من الآية 105 الى الآية 122
الآيــات
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ* قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ* إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ* وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ* إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ* قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ* قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمي كَذَّبُونِ* فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَأَنجَيْناهُ وَمَن مَّعَهُ فِى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْباقِينَ* إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (105-122).
* * *
معاني المفردات
{الاَْرْذَلُونَ }: جمع أرذل، وهم اسم تفضيل من الرذالة. والرّذالة: الخسة والدناءة. ومرادهم أن متّبعيه هم من ذوي الأعمال الرذيلة والخسيسة.
{الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}: السفينة الممتلئة.
* * *
حوار نوح مع قومه
ومن قبل ذلك كان نوح النبي أحد أنبياء أولي العزم، الذي كانت له جولة طويلة مع قومه عبر الرسالة الّتي أرسله الله بها إليهم يدعوهم إلى الإيمان بالله وتوحيده ونهجه السليم وصراطه المستقيم، ولكنهم لم يؤمنوا بذلك كله، بل تمردوا عليه، وساروا شوطاً طويلاً في خط المواجهة معه بكل أساليب السخرية والتمرد والعصيان في كل مواقعهم ومواقفهم.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} الذين يمثلهم هذا النبي الكريم في دعوته التي تلتقي في عناصرها الأساسية برسالاتهم. وبذلك كان تكذيبهم له تكذيباً لهم، لأنهم يتفقون في دعوة التوحيد، ولذا عدّ الله سبحانه الإيمان ببعض رسله دون بعض كفراً بالجميع، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً* أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [النساء: 150 ـ 151].
{إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } الله في ما أمركم به ونهاكم عنه في شريعته، وتراقبونه، وتخافون مقامه، ليكون في وجدانكم الشعور بالمسؤولية الفكرية في كل معتقداتكم، وبالمسؤولية العملية في عملكم. والتعبير بالأخوّة فيه بعض الإيحاء بالعمق الإنساني الذي يربط النبيّ بقومه، لأن الأخوّة تمثل التواصل الشعوري الذي يحتضن آلام الأخوة وآمالهم، ويتعهد حياتهم باللطف والخير والصلة.
{إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } فقد تحملت الرسالة بمسؤوليةٍ وصدقٍ، وسأبقى أميناً لما تحملته من مفاهيمها وأحكامها ومناهجها، لأن المسألة ليست هي طبيعة العلاقة الذاتية التي تربطني بكم، بل هي عمق العلاقة الروحية التي تربطني بالله الذي أوحى بها إليّ، وشرّفني بحملها، ثم تربطني بكم من خلال الارتباط بالله، {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ } في ما أبلغكم من رسالته، وأقودكم إليه من السير على الصراط المستقيم الذي يبدأ من الله وينتهي إليه. وإذا كنتم قد تعوّدتم ـ في بعض تجاربكم ـ على الأشخاص الذين يتخذون الدعوة وسيلة إلى تحصيل الربح المادي، فإني لست من هؤلاء، لأنني حامل رسالةٍ ولست طالب مالٍ.
{وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} الذي أرجو رحمته، وأتطلع إلى لطفه ورضاه، وأطمع بالنعيم في جنته في دار قدسه. {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} إنها الدعوة الدائمة التي تتكرر وتمتد في وجدانكم لتهزّ أعماقكم ومشاعركم، وتوجّه حياتكم إلى الالتزام والانضباط في خط المسؤولية في رحاب الله.
{قَالُواْ أَنُؤْمِنُ لَكَ} في دعوتك لنا، لنكون معك، {وَاتَّبَعَكَ الاَْرْذَلُونَ} وأنت لا تملك جمهوراً مميزاً من الطبقة العالية في المجتمع من أصحاب السلطة والمال والنفوذ، بل كل ما لديك هم هؤلاء السفلة الأراذل الذين يتميزون بالخسّة والدناءة، فكيف تريدنا أن نتبعك وليس معك أحد من طبقتنا، فكيف نقبل أن ندخلهم في مجتمعنا من خلالك، أو ندخل ـ نحن ـ في مجتمعهم، لحسابك؟
{قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فلست مسؤولاً عن أعمالهم التي تنسبونها إليهم من رذالةٍ ودناءةٍ، لأن مهمتي هي الدعوة إلى الله، الّذي كلفني بدعوتهم إلى ذلك كما كلفني بدعوتكم، لأن الجميع عباد الله الذين فرض عليهم الإيمان به وبرسله والإطاعة له في أوامره، فلا أملك أن أطردهم من ساحة الإيمان العملية المحيطة بي، ولا أملك حسابهم على ما يعملونه من موقعٍ ذاتيٍّ، لأفتح التحقيق حول ما تتحدثون به عنهم.
{إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ} بالمعنى العميق لحركة المسؤولية في حياة الناس، فالرسالة رسالة الله، والخلق عباد الله، فهو الذي يتولى حسابهم، في ما كلفهم فيه من مواقع طاعته.
{وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} الذين آمنوا بالله وانفتحوا على الحق في مواقع الرسالة، {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} جئت لأنذر الجميع وأخوّفهم عقاب الله بكل وضوحٍ وأمانة. وهذا كل شيء لديَّ، فلا تكثروا الكلام في ذلك، ولا تفكروا بأن من الممكن أن أستجيب لكم في كل ما تطرحونه من مشاريع.
{قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُرْجُومِينَ} فقد تمرّدت على تقاليدنا وعقائدنا وأوضاعنا، وجئت بطريقةٍ جديدة في العقيدة والعبادة والشريعة، بما لا ينسجم مع تاريخنا ومجتمعنا، فإذا لم ترجع إلى ما ندعوك إليه من الآن فسنرجمك بالحجارة وتكون من الهالكين.
وهكذا لم يجدوا الكلمة المعبّرة عن الفكرة المتزنة، والحجة القوّية، التي يجابهون بها فكرته وحجّته، كما هو شأن الضعفاء في الفكر، الأقوياء بالمال والرجال والسلاح، فيضغطون من خلال القوّة الغاشمة، لا من خلال الحجة البالغة. وبذلك أغلقوا باب الحوار، ولم يبق هناك مجال لحديث دعوةٍ أو كلمة هداية، بعد أن استنفدت كل أساليب الدعوة، وكل كلمات الهداية.
{قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ} وأغلقوا كل الأبواب عليَّ، فلا أجد أية ثغرةٍ في الموقف مما يمكن أن أنفذ منه إلى عقولهم وقلوبهم ومواقعهم، {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} يفصل بيننا، ويحسم الأمر كله، ليعرفوا النتائج العملية الصعبة التي يواجهونها في موقع الكفر والتمرّد، على أساس إنذارك لهم بالعذاب إذا كفروا وتمردوا، {وَنَجِّنِي وَمَن مَّعِي مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} مما تنزله عليهم من العذاب، واجعلني بمنأى عن ذلك كله.
{فَأَنجَيْناهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} المملوء منهم ومن كل زوجين اثنين مما حدثنا الله عنه في سورة هود، {ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْباقِينَ} الذين كفروا بالله، وتمردوا على رسله، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لاََيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}.
تفسير القرآن