداً عن الخيالات اللاّواقعية في قضايا الكون والحياة.

ولكن موسى لم يستسلم للتهديد، فقد كانت رساليته تفرض عليه التنقل من جوٍّ إلى جوٍّ بطريقةٍ ذكيّةٍ، تجعل الجميع مشدودين إلى آفاق الرسالة. فإذا كان فرعون يهدّده بالسجن، فإنه يطرح عليه الآيات البّينات المنطلقة من عالم الغيب الدالّة على ارتباطه بقوّة الله، مما لا يستطيعه أيّ بشرٍ مهما كانت قوته، ليكون ذلك حركةً متقدمةً في التحدي بالقوّة أمام التهديد بالسجن من موقع القوة الفرعونية.

{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشيءٍ مُّبِينٍ} يوضح لك الحقيقة، ويدلك على صدق الدعوى، فلا تبقى القضية بيننا قضية علامات استفهامٍ تبحث عن أجوبة، بل تتحول إلى حركة الحقيقة التي تفرض نفسها على العقل والشعور والواقع في صدمةٍ حاسمةٍ لا تترك مجالاً للجدل؟ فهل تبقى على أسلوب التهديد والوعيد إن جئتك بذلك المعجز الخارق؟

{قَالَ فَائتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} قالها وهو يشك في قدرته على ذلك، مع قلقه في إمكانية ذلك، ولكنه لا يستطيع أمام الملأ من حوله، إلا أن يستجيب للطلب المتحدّي لئلا يسجلوا عليه بذلك نقطة ضعف.

{فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ} وكانت هذه الآية الأولى التي أثارت الرعب والفزع في نفس فرعون، لما تمثله من الخطورة والقوة غير العادية، {وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِىَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} وقد كانت موضوعة في جيبه فأخرجها منه، وهذه هي الآية الثانية التي أثارت الدهشة في عيون الحاضرين.

{قَالَ لِلْمَلإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} فقد أسقط ما في يده، ولم تعد له أيّة حجةٍ يجابه بها موقف موسى القويّ، فلم يكن ينتظر أن يكون الرد بهذه الطريقة، بل كان ينتظر جدلاً ومناقشةً واستغراقاً في التفاصيل التي يستطيع فرعون معها أن يلعب على الألفاظ ويستثير المشاعر، لذا لم يبق لديه إلاَّ عنصر التهويل والإِثارة ومواجهة المسألة على أنها حالة سحر، لأنها تشبه ألاعيب السحرة، لتكون شخصية موسى ـ في نظرهم ـ شخصية الساحر لا شخصية الرسول، وبذلك يأخذ حجمه المحدود في نظرهم، فلا يترك أيّ أثر إيجابي على مستوى القداسة الروحية من خلال الرسالة مما قد يؤثر سلباً على علاقة الناس بفرعون.

ثم حاول أن يثير هؤلاء الجالسين حوله، من خلال خطورة الخطة التي تستهدف إخراجهم من أرضهم بالسيطرة عليها بواسطة سحره الذي يتميز بقدراتٍ غير مألوفة، الأمر الذي يفرض التفكير في الأمر بطريقةٍ جديةٍ توحي بالاهتمام في مستوى الخطر، وهذا ما توحي به الآية التالية: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ} وتشيرون به عليّ، حتى نتفق على الخطة المضادّة التي تهزم خطته وتبطل سحره؟ ولعلّ في التعبير بالأمر الصادر منهم إليه، نوعاً من الإِيحاء بالتنازل الذي يستهدف الوصول إلى تأييدهم بشكل يستوعب ذواتهم، في ما يرفع منزلتهم عنده.

{قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِى الْمَدَآئِنِ حَاشِرِين* يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ} فإن السحر لا يبطله إلا السحر، وإذا كان موسى ينطلق من خلال شخصية الساحر في موقعه، فهناك أكثر من ساحر لدينا ممن يملك علم السحر بالمستوى الرفيع، فلنمهل موسى وأخاه مدةً من الزمن من دون اتخاذ أي إجراءٍ سلبيّ بحقهما حتى نستطيع إبطال سحرهما لئلا يتأثر الناس بهما، ولنجمع كل ما نستطيع جمعه من هؤلاء السحرة ثم نتصرف بما نراه بعد ذلك.

وهكذا كان، {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ} وهو يوم الزينة، كما تقدم في سورة طه، {وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنتُمْ مُّجْتَمِعُون} في اجتماع جماهيري حاشد، {لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِن كَانُواْ هُمُ الْغَالِبِينَ} حيث يظهر بطلان دعوة موسى، فيتأكد الخط الفرعوني الذي يلزمه السحرة في دينهم، فيزداد رسوخاً في التزام الناس به، من خلال قوّته وأصالته.

{فَلَمَّا جَآءَ السَّحَرَةُ قَالُواْ لِفِرْعَوْنَ أَئنَّا لَنَا لاََجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ} لنعرف أن جهدنا لن يكون جهداً ضائعاً، ولنتصرف من موقع المهنة التي تريد أن تؤكد ذاتها في الربح الكبير، ما يزيد الجهد حماساً وقوّةً، {قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} فلن تقتصر المسألة على الأجر المادي، بل سيتبع ذلك الأجر المعنوي، وهو القرب إلى مواقع الحظوة والسلطة من فرعون، لأنهم استطاعوا أن ينقذوا الملك من عوامل الاهتزاز الذي قد يهدد أساسه، ويسقط قوّته.

{قَالَ لَهُمْ مُّوسَى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ *فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ} وهكذا أطلق موسى التحدّي ليوحي إليهم بقوّة موقفه وثقته بأن النتيجة الأخيرة ستكون لصالحه، فليلقوا كل ما لديهم من وسائل السحر. واندفعوا في عمليةٍ إيحائيةٍ بالدور الموكل إليهم في الدعاية لربوبية فرعون، وللتأكيد في وعي الجماهير أن قوته السحرية الخارقة هي التي تجلب الحظ، وهي التي تحقق الغلبة لأتباعه، تماماً كما يفعل العبيد مع أربابهم. وهكذا كانوا مستغرقين في أحلام القوة الذاتية من خلال ما يملكونه من عناصر الفن السحري، وتمنيات الربح الوفير على المستوى المادي والمعنوي من خلال وعود فرعون لهم بالجائزة وبالقرب منه. وهنا كانت المفاجأة التي قلبت الأمور رأساً على عقب، وأسقطت كل حساباتهم، وهزمت كل قواعد السحر عنده، لأن ما يرونه ليس سحراً، ولكنه غيبٌ من الغيب الذي لا يملكه إلا الله {فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} استطاعت العصا التي تحوّلت إلى ثعبان عظيم بقدرة الله أن تبتلع كل تلك الحبال والعصيّ، بطريقةٍ غامضةٍ لا يملكون لها تفسيراً في ما يعرفونه من قواعد السحر.

{فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ* قَالُواْ آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ* رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ} فقد رأوا عظمة الله في عظمة المعجزة ولم يروا فيها شخصية موسى في قدراتها الذاتية، لأنهم يعلمون من خلال اختصاصهم، أنه لا يملك علم ذلك ولا القدرة عليه، ولهذا رأوا فيه الرسالة المنطلقة من الله الذي كان يصفه موسى بأنه رب العالمين، الذي عرفوه من خلال المعجزة، فآمنوا به من خلال الرسالة التي يمثلها موسى وهارون.

{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} فقد اعتاد أن يضغط على تفكير الناس في ما يؤمنون به أو يكفرون، وما يتحركون فيه من مواقف ومشاريع، فلا بد من أن يستشيروه في مسألة الإيمان ليأخذ النتائج بما واجهه من موقف موسى، فليس لهم أن يأخذوا موقفاً حاسماً قبله، ولهذا فإنه لا يفهم أن من الحق لأتباعه أن يكون لهم فكر مستقل وإرادة مستقلة في وعي الأشياء التي تحدث في حياتهم، أو يواجهون بها القضايا التي تتحداهم. ولهذا لم يحاول أن يفهم المسألة في اتجاه القناعة الذاتية في موقف الإيمان، بل حاول أن يفسره بالتآمر عليه، في ما يفرضه من علاقةٍ خفيةٍ بينهم وبين موسى، لتكون القضية تمثيليةً في غلبة موسى عليهم، لا حقيقيةً لتوحي بما أوحت به إليه؛ وهكذا أطلق التهمة الصارخة في وجوههم، ليخرج ـ من خلالها ـ من مأزقهم المحرج.

{قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} كيف أعاقبكم على هذه المؤامرة الخطيرة التي تعرّضون فيها كيان الملك للخطر، {لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ} وذلك بأن تقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى أو بالعكس، {وَلاَُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ } لتموتوا موثوقين مرتبطين بالحبال على الصليب.

ولكن ذلك لم يهزم إيمانهم ولم يضعف موقفهم، بل واجهوه بصلابةٍ في الإرادة، واستهانةٍ بتهديده، وارتفاعٍ بالموقف إلى المستوى الرفيع في آفاق الله {قَالُواْ لاَ ضَيْرَ إِنَّآ إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} فلن يضرنا تهديدك وعذابك، لأننا سننتقل منه إلى الدار الآخرة التي يشملنا فيها ربنا برحمته، {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ} التي أخطأناها عندما آمنا بك وعملنا بخدمتك، وكنا أعواناً لك على إضلال الناس، والإِيحاء لهم بأنك صاحب القوّة التي لا تقهر، وبأنَّ قوتنا مستمدّةٌ من قوتك، وأن انتصاراتنا خاضعة لبركة عزتك وقداستك. إننا نبتهل إليه ونخضع له ونخشع بين يديه ليغفر لنا خطايانا، لأننا أحسنّا العمل وأخلصنا التوبة، وأعلنّا الندم بصوت عالٍ في الموقع الذي كنا نعلن فيه الإصرار من قبل. ونحن نطمع أن يستجيب لنا انطلاقاً من {أَن كُنَّآ أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ } بربوبيته ووحدانيته وبالكفر بك ـ يا فرعون ـ وبأضاليلك.

ـــــــــــــــــــــ

(1) تفسير الميزان، ج:15، ص:266ـ267.

(2) تفسير الميزان، ج:15، ص:267ـ268.