من الآية 123 الى الآية 140
الآيــات
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُون* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وما أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ* أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ* وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ* وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَاتَّقُواْ الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ* أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ* وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ* إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* قَالُواْ سواء علينا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين* إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأولين* وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ* فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ في ذَلِكَ لآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ* وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (123-140).
* * *
معاني المفردات
{رِيعٍ}: بكسر الراء وفتحها: المكان المرتفع، وأيضاً الطريق المنفرج، ويطلق الرَّيع بالفتح على نحو الزَّرع.
{مَصَانِعَ}: المراد بالمصانع هنا: القصور التي لا خير فيها.
{بَطَشْتُمْ }: البطش: العسف قتلاً بالسيف، وضرباً بالسّوط، وهو في صفته تعالى مدح، وفي صفة العبد ذمّ.
* * *
هود مع قومه عاد
وهذه قصة نبي آخر من الأنبياء، قصة هود الذي أرسله الله إلى قومه عاد، وهم من العرب العاربة الأولى الذين كانوا يسكنون الأحقاف من جزيرة العرب، ولهم مدنية راقية وأراضٍ خصبة وديار معمورة، فطغوا وبغوا وتجبّروا وكذبوا الرسل، فأهلكهم الله بالريح العقيم وخرب ديارهم وعفا آثارهم.
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلاَ تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ* وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} إنه المنطق نفسه الذي جاء به نوح لقومه في الدعوة إلى الإيمان من موقع التقوى الذي يقود الإنسان إلى التفكير في كل ما يعرض عليه من أفكار وآراء، ولا بد له من أن يخاف الابتعاد عن الحق إذا أنكرها من خلال الإِهمال واللاّمبالاة والهروب من مواجهتها بالفكر الواعي المسؤول، فيقع في النتائج الصعبة التي يواجهها كل من أنكر الحق والتزم الباطل، بإرادةٍ أو بإهمال، ثم الإعلان عن الرسالة الأمينة من خلال أمانة الرسول، والدعوة ـ بعد ذلك ـ إلى التقوى في حركة الإيمان وفي حركة الطاعة في ما يمثله ذلك من التزام بربوبية الله لعباده، وقيادة الرسول للأمة، والإعلان عن رفض الأجر المادي الذي قد يفكرون بأنه هاجس الرسول في دعوته، لأن الرسل لا يطلبون الأجر إلا من الله وحده.
وهكذا نستوحي وحدة التوجّه الرسالي لدى الأنبياء في خط الدعوة إلى الله، ووحدة الأجواء التي كانت تهيمن على أممهم، مما لا يدفع إلى تغيير التفاصيل في الطروحات العامة إلا بمقدار ضئيل.
{أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ} حيث كانوا يقومون بالبناء على رؤوس الجبال، {آيَةً تَعْبَثُونَ} لأن ذلك لم يكن عن هدفٍ معقولٍ، وحاجةٍ ملحّةٍ، بل كانت المسألة استعراضاً ولهواً واتباعاً للمزاج الذاتي الذي يبحث عن الزهو في الشكل دلالة على الرفعة والقوّة، ما يجعل من القضية قضية عبث يمارسونه في ما يبنونه، وليست قضية حاجةٍ في ما يحتاجونه، {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} وهي ـ كما قيل ـ الحصون المنيعة والقصور المشيّدة والأبنية العالية التي تمثل الثبات والدوام لقوتها وصلابتها وامتناعها عن الاهتزاز والخلل والسقوط {لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} إذ يخيّل إليكم أن خلود البناء وتمرّده عن السقوط، يؤدّي إلى خلود الإنسان الذي يقيم فيه، أو أن خلوده يوحي بامتداد الذكر الخالد في التاريخ أو ما أشبه ذلك.
{وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} في استعراض القوّة الجسدية والماديّة، والطغيان في استعمال وسائلها بالتعسف والقسوة والظلم للناس من خلال العقلية المتجبّرة المتحركة في مواقع الاستعلاء الذاتي على الناس، تماماً كما هم الجبارون الذين لا يعيشون إنسانية الإنسان في حياتهم، بل يتقمصون شخصية الوحش في واقعهم، فإذا بطشتم بالناس الذين هم أضعف منكم، فإنكم تبطشون بطش الجبارين الذين يبغون في الأرض بغير الحق، فيستغلّون قوتهم لإضعاف الآخرين لا لمجرد الدفاع عن أنفسهم؛ ولا يتوقفون عند حدٍّ معين، بل يتجاوزون كل الحدود المعقولة التي يتبعها الناس في أمثال ذلك.
{فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وراقبوه في كل أموركم، فإذا كنتم أقوياء، فإن الله هو الأقوى، وإذا كانت النعم المتوافرة لديكم هي الأساس في سلوككم المنحرف لأنها توحي لكم بالعلّو والرفعة، فإن الله هو الذي أعطاكم ذلك كله، وهو القادر أن يسلبكم كل ذلك، {وَاتَّقُواْ الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ* بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ* وَجَنّاتٍ وَعُيُونٍ} مما تأكلون منه وتشربون وتستمتعون به من حاجات الحياة الذاتية في المال والبنين والشهوات الحسية. فكّروا جيداً بوعي التقوى أن النعمة الوافرة تفرض شكر المنعم، وأن كفرانها يعرّضها للزوال. {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} في الدنيا والآخرة، لأن مالك الدنيا والآخرة هو الله الذي أعطاكم ذلك كله وحملكم مسؤوليته.
{قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الْوَاعِظِينَ} فلن يغيّر من المسألة شيئاً، وهي أننا ماضون في عقيدتنا وعبادتنا للأصنام وعاداتنا وتقاليدنا، فلا قيمة لكلامك، لأنه لن يهز أي شيءٍ من الثوابت التي عمّقناها في ذاتنا مما اعتقدناه واعتدناه وألفناه، فلا مجال للمناقشة والجدل في ذلك كله، {إِنْ هَـذَا إِلاَّ خُلُقُ الاَْوَّلِينَ } الذين نلتزم أخلاقهم من عادات وأفكار وقضايا وأوضاع، لأنهم القاعدة التي ننطلق منها ونرتكز عليها في أعمالنا ومعتقداتنا. فإذا كانوا قد عبدوا الأصنام، فلا بدّ من أن نعبدها.
وربما فسّرها البعض بأن المراد هو الإشارة إلى دعوة هود إلى التوحيد والموعظة، باعتبارها من عادة الأنبياء السابقين عليه، أو البشر الأوّلين الماضين من أهل الأساطير والخرافات، وهذا كقولهم: {إِنْ هَذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الاَْوَّلِينَ} [الأنعام: 25]. والتفسير الأوّل أقرب إلى الفهم من التفسير الثاني، والله العالم.
{وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} لأن الحياة التي نعيش فيها هي نهاية المطاف، فلا بعث بعدها ولا حياة حتى يتحدث المتحدثون، كما تحدّثت، بأن هناك عذاباً على الكفر والضلال {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ} بتكذيبهم وكفرهم وعنادهم، بعد قيام الحجة عليهم من الله، {إِنَّ فِى ذَلِكَ لأَيَةً} لمن اعتبر بما أصاب من قبله من الأمم السالفة، ليتخذها دليلاً على النهج الحق الذي يلتقي برضا الله سبحانه، {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ *وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ } فلن ينتقص كفرهم من عزة الله التي تتحرك في حياة الناس مع الرحمة، فهو العزيز الذي لا يكلّف عباده من موقع ضعف، وهو الرحيم الذي يفتح لهم أبواب رحمته، ولكن الأكثرية منهم تبتعد عن رحمته،فلا بد من أن تلاقي نتائج ذلك في ما يصب عليهم من سياط نقمته.
تفسير القرآن